الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أبو السبع

وليد الحلبي

2014 / 7 / 23
الادب والفن


متبختراً يسير بين صفوف الأدراج المغلقة ، في يدٍ سيجارة يوسع بدخانها رئتيه ، وفي الأخرى كأس من الشاي الغامق يعدل بها دماغه التي أرهقها عمل نهار طويل . كان يوماً شاقاً استقبل خلاله ، وعلى فترات متقاربة ، عدداً كبيراً من أبناء البلدة ، وهو – وإن لم يكن يشعر بالسرور لرؤية زوار هذا اليوم لأنه يعرف معظمهم معرفة شخصية – إلا أن شعوراً بالزهو يغمره لأنه الوحيد في البلدة القادر على القيام بهذا العمل منذ سنوات ، منذ بدء الانتفاضة الأولى ، ثم اغتيالها بيد أهلها ، إلى قيام الانتفاضة الحالية ومحاولات تصفيتها بيد أصدقائها. ببطء ينقل بصره في أرجاء القاعة الواسعة من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال ، ثم يبدأ في عَدِّ الأدراج :عموداً واحداً من الأعلى إلى الأسفل ، ثم صفاً واحداً من اليمين إلى الشمال ، حاصل الضرب سيكون العدد الكلي للأدراج ، أحياناً كان يتصور أنه ربما أخطأ في عملية العد ، فيعود ليكررها مرة ثانية ، وعندما يحصل على ناتج ضرب مرضٍ كان يردد ( ما شاء الله ) مع أنه يدرك يقيناً أن هذه ( المشألة ) تصلح في أي مكان إلا هنا ، في هذا المكان ، ولئلا يضطر إلى تكرار عملية العد في كل مرة تزوده فيها إدارة المستشفى بأدراج جديدة تلبية لحفظ العدد المتزايد من الموتى ، فقد قرر ترقيم الأدراج باستخدام قلمٍ خطاطٍ عريض الشفة .

يد بدايات الشتاء تدق أبواب البلدة برفق ، ، هبة ريح ناعمة تهز باب القاعة فيتجه على مهل لإغلاقه ، لكن حنان الدفء القادم من الداخل ، ونعومة البرودة الزاحفة من الخارج ، يغريانه بوضع كرسي صغير قرب الباب ليستريح عليه . انتبه إلى عتبة الباب ، ، لاحظ أنها تشكل الخط الفاصل بين عالمين متناقضين : عالم الأموات داخل القاعة ، وعالم الأحياء خارجه ، ولكي يكون عادلاً بين هذين العالمين ، كان عليه أن يضع كرسيه الصغير فوق خط العتبة تماماً : قائمتان خارج الباب والقائمتان الأخريان داخل القاعة . جلس مستشعراً غبطة كبيرة ، وأحس بأن رأسه بدأت تنضح فلسفة وحكمة : نظر إلى قدميه فرأى اليمنى خارج القاعة واليسرى داخلها ، فاطمأن إلى إنه يقبع الآن بين عالمين يشعر بينهما بالحياد ، فمن أين له بالدموع لو بكى على كل شهيد أتي ليستريح في أحد أدراج ثلاجة الموتى قبل بدء رحلته الأخيرة ، ومن أين تأتيه البسمات إن كانت رائحة الموت والحزن تعبث في كل البيوت والأزقة والساحات ، لذا فقد قرر منذ زمن ألا يبكي وألا يبتسم ، أن يكون محايداً - أو متظاهراً بالحياد - في مشاعره ، وجلوسُه فوق كرسي تجثم قوائمه الأربعة مناصفة بين عالمي الحياة والموت هو خير تجسيد لما وقر في نفسه .

سيجارة ثانية وكأس أخرى من الشاي لن تضرا في هذه الأمسية المتأخرة ، ، ، وترتفع نفثات الدخان ، ، تتوالى رشفات الشاي على صوت أغنيات قادمة همساً من مذياع قديم ، وعندما كانت تدهمه لحظات طرب وفرح ، كان ينظر إلى الداخل فيصطدم نظره بأدراج ثلاجة الموتى، فيتوقف عن الفرح، وعندما يستشعر يأساً وكمداً ، كان يدير وجهه إلى الخارج فيرى الأمل مرتسماً على وجوه فتية تضج بالحياة وجناتهم ، يمرون مسرعين أمام الباب خوفاً من رؤية ما لا يرغبون رؤيته ، فيتوقف عن الحزن، ويرتدُّ إلى حياده الذي صمم على التزامه ، تماماً كموقع الكرسي الذي يجلس عليه الآن .

