الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ألمٌ حقيقيٌّ على تقاطع الطرق

ناصر ثابت

2014 / 7 / 29
الادب والفن


أكتبُ بلغةٍ كالغراء
أختلفُ مع سفاسفِ الصمت.
هنا تخضرُّ التفاصيلُ وأسمعُ الضوضاءَ الناجزة
بائعُ الجرائدِ يحاورُ زبونَه، ويحمل كيساً أزرقَ مليئاً بالبضائع صعبة الترويج
سيارة تطلق بوقَها بطريقة ثقيلةٍ على القلب
باب الحانوتِ يفتحُ. أسمعُ له صريراً لا يليق بالتاجر الثري
الشارعُ يشعرُ بالفراغِ الصباحي
بائعُ الحلوى يحاورُ نفسَه، ويقرر أن يترك القرار للماءْ
امرأة تمشي على الرصيفِ بغرور الكعب العالي
كيسٌ أصفرُ بيد شابٍّ أهوجَ
رياحٌ ساكنة، لها صوت المدافع الجافة.
أبنية قبيحةٌ، في منتصف رحلة الحياة
ألفاظٌ لا تليقُ يرددها رجل ما، يتحدث عن الحرب في غزة.
ذاتُ الرجلِ ينادي على ابنه، ويسأله عن الفكرة.
التاجرُ ينسِّقُ بضائعه المغشوشة بطريقة بشوشة
الغبارُ على حافة النافذة، يرتمي كأنه شِعْرٌ موزون
ألمٌ حقيقيٌّ على تقاطع الطرق الأهم في حياتي.
شارع المستشفى وشارع المعاهد
أما الكلمة المشحونة بالسُّحب الحجرية فهي تنتظر دورها للنوم
أصحو على لعبة الأمل المعتق
لا شيءَ هامٌّ في هذه الخارطة الغريبة
أمتطي صهوة القلمِ واكتب
أسمع صوتَ الغرابِ الفلسطيني يخرجُ عن صمتِه
أما الحمائمُ فتشربُ سرَّ الماء على حافةِ الشرفة
والدي يكرهُ صوتَ هديلها لأنه يصيبه بالأرق
الكراهية فعل الانتقاءِ والاختيار.
تنعكسُ الشمسُ على لوحة الاعلان الفارغة
الصورة تستمدُ إطارها من الحنين الحاد
أراقبُ منزل طفولتي من بعيد
أجالسُه، أنا على شرفة وهو على شرفة
أراقبه بعين لم تجد الوقت لكي تبكي
الستائر تحجبُ عني الأفكارَ القديمةَ
لم أدخل بعدُ إلى الشرفة المغلفة بحدائق الوهم
دخلتُ إلى آيات الشوق المبطن فحسب.
لا أرمم الأحزانَ كثيراً لأنني سأرتديها كفناً يوماً ما
الحزنُ ليس صالحاً لقياسِ الجمال. إذن لا داعي للترميم.
الجسدُ البنيُّ يعتمر قبعة الإخفاء
أسمعُ صوتَ طير لا أعرف أسمه. أعتذر للتفاصيل لأنني لا أستطيع أن أضيفه إليها.
أبحثُ عنه في الأجواءِ فأراه بعيداً واقفاً على سارية الريح
هناك كنتُ أراقبُ شاباً يصعدُ إلى أعلى العمود حتى يرفع علماً
العلم يظلُّ شامخاً والشابُّ يسقطُ برصاصة
والآن هنالك لوحة تؤرخ لهذه القصة، أو اللقطة السينمائية التي تكررت حتى الاستهلاك.
أعتذر عن رسم الخيوط الواهنة للأمل
أكتبُ،
وفقطْ أكتبُ.
الآن يجبُ أن أكتبَ... فحسب.
تحت هذه الشرفة لعبَ الأولادُ كرةَ القدمِ بشغف واستمتاع
كانوا يملأون الفراغ الذي يتركه انقشاعُ التفاصيل اليومية
ثم يتقاسمون الأهداف
ويضحكون على المحال التجارية المغلقة
كانوا يقررون كيف ستكون المداخلُ إلى اللعبة الجديدة
"هذا فريقي يا سعيدُ، وهذا فريقك
فلنلعب حتى نشتت أنظار الجنود"
نتبارى بكل اندفاع وجدية
لا نحتاجُ إلى الحَكمِ الذي نراه في التلفازِ يفسد على المتبارين العالميين متعة اللعب.
يخرجُ الناس على الشرفات حتى يتفرجوا علينا
"هذا جمهورنا" - نحس بفخر خفيف ونواصل الركضَ
نسمعُ أصواتَ الأهواءِ القاتلة
بعض الفتيات يلعبنَ معنا،
"انتِ يا هديلُ رياضية وسريعة، تصلحين لموقع الهجوم"
البارحة مررتُ بسعيد. لم يعرفني. لكنني متأكد أنه يتذكر لعبة القدم القديمة.
أما هديلُ فهي ابنة المظاهرات التي كانت لا تسمنُ ولا تغني من جوع.
عدنا إلى أول الحكاية. ونسينا أن نشربَ قصة الفرح.
هنا، تتكامل الأصواتُ والصفاتُ، وأرى ذاتيَ تتحرك فوق قطار الصخب الذي صار سراباً.
كنا أحياناً نمدد رحلة الهدوءِ، ونشرئبُّ إلى النوافذ، ونعتذر إلى الستائر المقفلة.
كان جارنا يتفرجُ على مباراتنا، وهو يقبِّلُ زوجته. وكنا نرتدي ملابس صالحةً للتمزيق.
أما هو فيضحكُ، ويستمتعُ بالنظر إلى الكرة المتطايرة.
من بين هذه المجموعة الصغيرة من اللاعبين،
كان هنالك ولدٌ غريبُ الأطوار، يلعبُ قليلاً حتى يكمل بقية وقته في القراءة ومراقبة الفتيات.
وكان هذا الولدُ يعرفُ كيف يهتدي إلى سرِّ الأحجياتْ.
ويعشق رسم الحروفِ على الأوراق. ويراقبها وهي تصنع الألفاظ وترفرفُ مثل عصافير الكلام.
كان مشغولاً بما هو أبعد من الصفحة. وكان يقرأ ويتابعُ الإنتاج الإبداعي، ويحضرُ الندوات. وكان صغيراً إلى درجة تدهش الحضور. وفي آخر اليوم، عندما تقفل المحال التجارية أبوابها، كان يعود إلى الشارع ليلعبَ كرة القدم، مع فريق آخر يشكله سعيدٌ الذي يمر به اليوم ولا يتذكره.
والآن لا بد لليلِ من وصفة صالحة للظلام.
الكتابة متعة الغوص في قلق الروح.
نصيدُ أمنية الصمت الرفيع، ونرتقي إلى ما تمثله رفوف اليمام من الحيادِ والهدوء.
نقرأ في المكتبة العامة مئات الكتب، وننسى الأغلفة والنهايات.
نعيدُ قراءة نيكوس كازينتزاكي مراتٍ ومرات.
رواية كامة نعاملها كالقصيدة اللذيذة. كم هو مرهق عشق القصائد.
يفتحُ لنا صفحات اليونان الرطبة الهادئة.
السلحفاةُ التي أمتطي ظهرها تمر بي أمام الأبنية الجديدة.
هنا كان حرشٌ جميلٌ كنتُ أقضي فيه وقتاً رائعاً، وكان ماهرٌ وعليٌّ يشويان البطاطا فيه.
تجرأتْ يدٌ ما على قطع الشجر وإقامةِ مشفى حديث.
لم يكن سهلاً علي انتقادُ الفكرة أبداً. أحتاج إلى شجاعة إلهية للاعتراض على قطع الأشجار.
والمثير للسخرية والشفقة في آن، أن المشفى اليومَ لا يَشفي المرضى، إنما يحرقُ آمالَ الأمهات!
هنالك أبنية صامدة، وأخرى لا أعرفها.
مثل مبنى التربية والتعليم الذي أتذكره جيداً. أتذكره غرفةً غرفةً، وطابقاً طابقاً.
هل يتوجب عليَّ أن أعتذر عن الكلام الفاخر شديد اللهجة الذي كان على مدير التربية أن يستعمله حتى يُقنع الجنود أن يتركوني وشأني، عندما كنت تلميذاً في الصف التاسع؟
يومها أقنعتُ الجندي الأشقرَ أن يضربني بخوذة باذخة بدل أن يطلق علي النار.
لا حاجة بي الآن لأن أتسلحَ بالصدق. فهذا من شأنه أن يجرحَ الأصدقاء والأعداء.
سأترك الذاكرة تمرر الصور الحميمية الغريبة دون أن ترسمها على صفحات الماء.
أنا هنا شاعر لقصيدة متسترة بالعشق.
أسمعُ في الخلفية صوت المسجد الكبير، يتلو القرآن.
من هذه الشرفة التي أمامي راسلتُ الحدائق والنوافذ والأساطير.
