الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زبيدة و نسيم البحر

مفيد عيسى أحمد

2005 / 8 / 7
الادب والفن


وقت رحلت زبيدة كنت ألقي درساً في التاريخ ، ألمت بي نفحة من نسيم البحر ، نفحة مالحة مفعمة بنفس اخضرار، اقتربت من النافذة و أنا أتكلم عن خولة بنت الأزور و ثلاثين فارساً ، رأيت زبيدة ترحل بخطى وئيدة يحيطها بعض أهلها وآخرون غرباء لم أعرفهم، توقفت لبرهة موحشة، رنت باتجاه المدرسة ودهمت عيناها نافذة الغرفة التي كنت فيها، لا أدري كيف عرفت مكان وجودي ، التقت عينانا عبر حديد النافذة كنت وحيداً شغرت الدنيا وصرخت زبيدة لا ترحلي .... ولكن صوتي كان ذائفاً .
أسندت جبهتي على حديد النافذة و لاحقتها عيناي وهي تمضي باتجاه البحر محاطةً بطيور السنونو التي ما فتئت تطير بانخفاض تكاد تصدمها وتتحول عنها بغتةً، بدأت تتلاشى بيني وبينها حديد نافذة ومسافة تتسع ونسيم رطب و نشيج أمواج تسفح على الشاطئ وشاب يقرأ كتاباً مقلوباً ليحظى برؤيتها .
طيور السنونو أول من قابلته في هذا الحي البائس ، ضحى يوم متقلب ، شوارع موحلة وبيوت متناثرة .مع نزولي من السيارة أنعشني نسيم البحر اتجهت نحوه وعببت ملء كياني ، استدرت و مضيت جهة الحي الذي عينت في مدرسته متفادياً الوحل والماء الطيني المجعد بتموجات متلاحقة يرسمها هبوب النسيم .
أحجار متباعدة توزعت في برك الماء أعانتني بالمضي إلى الأمام ، طيور السنونو تطير منخفضةً جداً وكأنها سئمت العلو تكاد تصدمني وزقوها يتقاطع بحدة .
مصاريع النوافذ والأبواب موصدة ، لا حركة في هذا الحي سوى للطيور كأنها احتلته و قسرت الناس على الاعتكاف في بيوتهم ، توقفت للحظة أبحث عمن أسأله ، قبيل تفرع الشارع رأيت باباً مفتوحاً لدكان ينبعث منه دخان متسلقاً الفراغ ، سمعت سعالاًمتلاحقاً لرجل مريض ، دخلت ألقيت السلام، رأيته يحاول اختزال جسده واحتواء الموقد، لم أتبين وجهه المرتعش في الدخان ، التفتت إلي امرأتان إحداهن في مقتبل العمر بوجه مستدير وعينيين عسليتين نافذتين تطالعانك بتساؤل، و الأخرى بنظرة قلقة ومتقلبة امرأة بأربعة فصول .
الدخان المتصاعد من الموقد كان يزيد الجو شحوباً ويعطي الأشياء أبعاداً زائفة ، الرفوف و أدراج الدكان و الطاولة كلها بدت استمراراً لعشوائية الشارع ، ولكن ثمة حميمية في الخشب القديم و في رائحة النار. سألت عن غرفة أستأجرها ، قالت المرأة المتقلبة : حظك طيب يا أستاذ لدى أبي خليل غرفة وأشارت بيدها إلى بيت مقابل الدكان على سطحه غرفة وحيدة ، و أردفت مبتسمةًً تستطيع أن تبقى عندنا حتى تتدبر أمرك .
لم ترحب المرأة الأخرى بهذا الكلام جازمةً ذلك بعينيها أما الرجل المريض نظر إلي بعينين مخضلتين وبرأس مائل ولم يتكلم .
غرفة وحيدة مطلة على كل الاتجاهات ، شرقاً بساتين الزيتون بخضرتها الكابية ، تحد سكة القطار من تمادي الوحشة المتمطية على ذؤابات الأشجار ، وجنوباً بيارات الليمون بكمودها تبدو وكأنها تكتم شيئاً ما ، وشمالاً نهوض الهضاب العالية تتهادى حتى قامات روافع المرفأ، غرباٌ البحر نهاية وبداية قوة وانبساط ، وخط كالوهم يرسمه تماس ظهر البحر مع الأفق .
لم أنم في الليلة الأولى . فعندما تقيم في مكان جديد تحتاج لزمن حتى تألفه ، و في الصباح انسابت الشمس بإلحاح من النوافذ الواطئة الواسعة والمشرعة بدون ستائر فأحسست بما يشبه العري .
شيئاً فشيئاً استعدت انسجامي مع الوقت، ساعة الاستيقاظ، ساعة العودة من المدرسة...، ومع مكونات المكان صعود الدرج وهبوطه ، صرير الباب الخشبي ، الأثاث البسيط جدران الغرفة العالية الكئيبة ، وتقاسمت يومي رتابة الحياة ، أستيقظ في السادسة صباحاً أخرج إلى السطح ويستدرجني البحر امضي باتجاهه أعاكس نسيمه و أنتعش بنفاذه عبر مساماتي، أحاول وضع عناوين للجهات ، وحشة أشجار الزيتون ، ألق الليمون الحذر ، الفقر الذي ترك أثره على الأبواب والنوافذ تقشر الدهان وسيلان الصدئ.
لا أعرف أحداً في هذا الحي المرتبك سوى أصحاب الدكان أذهب إلى عملي وأعود، أحدد أبعاد عالمي الجديد خطوات معدودة، المدرسة ، غرفة منتهكة بنوافذ واسعة تستميل النظر، جدران عالية وفراغ كئيب ، أفق لا يطال .
ظهرت زبيدة في صباح ، شمسه ضاقت ذرعاً بالغيوم بأشعتها المباشرة و الملحة كأنها تحاول استباحة كل درجات وزوايا الظل حتى داخلك ، خرجت إلى السطح أمام غرفتي امشي ثم أتوقف لأتأمل ما حولي، أذرو ضيقي على مشارف المشهد وقلقي الذي كأنه ينسكب مع ضوء الشمس ،عزمت الدخول، تطلعت حولي بملل على سطح مجاور وفي موضع غير واضح رأيت شاباً يستند على أحد الأعمدة بيده كتاباً، كأنه يقرأ فيه .
من هذا الذي يقرأ كتاباً في هذا الحي الكئيب ؟ مشيت صوبه كانت عينا الشاب تسرحان أبعد من صفحات الكتاب لم يكن يقرأ ، ومن الغلاف بدا الكتاب مقلوباً. لم يرني كان منذوراً لجهة واحدة ، تبعت نظره، في فناء أحد البيوت بانت فتاة تنحني على ( طشت غسيل ) لم تظهر ملامحها.
مشيت إلى الطرف الآخر علني أرى ملامح الفتاة ، دفعني السأم والفضول ..بقي الشاب مسمراً مكانه بعينيه المسلوبتين وكتابه المقلوب ، لابد أن أرى ملامح الفتاة .. كانت قد استقامت الآن ، وهي تتطاول لنشر الغسيل بدت كطير يوشك أن يرتفع ،ثبتت للحظة بجيدها الذي كان يميل إلى جهة تعاكس نظرتها وذراعاها المرميتان المكشوفتان و بتأثير أشعة الشمس بانت كتمثال متوتر، انحنت من جديد على طشت الغسيل الذي كان يتصاعد منه بخار يمحو حدود جسدها و كأنها تتبخر تتحول إلى سديم ..... وهم قلت بصوت مرتفع ... وهم .
قذف الشاب الكتاب في الهواء قال كلمات لم أسمعها جيداً شتم بها القراءة والعشق ... ثم بدأ يغني بصوت منخفض و شجن.