أسلوب تعاملِ الناس معه كان يقوده إلى تكريس مبدأ الحياد : عندما كانوا يأتونه بجثة شهيد ، كان يتولى أمره منذ دخولهم من الباب : يتوقف برهة ليستذكر أي الأدراج هو الفارغ ، ثم يحمل الجثة بمساعدة الآخرين موسِّداً إياها برفق ، مغطياً الوجه بجزء من الكفن ، معيداً إغلاق الدرج بإحكام حفاظاً على درجة حرارته المنخفضة ، وبصوت جهوري كان يطلب من الجميع سرعة المغادرة بعد أن يعطيهم رقم الدرج الذي أودع شهيدهم فيه ، ففي هذه القاعة يتحول الشهداء إلى أرقام . . . مجرد أرقام . كان يستجلي في عيون الناس ووجوههم توقيراً واحتراماً لما يقوم به من عمل يعجز معظمهم عن القيام به ، حتى أنهم لقبوه ومنذ زمن ( أبو السبع ) والذي حل بسرعة مكان اسمه الحقيقي ( عبد الرحمن ) ، إِذ مَن غير أبو السبع يستطيع التعامل مع جثث الموتى ، ، يأكل بقربهم ، ، ينام معهم ، ، ، بل ويقلبهم أمام ذويهم ذات اليمين وذات الشمال ، ، في نظر الناس كان يقوم بما لا يمكن أن يقوم به سوى الجبابرة ، ، أمام أدراج الموتى كان الناس يعتبرونه أفضل منهم ، يشعرون أنه أقدر على القيام بما يعجزون عنه ، يأتمنونه على شهدائهم ، وتوصيه الأمهات الثكالى والزوجات الأرامل أن يترفق بأحبائهم ، ، أن يفتح الأدراج ويغلقها بهدوء حتى لا يعكر على الأموات صفو صمتهم ، وأن يحرص على استمرار التيار الكهربائي حفاظاً على الجثث من التعفن – رغم قناعتهم أن أجساد الشهداء لا تتعفن - ، أما خارج الثلاجة فقد كانوا يرهبونه – خاصة الصغار منهم - ، بل ويترددون في مصافحته إن هم رأوه في السوق عند خباز أو بقال ، ، كانوا يتحاشونه كما لو أنهم تبرأوا منه ، وهذا ما عزز في نفسه الفلسفة الحيادية ، وهاهو الآن محايدٌ ، يجلس مرتاحاً فوق كرسيه بين العالَمين : قدم في الدنيا وقدم في الآخرة .

استشعر في نفسه عظمة ورفعة لم تخطر له على بال من قبل ، فرغم أن والده كان قد توفي دون أن يتمكن من تحقيق حلمه بالعمل ولو حارساً ليلياً في هذه المستشفى ، فقد استطاع هو أن يترقى من مجرد موظف صغير في قسم الاستقبال ، إلى مساعدٍ في قسم التشريح ، إلى مديرٍ لثلاجة الموتى ، أليست هده قفزات عجز عن إنجازها حتى أكثر موظفي المستشفى علماً وكفاءة مع أنه لم يحصل إلا على مستوى التعليم الابتدائي ؟ . أيقظه من تأملاته صوت أنين قادم من الداخل ، تشكك في ما سمعه ، غير أن الأنين عاود الانسياب ثانية بشكل أوضح . نفس الشيء حدث منذ شهرين ، يومها سارع إلى الدرج الذي صدر منه الأنين ، فتحه على عجل ، أزاح طرف الكفن عن الوجه ، فوجد عينين ترمشان ، وشفتين تحاولان الحراك تشبثاً بالحياة ، ، يومها أسرع في أخذ المسكين إلى غرفة الإنعاش ، وما لبث أهل العائد من الموت أن علموا بالأمر فأسرعوا إلى المستشفى ، غير أن فرحتم بابنهم لم تكتمل حيث فارق الحياة بعد دقائق من حضورهم ، فكان الفراق فراقين والحزن حزنين والمأتم مأتمين ، فكيف له أن يكرر مثل تلك المأساة الآن ، ، بقسوة تامة يتجاهل ( أبو السبع ) الأنين القادم من أحد الأدراج – دون أن يكلف نفسه مشقة معرفة رقم الدرج مصدر الصوت - مكتفياً بنصح صاحب الأنين أن يمعن في الموت ، ببساطة ، ( لأن هذا أحسن للجميع ) ، وبدأ الأنين بالتلاشي رويداً رويداً .

كل هذا كوم ، وأن تبلغه إدارة المستشفى قرار نقله إلى قسم المشتريات كوم آخر ، ، بعد كل هذا التوازن الذي توصل إليه بين عالمي الحياة والموت ، وبعد كل هذه الجرأة التي أبداها في التعامل مع جثث لا حصر لها مرت بين يديه ، وهذا اللقب الذي منحه إياه أبناء بلدته (أبو السبع ) ، بعد كل هذا يأتي قرار الإدارة بنقله إلى قسم المشتريات ، هل هي مزحة من الإدارة أم هو الأمر الواقع يصفعونه به بحجة المصلحة العامة ؟ ، ( وأين هي المصلحة العامة في حرمان الأموات من رعايتي وحرماني من هدوئهم ، ومن ذا الذي سيقدر على التأقلم مع هذا الوضع والجلوس محايداً ، تماماً على الخط الفاصل بين الحياة والموت ، كما أفعل أنا ؟).
الآن خمد تماماً الأنين القادم من الدرج ، ، فهدأت نفس أبو السبع ، وقام ليملأ كأس الشاي للمرة العاشرة ، وليشعل سيجارة للمرة العشرين ، ، الفجر يشارف على البزوغ وأبو السبع مازال يفكر في كيفية مواجهة إدارة المستشفى فيما يتعلق بقرار نقله من الثلاجة : لن ينام هذه الليلة بل سينتظر بداية الدوام ، ، عندما يصل المدير سوف يطرق باب مكتبه فوراً ، ثم سوف يشرح له موقفه من قرار النقل ( يسحب نفساً من السيجارة ) ، ، إذا تراجع المدير عن قراره فسوف يشكره بل وسيقبل جبينه ، أما إذا أصم أذنيه وصمم على القرار ( يأخذ رشفة من الشاي ) ، فسوف يضرب بقبضته على سطح مكتبه حتى ترتفع كل الأشياء التي عليه في الهواء ، ربما فزع المدير فتراجع عن قراره ، وربما أصر عليه ، عندها سيتخلى عن حياده الذي أنفق جُلَّ عمره في بنائه ، وسيقذف في وجه المدير كتاب استقالته من العمل ، وسيغادر المكتب عائداً إلى عالم الأحياء ، ، ربما كان الخيار الأخير هذا قاسياً على القلب ، غير أنه أمر لابد منه ، فهو أفضل من العمل في قسم المشتريات ، حيث سيستمر في رؤية غرفة الموتى من بعيد دون أن يتمكن من دخولها ، وهدا ما لن يرضيه أو يرضى به الأموات ، ، هنا راق له أن يتخيل مظاهرة يخرج فيها عشرات الشهداء من أدراجهم ملتحفين أكفانهم ، حاملينه على أكتافهم ، متوجهين به إلى مكتب المدير مطالبين ببقاء حبيبهم ( أبو السبع ) في موقعه ، وإلا فسوف يأخذونه معهم ، ، ترتاح نفسُه لرؤية نفسِه على أكتاف الشهداء ، ويشعر أن حياده قد وصل إلى طريق مسدود ، فيتمنى أن يرفض المدير طلبه لكي يذهب مع أصدقائه - أشرفِ الناس - بدل الذهاب إلى قسم المشتريات الشهير بالسرقات والمال الحرام . فجأة يتوقف ذهنه عن التخيل ، ويحس بضيق في صدره ، فيغبُّ نفساً عميقاً من السيجارة ، ويأخذ رشفة أخيرة من كأس الشاي .
في الصباح الباكر جاؤوا ونزعوا من يده بقايا السيجارة التي أحرقت جلد إصبعي السبابة والوسطى ، ، أخذوا كأس الشاي الفارغة من اليد الأخرى ، ، قذفوا الكرسي المحايد داخل القاعة ، وبينما ضج المكان بأصوات همهمات تتعالى من جميع الأدراج المغلقة ، وضعوا جثة أبي السبع في الدرج المجاور لذاك الذي انساب منه الأنين الخافت في الليلة الماضية .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا