الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مرض منتصف الليل. سر الإبداع!

نوال السعداوي
(Nawal El Saadawi)

2014 / 7 / 23
مواضيع وابحاث سياسية


فى منتصف الليل نهب من النوم، لأسباب مختلفة: المغص الكلوي، الألم المبرح لمنظر الدماء، القتل والغدر بالداخل والخارج؟ امرأة تتفحص الجثث وتصرخ ابني؟ رجل أعمال مضارب بالبورصة يفقد المليار. ويصرخ، الأب العائل الوحيد للأسرة يساق للسجن، والأم المعيلة بائعة الجرجير تقتلها سيارة بالطريق، والأخ أو الأخت تصاب بالسرطان أو الزهايمر.
وبعض الناس تهب منتصف الليل بوجع آخر، يشبه ألم المخاض قبل الولادة، لا تعرفه إلا الأمهات والكاتبات والكتاب المبدعون. وكان الإبداع يحمل أسماء مختلفة: الهوس، الهذيان، الجنون، أو مرض منتصف الليل، بلغة الأطباء المتخصصين فى الأمراض العصبية والنفسية.
لم أدخل فى حياتى مكتب وزير الثقافة، بالبديهة أو ما يسمى الحدس أو الحاسة السادسة أو بقرون الاستشعار. وقد أدركت أن الثقافة الحقيقية مثل الحب والإبداع والتمرد والثورة كلها لا تخضع لتوجيهات السيد الوزير أو السيد الرئيس أو الجهات العليا، فلا شيء يعلو على العقل الإنسانى المبدع للأفكار الجديدة العظيمة التى تغير عقول الناس وحياتهم وأخلاقهم وسلوكهم الى الأفضل والأعدل والأكثر حرية وجمالا.
ربما نحتاج وزارة للتجارة، من أجل التحكم فى جشع التجار الغريزى وشهوتهم اللا محدودة للربح والمضاربات، وبشرط أن يكون وزير التجارة والعاملون معه من غير التجار ومن غير عاشقى حرية السوق، وقد نحتاج لوزارة الصحة من أجل التحكم فى جشع الأطباء وتعطشهم للدم، وبشرط ان يكون وزير الصحة والعاملون معه من غير الأطباء أو الحانوتية والجزارين. ولسوء حظى أصبحت طبيبة بشرية، واضطررت للعمل ثلاثة عشر عاما مع خمسة أو ستة من وزراء الصحة، انتهت باستقالة من سطر واحد كالآتي: صحة الناس ربما تتحسن لو ألغيت وزارة الصحة.
الشعب المصرى ليس الشعب الوحيد المنكوب بحكوماته ووزاراته، فالمشكلة عالمية، لها جذورها التاريخية فى الحضارة الطبقية الأبوية التى بدأت بفكرة معادية للعقل تقول ان المعرفة خطيئة، وتمت إدانة المرأة المبدعة لأنها قطفت الثمرة المحرمة،
ورثت وزارات الثقافة فى بلادنا (والعالم) هذه الفكرة المعكوسة المدمرة للبديهة، فالمعرفة فضيلة الفضائل، كلما تزود العقل بالمعرفة ازداد إبداعا. وكلما اقترن الإبداع بالحرية ازداد جمالا ومعرفة، وهل يمكن لعصفورة مخنوقة بحبل أن تغرد بصوت عذب؟ وهل يمكن لطفل مذعور بالضرب التعبير عن نفسه بصدق؟
لم تطأ قدمى مكاتب وزارة الثقافة فى حى الزمالك بالقاهرة، ونالنى منها الكثير من الأذى والقمع والمنع والحرمان من الجوائز والمناصب فى المجالس الثقافية الرفيعة المستوي، وأهم من ذلك مصادرة كتاباتى التى دمغت بوصمة المعرفة، أو عدم الخضوع لقائمة الممنوعات والتوجيهات العليا.
فى سنوات المنفى شغلت نفسى بتدريس الإبداع والتمرد والكتابة، فالمرأة المقهورة لا تتمرد إلا بعد أن يدركها الوعى بأسباب القهر المصنوع بالبشر وليس بالطبيعة أو الإله يهوه، أول من أدان المعرفة فى التاريخ، تبدأ المرأة فى التمرد مع ازدياد وعيها، الذى يقودها الى الإبداع والتمرد والثورة لاقتلاع أسباب القهر، من المجتمع والدولة والدين والعائلة والبيئة والعقل ذاته. ولهذا تعمل الحكومات ووزاراتها الثقافية والإعلامية على إقصاء الكاتبات المبدعات والكتاب المبدعين عن جميع المجالات ذات التأثير على عقول الجماهير.
فى مكتب وزير الثقافة ووزير الإعلام (والصحة أيضا والداخلية والشئون الاجتماعية) توجد دائما قائمة بأسماء الممنوعين والممنوعات من دخول الجنة، وكان اسمى ضمن هذه الأسماء فى جميع العهود والحكومات، قبل وبعد الثورات. حاولت إقناع بعض العقول، القريبة من مراكز اتخاذ القرارات، لإنشاء قسم لتدريس الابداع والكتابة والتمرد فى كلية الآداب أو أى كلية بأى جامعة مصرية، دون جدوي. كلمة تمرد كانت سلبية حتى بدأت حركة شبابية تحمل اسمها، تظهر حينا وتختفى أحيانا، حسب مواسم الانتخابات، وهى حركة سياسية أكثر منها ثقافية الإبداع، خاصة الكتابة المبدعة لا تنال العناية ولا التشجيع المطلوب لمقاومة الإرهاب الفكرى الذى يقود للسلوك الإرهابي.
الكتابة، أهم الإبداعات الإنسانية فى التاريخ، وليس البورصة أو السوق، من الكائنات الحية جميعا لا يكتب إلا الإنسان، لا أحد من الناس لا يهب فى منتصف الليل بفكرة مفزعة، والأفكار المبدعة مفزعة بالضرورة. وأغلب الأطفال، بنات وأولاد، يحتفظون بمفكرة تحت الوسادة، يسجلون فيها أفكارهم ومشاعرهم، لا يفصلون بين التفكير والشعور، ولا بين الجسد والعقل وهنا سر الابداع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مرض منتصف الليل
ناس حدهوم أحمد ( 2014 / 7 / 23 - 17:50 )
يقول أندريه بريتون
إنه التمرد بعينه
التمرد فقط هو الذي يخلق النور

يقول روجيه غارودي في هذا السياق
كل شيء يبدأ بالنفي والتمرد

ويقول هولدرلن أيضا لنفس الغاية
ما قصه عليكم فم أبيكم وما علم من قوانين وعادات وأسماء آلهة
قديمة إنسوه بشجاعة وارفعوا كالمواليد بصركم نحو الطبيعة المقدسة
إن الإبداع إذا لم يكن تمردا وخلقا جديدا لا يمكن أن نسميه إبداعا
والعرب تراثهم يمنعهم عن الإبداع ويسميه ضلالة
كل بدعة ضلالة
هكذا يقول الدين ويصر على أن لا يكون في الحياة جديدا
في حين الوجود برمته يتغير ويتطور عبر عملية إبداعية شبيهة بمرض منتصف الليل
فنحن أحيانا نكون في الفراش طلبا للنوم وفجأة تنتصب واقفا لتسجل شيئا ما وتلتقط القلم قبل أن يفلت منك
وأحيانا تنسى نفسك وتكتب بلا قلم وأنت سائر في الطريق أو راكبا حافلة لا تعي بتاتا شيئا مما حولك فقط مشغولا بما هو في داخلك يحاورك ويملي عليك فكرة بسيطة ومتوحشة تسمى الإبداع

اخر الافلام

.. لحظة سقوط صاروخ أطلق من جنوب لبنان في محيط مستوطنة بنيامين ق


.. إعلام سوري: هجوم عنيف بطائرات مسيرة انتحارية على قاعدة للقوا




.. أبرز قادة حزب الله اللبناني الذين اغتالتهم إسرائيل


.. ما موقف محور المقاومة الذي تقوده إيران من المشهد التصعيدي في




.. فيما لم ترد طهران على اغتيال هنية.. هل سترد إيران على مقتل ن