الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشعر العربي المعاصر بين الوطن و المنفى

محمد عبد الرحمن يونس

2005 / 8 / 6
الادب والفن


الحزن و الغربة والترحال هي المواويل الحزينة الشفيفة التي يعزفها الشاعر محمد جابر النبهان في مجموعته الجديدة "غربة أخرى" الصادرة بطبعتها الأولى في عام 2004م، وهي تتمحور في جميع قصائد المجموعة، إذ يعمل الخطاب الشعري على استحضارها واستنفارها، واستنفار أبعادها الدالة من خلال لغة شعرية رومانسية حزينة تتوزّع على ست عشرة قصيدة قصيرة، إذ يغدو الترحال فيها غواية وهاجسا، وحالا من الهجر، والابتعاد عن المكان المركز ـ الوطن ، بكل همومه وأحزانه وتشكّلاته ومآسيه: يقول في قصيدة بعنوان: "من فرط الرحلة":

" تغوينا الصحراء
بأن نحزم قلبا يندفه الهجر
ونرحل أبعد في عبث الصحراء". ص 21

وتتجذر الغربة قوية في الذات الشاعرة، وتتداخل ذكريات الطفولة الأولى والوجد مع ذكريات الوطن والأب والأم، وأسرار العائلة بأبعادها ومرجعياتها الصوفيّة، وأسرارها:
"بين الطين وثلج الغربة...
أمي كانت تدعو بالستر
أبي صلّى نافلة
تعويذة حفظ خطّ أخي
ليدسّ السرّ الصوفيّ صديق
أتذكر..
أتذكر..
أتذكر حدّ الإغفاء " . ص 23

وعندما تعصف الغربة في خبايا الروح، وتعشعش فيها سكنا وموطنا، يشتعل الحنين إلى وطن الذكريات والصبا والنخيل وظلّ البحر، وذكريات الأصحاب والخلان، وإذا ما انفض الساهرون والأصحاب من مجالس الوطن/ المنفى، وخيّم ليل الغربة، فإنّ حنينا يتأجج عاصفا ببقايا الروح، مقتلعا، حاملا لها إلى الوطن الأصل ـ المركز، وطن النخيل والأصدقاء:
يقول في قصيدة بعنوان: "حين تكتمل القصيدة":
"صمتا..
وأطفئت الإنارة
عدت وحدك، والحضور تفرّقوا
قدماك فوق الثلج
عارٍ، حين تصرخ في الغريبة
من مدى الشرقيّ
أن تصحو مشردا في الصباح.

سيجارة أخرى
ويشتعل الحنين لنخلة
للبحر
للأصحاب؟
تجرفك الرياح". ص 25

وعندما يشتعل الحنين فإن سكينا يقف على حافة القلب، وتهوّم جراح الغربة لجوجة، وتهرب الذاكرة الشعرية إلى الوطن ـ البلاد المركز، حيث تحضر فوانيس الوطن بألقها البهيّ، والشبابيك القديمة ـ موطن الوجد والأحلام والمنى الجميلة المشعّة بمواويل الأناشيد، أناشيد الأهل والأحبّة :
" من نومه الطينيّ يصحو في الهجيرة
بعض حلم
كلّما قلت التقيتكِ
هوّم الجرح اللجوج
انحلّ وجه بعد وجه في الغريبة
ريثما انحلّ الندامى.
شرقا ...
وهرّبني الحنين إلى ديار
لم أزل اشتاق للشباك
للباب القديم
وحجرة...
[ قد سرّب الفانوس أحزمة الضياء]
عريشنا...
[توليفة الحطب]
الصغّار...
تمرّغوا بالصبح وارتفع النشيد". ص 26 ـ 27.

وبعد هذا الاغتراب الطويل الحاد، المرّ، يحضر الخطاب الشعري مجد الأجداد وعزّهم، وحكاياتهم، وتاريخهم البطولي في الوطن المركز، ويحنّ إلى سكينة روحية إنسانية نبيلة، كانت ترافق الأجداد في حلّهم وترحالهم.
تقول القصيدة:
" للأرض دورتها الأخيرة، من يعيد؟
للأرض بعض سكينةٍ
أجدادنا..
حفظوا الحكاية عن قديم الحرب والتأريخ". ص 28

تتزامن الغربة في الخطاب الشعري عند الشاعر محمد النبهان مع محاولة كشف لخبايا الذات الإنسانية في عالمها وترحالها، ومصائبها، وآمالها وطموحاتها، ورؤيتها للأنا وللآخر في آن، ويتزامن هذا الكشف مع حنين خفي دافئ هامس ونبيل إلى ما هو إنساني، بحيث تصبح القصيدة هي الحلم والرؤية والمطاف الأخير لتلوذ ركائب الترحال بشفافيتها:
"الشعر رحلتنا الأخيرة
أوصدي الشباك
مهلا
أوصدي الشباك
سيجارة أخرى
وتكتمل القصيدة" ص 29 .