ومنها ناديتُ على بائع الجرائد، وناقشتُ الاخبار مع أبي.
ومنها أيضا رسمتُ شارة النصر، وجاء الجندي من آخر الشارع يسعى باحثاً عني في ثيابِ أمي.
ومنها انطلقتُ إلى العالم الجديد، حيث أسستُ عزلتي الجديدة.
ومنها طيَّرتُ طائرتي الورقية التي صنعتها بعناية، من ورق الجرائد وعيدان الخشب. لعلَّ هذا يفسر زياراتي المتكررة إلى المنجرة التي كانت تحت الشرفة، ذاتها.
الآن تكسرتِ الطائرةُ وانفتح الصوتُ أمام الهدوء، وعدت إلى رحلة الضوءِ، وطارت الطائرة الورقية دون عودة.
هل تلزمنا الذكرياتُ؟ لا أجدُ الجوابَ.
لكن إن لم نكتب من الذكريات فعمَّ سنكتبُ، إذن؟
الواقع ليس صالحاً للكتابة. والمستقبلُ ضائعٌ في الصورةِ، والذكرياتُ هي المكانُ الوحيد القابل للتأمل، حتى لو كانت مستهلكةً.
أما اللحظة الراهنة فهي الملكة العظيمةُ الفاخرةُ التي تحكم العالم.
أقابلُ الشكَّ بالشك.
أنظرُ في النافذةِ عليَ أجدُ شيئاً آخرَ قابلاً للكتابة.
أعدُ أن اكتب دون عناية بالكلام. العناية لا تصلحُ للأدب.
ماذا بعدُ؟ هل هنالك أكثر من الأرصفة والأزقة والجدران؟
هل هنالك أكثر من الحصيات والخيوط والأسلاك والاعمدة؟
هل هنالك أكثر من زاوية الشارعِ، ومكتب التربية، والمسرح وخطوط المشاة التي يتجاهلها الناس؟
هل هنالك أكثر من عامل القمامة والشرطي والبائع الجوال؟
هل هنالك أكثر من الفرح المادي والقيامة والغازات المسيلة للدموع؟
هل هنالك أكثر من الأصدقاء الذين مروا من هنا، وكنت بانتظارهم؟
هل هنالك أكثر من النبيذ والصور العارية والأفكار الغريبة؟
وهذه المدينة المجنونة التي نسمعُ أصواتها من زاوية العالم الأخرى، تعرفُ كيف تحرقُ الذكريات الحزينة.
هذه المدينة المجنونة تعرفُ كيف تطردني من حدودها، وتعرف كيف تعزلني.
العزلة تصبحُ خياراً، والغربة تصبحُ متعة والسفر يصبحُ إنقاذاً لماء القلب.
أما الأحاديثُ الجانبية للفوضى فتكسِّر آنية الشوق الغريب.
أيتها المدينة المجنونة، كيف تحولتِ من مكاني المفضل إلى نقطة انطلاقي إلى شواطئ الفراغ؟
كيف تحولتِ من مدينة الشمسِ والعشق إلى مدينة الضوضاءِ والغبار؟
كيف تحولتِ إلى هذا اللونِ البني المحروق الذي لا يعتريه الخَضار؟
كيف طردتِ الأطفالَ الذين كانوا يلعبون كرة القدم في الشارع؟
كيف تجرأتِ على السخرية من بائع الجرائد والخياط وصانع اللاشيء؟
كيف تخلصتِ من النجار الذي كان يعطي الأولاد عيدان الخشب ليصنعوا منها طائراتهم الورقية؟
كيف تخلصت من روح المكان الصافية؟ وكيف تحولتِ إلى قنبلة ذرية موقوتة؟
كيف أشرفتِ بنفسك على كسر جدرانِ النسيم الهادئة
وعلى تعرية الشوارع من الأشجار
وعلى حرق الزهور البرية، وتحويلها إلى أبنية يابسة؟
أين فنادقك القديمة وأبنيتك الأثرية وذاكرتكِ المعطرة؟
كيفَ نسيتِ الولد الذي كان يلعبُ كرة القدمِ في الشارع وأصبحَ يكتبُ بلغة الغراء؟

على تقاطع الطرق الأهم في حياتي... أحسُّ بألم حقيقي، وأواصل الطريق إلى النهاية.




29-7-2014








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??