الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن الطائفية وأزمة العراق وتنبؤات توفلر

قصي الصافي

2014 / 7 / 20
مواضيع وابحاث سياسية


الفوضى الإعلامية التي رافقت تداعيات الأزمة العراقية قد خذلت توقعات المفكر المستقبلي الأميركي الفن توفلر ، وهو يبشرنا بالولوج في عصر الشفافية وسهولة تقصي الحقائق ، وإن انزياحاً في السلطة سيخلي فيه رأس المال مكانه لسلطة المعرفة، وذلك بفضل تكنولوجيا الإنترنت ومشتقاتها.
في الولايات المتحدة وهي من أقدم الديمقراطيات وأكثرها رسوخاً لم تظهر اية مؤشرات لتصدع سلطة رأس المال، فما زالت الشركات الكبرى تمتلك القدرة على التحكم بالمعلومة وتوجيهها لتعبئة الجماهير عبر مؤسسات إعلامية وثقافية عملاقة ، بجانب تمويل الحملات الإنتخابية واللوبيات لضمان التشريعات القانونية الكفيلة بإدامة نفوذها وتجنيبها أية ضوابط أو محددات تعيق ثرائها الفاحش، ولا تحصى الأمثلة في هذا المجال، نذكر منها خفض الضرائب على الشركات بحجة إنعاش الإقتصاد ، إعفائها من ضوابط وإجراءات الحفاظ على البيئة ومكافحة الإحتباس الحراري، تسويف القوانين التي تلزمها بتأمين حقوق العمال في الإضراب والتعويضات والأمومة والتأمين الصحي ...ألخ. أما في الشرق الأوسط فإن هيمنة الرأسمال النفطي على المعلومة ونشرها يثبت عكس ما ذهب إليه توفلر تماماً، فبفضل المال المتدفق من باطن الأرض والمال المكتسب بطرق غير قانونية وعبر الفساد الإداري إمتلأ الفضاء الإعلامي بقنوات التلفزيون والصحف المنفلتة التي لم تذعن إلى أي من المعايير المهنية ولا هم لها سوى الترويج لأجندة الممول ونشر المعلومة الموجهة، وقد أضاف لها الإنترنيت وقنوات التواصل الإجتماعي قدرات جديدة مكنتها من تحويل المتلقي إلى ناشط متحمس لنشر سمومها. إذا كان عصر التلفزيون - كما يقول ماركوزة - قد أنتج الإنسان ذا الوجهة الواحدة بتكريس الثقافة الجماهيرية وكان مسار المعلومة ينتهي بالمشاهد ، فإن الإنترنيت والفيسبوك وغيرها قد أتاح للمعلومة أن تتحرك ضمن مسار أفقي وفي شبكة لا متناهية الخطوط لا يكون فيها المتلقي نقطة النهاية بل يصبح هو نفسه قناة إعلامية ناشطة.
تؤكد الإحصاءات العالمية أن المواطن العربي هو الأبعد عن الكتاب،إلا أن متعة القراءة عل الإنترنت قد جذبت الملايين المهمشة والتي لم يكن لها أي تماس مع الهم الثقافي والسياسي بأي شكلٍ من الأشكال،وقد تبدو هذه الظاهرة منجزاً ايجابياً للتكنولوجيا، لكنها تكشف عن خطورةٍ بالغة إذا ما تأملنا طبيعة القراءة التي تمارسها الحشود. القراءة الجادة قراءة فعلٍ لا إنفعال، فهي تكثر من الأسئلة وتثير الشكوك توسلاً للحقيقة، وهي قراءة منتجة عبر توليد المعنى، وما يجعلها قراءة موضوعية مكابدتها للتجرد قدر الإمكان من قبلياتها الايدولوجية والطائفية والقومية، فالفكرة حسب المفكر علي حرب ليست توصيفاً للحقيقة على اعتبارها موضوعاً خارجياً مستقلاً بل هي توصيفٌ للعلاقة بين الحقيقة والذات بكل نزعاتها ورغباتها و ايمانياتها التأريخية والأيدولوجية. أما قراءة الحشود التي نحن بصددها ففي معظمها قراءة منفعلة لا فاعلة، قراءة لاهوتية لا تهدف إلا لتثبيت وتسويغ حقائقها مسبقة الصنع، وهي قراءة كسولة تعفي صاحبها من عناء السؤال والبحث، وتدور في فلك ثوابتها الطائفية والعرقية فلا تفضي إلا لمزيدٍ من الفرقة والكراهية.
إذا كانت الكراهية بين الأفراد تتلاشى بالتواصل ومحاولة ايجاد صيغة من التشارك الوجداني والإنساني، فأمر الكراهية الطائفية مختلف تماماً، فهي ليست ضد أفراد حقيقيين بل ضد شخوص افتراضين يحشرهم الطائفي _ رغم التمايز في طموحاتهم ورؤاهم الفكرية _ في قالب واحد يتمثل بالصورة الذهنية القابعة في رأسه عن الآخر ، والتي يغذيها باستعاراته التأريخية والاسطورية والقصص المفبركة.
الطائفية لا ترتكز إلى رؤية فكرية يمكن تفنيدها أو ترويضها بالحوار والمحاججة ، بل هي مجموعة من الهواجس والعصاب النفسي، مما يجعل الخطاب الرومانسي والوعظي بأهمية تآلف القلوب والمحبة خطاباً ليس ذا قيمة. الطائفية كأي مرض شديد العدوى بحاجة إلى لقاحات مناعية منذ الصغر، وقد بلغ في العراق ذروته حتى أن بعض المثقفين العلمانيين قد إنهارت قواهم المناعية ضد فايرساته الفعالة بشكل فاضح رغم الأساليب المخادعة لإخفاء انحيازاتهم اللاعقلانية تجاه الطائفة الأخرى.
مكافحة الطائفية وآثارها المدمرة بحاجة إلى مشروع بنائي طويل المدى تتخلله خطط عقلانية على عدة محاور سياسية وثقافية تربوية إضافة إلى إعادة هيكلة وتطوير البنية الافتصادية ، ويبدو أن الشروع بمشروع كهذا سيبقى مؤجلاً إلى حين تبلور الوعي الشعبي بما يضمن صعود قوى مدنية وطنية حقيقية قادرة على إنجازه، فمن غير المعقول أن يردم أمراء الطوائف من القيادات الحالية بيدهم المنهل الذي يغترفون منه الدعم الشعبوي والذي يضمن ادامة نفوذهم السياسي والتغطية على فسادهم الإداري.
إذا كان إحتلال ثلث البلاد من قبل داعش الإرهابية وحلفائها الحالمين بعودة البعث الفاشي للسلطة لايمثل صدمةً تستفز بقايا المشاعر الوطنية لدى أمراء الطوائف، فمن الواضح أن ردود أفعالهم مرهونة بما يهدد منافعهم الشخصية والفئوية الضيقة فقط، ولذا فلا أمل لنا إلا بإدراكهم حقيقة أن ضياع العراق سيهدد مصالحهم ويجفف منابع ثرائهم أيضاً، ومن غير المعقول أن يتركوا بقرتهم الحلوب تحتضر. وبما أن بقرتهم الحلوب هي وطنٌ لنا أيضاً ، فقد حق عليهم الإصغاء إلينا. عليهم أن يدركوا أن تقاسم المناصب بتغيير أسماء اللاعبين والإبقاء على قواعد اللعبة كما هي لن يفضي إلى حل للأزمة، بل ينبغي إجراء مراجعة شاملة للعملية السياسية منذ بداياتها الأولى . إذا افترضنا حسن النية في قرار بريمر بإرساء العملية السياسية على أساس تقاسم السلطة بين المكونات بغية إحداث توازن قوى يقود إلى سلام أهلي، فتجارب السنوات الماضية قد اثبتت اننا نمضي إلى الهاوية. لقد تفاقم الصراع الطائفي بين طائفةٍ لم يشف قادتها من عقدة الثأر لمظلوميتهم التأريخية وطائفةٍ لم يصح قادتها من كابوس خسارتهم للإمتياز التأريخي بالتفرد بالسلطة، وقد تماديا في خطابهما الطائفي وإثارة هواجس ومخاوف أبناء الطائفة لحصد الأصوات وتعزيز نفوذهم وتقوية مواقعهم التفاوضية لعقد الصفقات فيما بينهم، وقد كانت في أغلبها صفقات فساد وحيازة مناصب، وقد إكتسب الجهل وإنعدام الكفاءة مشروعية إنتخابية بالتصويت على أساس الطائفية والقومية لا الكفاءة والنزاهة. تلك كانت وصفة تخريبية لهدم الدولة بدلاً من بنائها، مما أطلق يد المليشيات والمنظمات الإرهابية المرتبطة بدول وجدت في العراق ساحةً مثالية لتصفية صراعاتها ، ولم يتردد أمراء الطوائف بالتعاون معها سراً وعلانية للإستقواء على بعضهم البعض. وصفة الخراب تلك باتت واضحة لكل ذي نظر، لكني استعيد سردها وسط حمى الإتهامات المتبادلة بين قادة المكونات وكل منهم يلوح بشهادة براءة مزورة تعفيه من تحمل اية مسؤولية في صناعة المشهد التراجيدي الذي وضعتنا فيه سياساتهم.