غير أن المأساة ونزيف الغربة ليسا مقرونين بالبلاد الغريبة التي تحطّ فيها الذات الشاعرة قلوع ترحالها، بل تتجسد الغربة أيضا داخل الوطن المركز، الوطن الأم، الوطن الرحم، حيث يضيق الوطن بأهله، وتضيق المرابع بسكانها ، وتظلّ الذات غريبة في الوطن الأم المركز، وفي الأوطان الأخرى ـ المراكز الثانوية ـ أو محطات الترحال الآنية والمؤقتة، لا الوطن المركز يعطيها الطمأنينة، ولا الأوطان الأخرى ـ محطات الترحال ـ تغسل همومها، وتمنحها دفء الأمان وطمأنينته واستقراره.
يقول الشاعر في قصيدة "الموت في الزوايا":
يعذّبنا نزيف العِرْقِ،
من تعب..
نجرجر رأس حكمتنا،
بأنّا:
كلّما ضاقت بأهليها مرابعنا،
عبرنا خوفنا للخوف.
وتخنقنا الزوايا..
متعبون وحائرون
كأنّما :
لا أرض تشبع جوعنا الأبدي،
نعشق أن نموت معلّقين،
بلا مكان ثابت،" ص 31.

وعبر تشكيل جمالي مرمّز تعود الرؤية الشعرية عند محمد النبهان لتنهل من خلفية مرجعيّة دينيّة مقدّسة، ألا وهي الخطاب القرآني الكريم، ففي قصيدة " الموت في الزوايا"، يفيد الشاعر من سورة يوسف (عليه السلام)، حين غدر به أخوته، ورموه في البئر، حسدا وغيرة منه:
تقول سورة يوسف:
" إذ قالوا ليوسف وأخوه أحبّ إلى أبينا منّا و نحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين. اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين. قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف والقوه في غيابت الجبّ يلتقطه بعض السيّارة إن كنتم فاعلين". سورة يوسف، (الآيات 8 ـ 9 ـ 10)
ونلاحظ أنّ الشاعر محمد النبهان يفيد من هذه الآيات القرآنية الكريمة لتأتي رؤيته الشعرية متناصة معها تناصاً بعيد الإيحاء والترميز.
يقول:
"حائرا:
لا ماء يشبه قلبه الشفاف،
يصرخ بالقوافل:
أخوتي قتلوا الأخوة
مذ رموني
أخوتي..
رقصوا على جرحي
ونخب نزيفه شربوا.
يصرخ بالقوافل:
أخوتي..
......
ويظلّ ينتحب.
ويصرخ:
أخوتي..". ص 33

ولا يتناصّ المقطع السابق مع الآيات القرآنية الكريمة فحسب، بل نجد أنّ عنوان القصيدة يحيل إلى الآيات الكريمة، أو يتناصّ معها بشكل غير مباشر، فإذا كان عنوان القصيدة "الموت في الزوايا" فإنّه يتناصّ بشكل موح ومرمّز مع بعض ما تفرزه الآيات الكريمة من دلالات "كالموت في غيابت الجبّ"، وما شابه ذلك.
وتبدو الغربة في بعض المقاطع الشعرية ظلاما دامسا وطويلا في صقيع ليالي الوطن المنفى، وعندها يلوح الوطن المركز، بشمسه الصيفية، وضيائه، تقرر العبارة الشعرية بشكل واضح إلى أي مدى يختنق الغرباء قهرا وحزنا في بلاد المنافي البعيدة:
يقول الشاعر في قصيدة:" فصول":
" أنهض من نومي كل صباح
في كانون
أعدّ ضلوعي
ضلعا
ضلعا
حتى آخر هذا العتم
أنام و أحلم في شمس صيفيّة
أشعر أنّ الغربة تخنقني
يا صاحبُ
في بلد ليس يتابع
إلا الأرصاد الجويّة.". ص 42.

ويتساءل الخطاب الشعري في مقطوعة أخرى: ما جدوى هذا الاغتراب الطويل في المنافي الصقيعيّة والوحدة الخانقة، وفي البلاد الباردة؟
وتجيب الرؤية الشعرية أن لا جدوى من كلّ هذا الرحيل، ومن هذه البلاد المنفى، فلا شيء إلاّ الوحدة والفراغ والغربة، وليست سنين الغربة إلاّ خواء وحزناً، لا جدوى منها:
يقول الشاعر في قصيدة: "الرحيل بلا فائدة":
" وحيدا
وحيدا
ترتّب أشلاءك الآن
كيما تعود غريباً لأرض نستك
كـأنّ السنين المضت في المنافي
رحيل بلا فائدة". ص 49.

و وحيدا في منفاه تعربد الغربة وجعا ووحشة في أعماق الشاعر، فيلوذ بأوراقه القديمة، وكل ما هو جميل من ذكريات قديمة أحبّها وألفها وعشقها، فهناك أرواق الذكريات المبعثرة، وهناك قصائد السيّاب الحزينة، وهناك صور الأهل والأحبّة ملقاة تملأ الذاكرة حنيناً وهمساً وبوحاً شفيفاً، وهناك التراث الجمالي والحضاري المعرفي لحضارة كانت تنعم بأوج ازدهارها، ويشير إلى ذلك العبارة الشعرية الآتية:
" والخطّ الكوفيّ محاط بالتشكيل المحدث"، وذلك في المقطع الآتي:
" حين أعود لوحشة داري
حين أقلّب نفس الأوراق المهملة الترتيب
وديوان السيّاب
وبعض الصور الملقاة حنينا
والخطّ الكوفي محاط بالتشكيل المحدث
حين أحدّق ثانية
في قاع الذاكرة الأحدب
حين أعلّق معطفي المطري
وأسكب شاياً في الكأس
وأشعل عود ثقاب
... أملأ هذي المنفضة العاقر أعقاب سجائر
حين أعود
أعود مغادر
أعرف أني
بت وحيدا
تلسعني بسياط غربة". ص 18 ـ 19.

ومن شدة خواء الغربة ووحشتها، وما تفرزه من فراغ إنساني، تبدو كأس الشاي، وعلب السجائر معادلا لتبديد حالات الأرق التي تفرزها سياط الغربة.
ويتألّق الحزن، ويصبح سيّدا للرؤية الشعريّة في بعض المقاطع الأخرى، وحينما يبتعد الغريب عن وطنه المركز، يحلّ كلّ ما هو موحش وكئيب، حيث يصبح الزمان خريفاً يبدد أيام العمر، وتتدفق الأحزان فوق رمال المنافي الجديدة.
يقول محمد النبهان في قصيدة "أينما جرف النهر ظلّ الغياب":
" ابتعدت
ابتعدت
وغافلني النصل في الخاصرة
الخريف يبعثر أيامنا
عبث الرحلة/ السّكر
والطلقة الحائرة.

في الرمال الجديدة وزّع أحزانه. وارتمى..
بين كفيه خوف المسافة والريح، من للغريب؟
ذكرتكِ! فوق احتمال العبور/ الجواز المزوّر،
أول أرض تراءت، بكى الطفل في داخلي..
واحتضنت الغياب.". ص 9.

هذه بعض تيمات الغربة والترحال والأحزان والمنافي الموحشة البعيدة الكئيبة في قصائد الشاعر محمد جابر النبهان، غير أنّه يمكن القول إنّ جميع قصائد المجموعة الشعرية "غربة أخرى" تتأسس على هذه التيمات، وفق لغة هادئة حزينة، لا تكلف فيها ولا افتعال، ولا أدلجة سياسية تقريرية. إنّها لغة الحزن وشفافيته وجماله، وبعده في الذات الإنسانية بامتياز .











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي


.. تسجيل سابق للأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن يلقي فيه أبيات من




.. الفنانة غادة عبد الرازق العيدية وكحك العيد وحشونى وبحن لذكري


.. خلال مشهد من -نيللى وشريهان-.. ظهور خاص للفنانة هند صبرى واب




.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس