الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جريدة الاتحاد الحيفاوية عرفتني على بعض جذوري في فلسطين

سميح مسعود

2014 / 7 / 31
الادب والفن



حاولت بالكتابة شعراً ونثراً أن أكون قريبا ًمن الوطن ، ومن مسقط رأسي حيفا وقريتي بُرقة ، كتبت برغبة محمومة عن الهزائم والشتات والنكسات ، وعن جذوري وجذور غيري من المعارف والأصدقاء ، حاولت بما أكتبه أن أكون شاهداً صادقاً على تفاصيل أحداث أيام عشتها في وطني وفي منافي الشتات .

نشرت مقالات ٍ كثيرة في صحف عربية وكندية ، وفي ذات يوم قررت أن أكتب في جريدة الاتحاد الحيفاوية ، كتبت فيها قصيدة وعدة مقالات ، منها مقالة نشرت بتاريخ 17 تموز 2009 بعنوان " البحث عن الجذور " بينت فيها اهتمامي بالبحث عن الجذور في فلسطين ما قبل النكبة ، ليس من أجل البكاء على الأطلال ، بل من أجل استحضار لمحاتٍ من حياة أهلنا الماضية ، بمختلف مشاهدها و أحداثها وأوجاعها ومآثرها التراثية والعمرانية ، بهدف توثيقها وتسجيل صفحات من التاريخ الشفوي بصوت ٍ عالٍ ومزيد من الأقوال والتفاصيل .

كل هذا من أجل التأكيد على دلالات انتماء الآباء والأجداد للأرض الفلسطينية ، ومعرفة القرى والمدن و الحواكير والأشجار والبيوت وحتى أتلام الأرض وأمواج البحر موجة موجة ، وهكذا نكتب تاريخنا الحقيقي ونضفي على حقنا بأرضنا وأملاكنا و مكتسباتنا طابعاً توثيقيا يخفف عنا منغصات هزائمنا وارتحالاتنا الدائمة .

عرفت القارئ بانتمائي لحيفا كمسقط رأس لي تعرفت فيها على الحياة ، وأنني في سن العاشرة دخلت مرحلة تلقي واقع الاغتراب والنفي ، هاجرت منها قسراً في يوم سقوطها ، ولجأت مع أسرتي إلى قرية أهلي بُرقة .. تحجرت أحلامي وقتذاك وتراكمت في نفسي حالة وجدانية مؤثرة عن مآسي الهزيمة ، ترسخت في ظل غربة ٍ باكرةٍ لصبي صغير .

وبيّنت للقارئ أن مرارة الغربة تُرجعني دوماً إلى أيام مضت لا يطويها النسيان ، أتحسس فيها وميض ضوء أراه يحبو على أمواج بحر حيفا ، ينفضُ عن كاهلي عبء السنين ، يُعيدني ثانية إلى حيفا عبر حروف أنشرها في جريدة الاتحاد الحيفاوية ، أمد بها خيطاً من التواصل مع أيام مزهرة مضت في طفولتي الباكرة ، لا تزال تفاصيل صُورها باقية في نفسي حتى الآن ، لن تختفي ، ستبقى دائما ً جوهرا ً ثابتا ً للروح حتى أخر لحظة ٍ في الحياة .

اتسعت الذاكرة في مقالتي عن الجذور ، تطايرت منها أنقاض أيام عشتها مع أهلي في حيفا وبُرقة ، نقاط وفواصل كثيرة شكلت بها بعفوية ومضات صور من عروق جذوري بين قرامي الزيتون في أتلامٍ تمتد طويلاً طويلاً عبر السنين ، بينت فيها مشاهد كثيرة متشابكة تتصل بجدي وأهلي وموروث عائلتي في بلدي ، أردت بها استبدال حاضر الاغتراب البغيض بمرآة واسعة يتداخل فيها الزمن الماضي بخيوط أحلام تعكس الوجه الحقيقي لامتداد جذوري عميقاُ في فلسطين .