صعود المالكي لرئاسة الوزراء بشخصيته المصابة بالبرانويا والتزمت ونزعة التفرد كان مدخلاً لعهد الأزمات المستعصية، وللرجل قدرة على تحويل كل أزمة يزج فيها البلاد إلى حملة تعبوية لكسب المؤيدين من أبناء طائفته باستثارة هواجسهم ومخاوفهم من عودة البعث ، والمفارقة المحزنة أن فترة حكمه قد انعشت حلم البعثيين بالعودة إلى السلطة، وفي فترة حكمه أيضاً لم يجن أبناء طائفته سوى الفقر المدقع والإذلال والموت بالمفخخات والعمليات الإرهابية. تحولت على يديه أهم ملفات الدولة كالفساد والإرهاب والاجتثاث إلى أوراق ضاغطة، فقد تكدست الملفات في أدراج مكتبه كما صرح مراراً لا لتأخذ مساراتها القانونية بل لإبتزاز معارضيه وادامة ولاء مؤيديه عبر صفقات باتت معروفة حتى لبسطاء الناس، وبنهجه هذا تعززت سلطته على حساب مأسسة الدولة، وليس أكثر جلاءً من إنهيار مؤسسة الجيش الذي بني على الفساد والرشاوي والمحسوبية، وتعددت فيه الولاءات والتي ليس من بينها الولاء للوطن، ومن اللامعقول في السياسة العراقية أن مؤيدي وكتبة المالكي يخرجون المالكي من دائرة المسؤولية ويتحدثون عن خيانات وتواطؤ قادة الجيش، علماً أنه هو الذي تفرد في إختيارهم ولم يمر تعيين أي منهم على البرلمان ضمن الأصول القانونية، كما أنه تسنم قيادة كل المؤسسات الأمنية بالوكالة وصرف أموالاً طائلة في بنائها. أما ملف المصالحة الوطنية فما برح يردد على أسماعنا أن العقوبات سوف لن تطال إلا من تلطخت أياديهم بالدم ، إلا أن ماشهدناه كان عكس ذلك تماماً ، فقد كانت مصالحة صفقات فوقية مع قادة بعثيين ورؤساء عشائر بدل التصالح مع بسطاء ألسنة وتبديد مخاوفهم من العملية السياسية والثارات الطائفية . إعتبار بسطاء السنة متهمين حتى تثبت براءتهم وتعرضهم للاعتقالات العشوائية والإذلال والإهانة قد خلق مناخاً مثالياً لنشاطات الإرهاب والأطراف المعادية للعملية السياسية.
تلك الإتهامات وغيرها لسياسات المالكي لم يتوقف عن ترديدها قادة السنة لتبرئة دورهم في صناعة المشهد المأساوي، وقد كانت سياسات المالكي فرصةً لتدعيم خطابهم التحريضي لجماهيرهم واستثارة عقد الكراهية الطائفية بالتنسيق مع مرجعيات دينية متطرفة وجهات معادية للعملية السياسية، علماً أن وزاراتهم وإداراتهم للمؤسسات في مناطقهم لا تقل فساداً ومحسوبيات مما أفقر جماهيرهم وزاد من معاناتهم ونقمتهم على العملية السياسية. لقد بات واضحاً أن قادة السنة لم يحسموا تماماً موقفهم من العملية السياسية ، فهم معها بما تدر عليهم من مناصب ومغانم، وهم ضدها كلما لاح في الأفق حلم الإنقلاب عليها وعودة الدكتاتورية. أما القيادة الكردية فقد ركزت في مشاركتها السياسية على إحراز مكاسب قومية وتعزيز حقوق الشعب الكردي وهي حقوق مشروعة بما فيها حق الإنفصال ، على أن يكون نهجها مؤطراً بمحددات أخلاقية ونية صادقة في تطوير العملية الديمقراطية في العراق ككل، غير أن القيادة الكردية استعذبت طريق المحاصصة بتخليها عن حلفائها التأريخيين المناصرين الحقيقيين للقضية الكردية من القوى المدنية وفضلت اللعب على صراعات القوى الطائفية لعقد صفقات غير مضمونة بدأت بإتفاق اربيل مع المالكي والذي لم تزل بعض بنوده خافية عن الشعب وانتهت بضيافة مؤتمر مشبوه لقوى ساندت الإرهاب علناً وكشفت عن اهدافها لإسقاط العملية السياسية.
قول الحقيقة كاملة قد يغضب الكثيرين وسط الهرج الإعلامي الذي يلهج بأنصاف الحقائق ويوغل في الشحن الطائفي والقومي حتى نثوب إلى رشدنا يوماً ما.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - المشاكل سماد لديمومة الفاشلين!
حميد كركوكي {صيادي} ( 2014 / 7 / 20 - 13:20 )
حقيقة و حزينة ،، الفاشلون يعشقون المشاكل والحروب، صدام،حماس، الإخوان، داعش إيران ، إسرائيل ،،،الخ ،،إنها سماد الأرضية وديمومة حياتهم.. شكرا جزيلا


2 - قصي الصافي
علي حبيب ( 2014 / 7 / 21 - 13:05 )
إن اخزى اشكال الحكم هو الارتهان إلى الذات المريضة ، فإذا كانت مصابة بالبارانويا فهي مصيبة كبيرة ، فضلاً عن إننا نعرفأن هناك ارتهان آخر للحكم القائم ، هو ارتهان الضعيف للمحسن السابق ( ايران - سوريا ) وهو ارتهان شخصي ، لكنه وضع مصير البلد بيد التحكمات الخارجية

اخر الافلام

.. بوتين يتعهد بمواصلة العمل على عالم متعدد الأقطاب.. فما واقعي


.. ترامب قد يواجه عقوبة السجن بسبب انتهاكات قضائية | #أميركا_ال




.. استطلاع للرأي يكشف أن معظم الطلاب لا يكترثون للاحتجاجات على 


.. قبول حماس بصفقة التبادل يحرج نتنياهو أمام الإسرائيليين والمج




.. البيت الأبيض يبدي تفاؤلا بشأن إمكانية تضييق الفجوات بين حماس