وبينت في نهاية مقالتي أنني أذكر أمثلتي عن الجذور التي تنثال صورها بوعي وعفوية في سطوري ، ليس لأبناء جيلي المثخن بجراح الهزائم والشتات والكآبات والأحلام المختنقة ، بل لأبناء جيل حفيدي ليث لإيقاظ طفولتهم على إشارات دالة ومؤثرة تعرفهم على جذورهم ، وتنحت لهم في الذاكرة علاقة دائمة مع فلسطين ، بقراها ومدنها ، وترابها ورجالها وأوجاعها ، تلاصقهم في نوازعهم وأمزجتهم وميولهم وطريقة تفكيرهم ، وتمنحهم في غربتهم رؤية حقيقية عن وطنهم ، تحضُهم دوماً على استرداد حقوقهم الضائعة ، والرجوع إلى أرضهم رافعين فيها راية العزة .

احسستُ بما يكفي من الارتياح لأنني نشرت المقالة على صفحات جريدة الاتحاد الحيفاوية ، لأنها تستثير حنيني إلى تلك الفترة من الطفولة الهنيئة التي عشتها مع أهلي في حيفا ، وهي الجريدة نفسها التي كان والدي يتابع قراءتها في أربعينيات القرن الماضي ويتماهى بأفكارها ، وكثيراً ما كنت أتصفحها بدون قراءة أي حرف فيها في مرحلة مبكرة عندما كنت صبياً صغيراً ، أذكر تماماً تلك اللحظات الخاطفة كما لو أنها كانت بالأمس .
***
بعد عدة أيام من نشر المقالة ، وفيما كنت أتصفح بريدي الإلكتروني ، عثرت على رسالة من سيدة لم أسمع بها من قبل ، عَرفت نفسها باسم حسناء دراوشة من بلدة إكسال القريبة من الناصرة ، استهلت رسالتها بعبارات مفادها أنها قرأت مقالتي المنشورة في الاتحاد ، واكتشفت منها أني أمتُ بصلة قربى مع جدتها " نجية " .

بينت لي بوضوح في رسالتها أن أخوال جدتها يحملون اسم عائلتي ، وذَكرت أدلة كثيرة بينها أسماءٌ لبعض أعمامي أثبتت لي بها بدقة حقيقة تلك القرابة ، وبينت لي أن جدتها برقاوية في الأصل تزوجت جدها راغب شلبي ، خلفت منه أولاداً وبناتٍ وعاشت معه طوال عمرها في إكسال ، وأن النكبة أبعدتها عن أهلها في بُرقة ، وبقيت حتى مماتها في شوق للقائهم ، وكانت دوماُ تكثر من ذكرهم في أحاديثها ، خاصة خالها فارس المسعود

داهمتني في تلك اللحظة أطيافُ وجوه من أقاربي تراكمت في ذهني ، تصفحتها مرات ومرات بسرعة متناهية ، تذكرت انطباعات بصرية أغرقتني في أحلام اليقظة ، وجدت فيه وجه قريبتي "نجية " تذكرت أخر مرة رأيتها فيها في حيفا قبل سقوطها بوقت قصير ، أحيا ذكرها في نفسي أقرباء لي من بُرقة كانوا يعيشون في حيفا ، منهم أخوها نجيب الذي كان يسكن على مقربة من بيت أهلي في شارع الناصرة ، وكانت زوجته عريفة صديقة أمي وهي من إكسال أصلاً وابنه محمد من أصدقائي ، وقد هاجروا معنا إلى بُرقة بعد النكبة .

راجعت كل ما يمكن مراجعتة في ذاكرتي ، وضعت وجه قريبتي " نجية " تحت منظار الفحص كثيرا ً ، وجدت أن التواصل معها قد توقف قبل سقوط حيفا بشهور قليلة .. تذكرت أصداء كلمات سمعتها عنها من والدي ّ بعد النكبة ، وها أنا الان بعد أكثر من ستين عاماً تتعرف عليَ حفيدتها مصادفة من خلال مقالة نشرتها على صفحات الاتحاد ، وأبدأ بمد خيوط من التواصل مع نسلها ، أحسست وسط هذه المستجدات بسرور عارم ٍ أنعشني في بلاد الشتات البعيدة في كندا ، على تخوم اخر اطراف المعمورة .

وأحسست في الوقت نفسه باضطراب شديد لأن "التغريبة الفلسطينية " ساهمت في ضياع الجذور ، الحياة فيها تسير في عجل ، وكثيرون من أبناء ما بعد النكبة لا يعرفون ما خبأه الماضي من جذورهم ، والخطر هنا لا يقف عند حدود ضياع الذاكرة الفردية فحسب بل يتعداها إلى ضياع الذاكرة الجمعية ، وتحويل الأجيال الفلسطينية المتلاحقة في منافي الشتات إلى شئ مجهول خطير لا يعرفون فيه ماضيهم وأهلهم وناسهم ، ما يعني ضرورة التعرف بوعي ٍ على الذات والاخر والبحث عن الجذور ، وتدوين كل ما للوطن من إرث جذور متراكمة لتبقى محفوظة في مجرى الأيام ، حتى لا تُنسى ، وحتى تذكرها الأجيال القادمة ، وتحيي فيهم وعياً دائماً للحفاظ على ثوابت هويتهم الفلسطينية
.
أجبت على الرسالة التي وصلتني من حسناء دراوشة برسالة مطولة وجهتها إليها ، عبرت فيها عن سعادتي بالتعرف على نسل عمتي " نجية " التي كنت أراها في طفولتي ولها مكانة في خبايا ذاكرتي ، وبينت في سياق رسالتي أن بدء التواصل مع نسلها يوقظ في داخلي ضجيج ذكرياتي في حيفا وبُرقة ، ويرفع من اماد خيالاتي لأحلق أبعد وأبعد في بلادي ، وأفتح فيها أفاقا ًواسعة للبحث عن الجذور لي ولغيري في كل مكان ، بما يساعد على تشكيل الذاكرة الجمعية الغائرة في عمق الزمان والمكان كالشجرة الظليلة في تشكيل الهوية والانتساب إلى الوطن

بعد فترة قصيرة من الوقت زرت أقاربي الجدد من آل شلبي وأل دراوشة في إكسال ، وجدت نفسي محاطا ً بهم ، غمرتني الفرحة ، وشعرت بعد دقائق معدودة ، أنني شديد القرب منهم وكأنني أعرفهم معرفة وثيقة منذ زمن طويل ، أثنى الجميع على جريدة الاتحاد لنشرها مقالتي التي تم بها اكتشاف صلة قرابتي معهم.

من وحي هذه التجربة وتعرفي على أقاربي في إكسال صدر مؤخرا كتاب جديد لي عن دار الفارابي اللبنانية بعنوان " حيفا ... بُرقة البحث عن الجذور " أعدت فيه رسم صور كثيرة مختلطة ومتشابكة لوجوه أناس كانوا ذات يوم حولي ، عملت على حشدهم في سطوري مشكلين دائرة كبيرة .. أعدت أحاديثهم على صفحات كتابي وما قالوه قبل سنوات طويلة على الرغم من تباعد الزمان والمكان ، التقيت بهم وأعدتهم ثانية إلى حيفا وبُرقة في غمرة عاطفة لا حد لها ، أعدتهم إلى أرض لنا عشنا فيها أياماً تأبى النسيان . .

.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي


.. شاهد: دار شوبارد تنظم حفل عشاء لنجوم مهرجان كان السينمائي




.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-


.. فعاليات المهرجان الدولي للموسيقى السيمفونية في الجزاي?ر




.. سامر أبو طالب: خايف من تجربة الغناء حاليا.. ولحنت لعمرو دياب