شاب غريب في حي مبتل وخامل، استدرت لأدخل غرفتي ولكني سمعت ضحكة حيية تتناثر، كانت الفتاة قد اقتربت وأضحت أكثر وضوحاً ، أثر لضحكة بدأت تنسحب عن وجهها، رويداً تقلص وجهها وتشنجت شفتاها واتسعت عيناها عن عمق مبهم أسدلت جفنيها و دخلت المنزل وهي تجفف يديها. بدأ يهب نسيم بارد ورطب .. كان علي أن أدخل غرفتي ... ذلك كان نسيم البحر وتلك زبيدة .
هذا ما قالته صاحبة الدكان التي كانت أول من رأيته في هذا الحي .. نسيم البحر لا وقت لهبوبه و لاستكانته هو كالحب ، وفي هذه المدينة عليك أن تعتاده،الفتاة التي رأيتها هي زبيدة، لا تتكلم كثيراً وهذا غير ضروري أليس كذلك ..جميلة .. جميلة جدا...ً مثل صبايا بني هلال ؟
لم أجب ولا أعرف إن كانت جميلة ولكني لم أستطع نسيان ذاك العمق المبهم والقاسي و إسدال جفنيها وضحكتها التي ما زالت تتناثر و تتناثر . لم أسألها عن الشاب ولم تتكلم عنه .
دخلت غرفتي جلست محاولاً القراءة لكني لم أستطع ...الشاب يقذف كتابه و الضحكة الحيية تتناثر و تتناثر والفتاة تسدل جفنيها على عمق غامض ... وتمضي متلفعة بالسديم .
لمحت زبيدة مرات عدة في فناء منزلها لم أتملاها كنت أوهم نفسي أني غير مهتم بها ولكن ذلك تلاشى بحركاتي التي كنت أحاول تبريرها لنفسي ، خروجي إلى السطح ، تلهفي للصباح ، كل الجهات التحمت في جهة بيت زبيدة ، فناء منزلها اتسع برحابة المدينة .
لم أميز ملامحها عيناها فقط وسمت بالحيرة و الغموض أحياناً بعد رؤيتها كنت أنحت تلك الملامح في باطني ، لكن بعد دخول عالمي الخاص الضيق تبدأ ملامحها تتفتت و تضيع في السديم ، أحاول استعادة تلك الملامح ، لم أكن أنجح ، زبيدة كانت وهم قائم حقيقي ومباشر.
أصبح الحدث الأجمل هو ظهورها ليس للوقت قيمة قبل ذلك و لا بعده فالوقت وقتها فقط ، الدلالة التي لا تخطئ لذلك هبوب نسيم البحر ، كانت تتغاضى عني لكنها أصبحت تباغتني بنظرات خاطفة ولم أكن الوحيد الذي يترقبها ، فذلك الشاب بكتابه المقلوب و غناؤه الحزين لم يغب عنها قط ، ولكنه أصبح قلقاً ومشتت النظرات لم يطمئن لظهوري الدخيل ، وكأن مواجهته لزبيدة قد اختلت ، كان علي ألا أخرج بعدها ، ألوب في غرفتي وجهة منزلها فضاء محرم ، لكن عيني تخاذلت فيما بعد وصرت أترصدها من النافذة الواسعة وعندما تغيب أحس روحي تنفذ خارج جدران الغرفة تتوسل منزلها ليشف ما فيه أستنهض النسيم عله يجلوها، والشاب أبدا يقرأ كتابه مقلوباً و نظره محبوك ببيتها يجفل من احتمال ظهوري .كل صباح أتجه إلى النافذة أفتحها، أشهق دفق النسيم الصباحي و أرى زبيدة التي أصبحت تظهر بمواعيد متقاربة ، وكل ظهور تبدو و كأنها ولدت من جديد ، كائن مرمري ترسب شيء من غموض الليل على قده .
لم أحاول أن ألتقي بها عن قرب، لم أرى من أهلها سوى امرأة كبيرة و رجل متوسط العمر هما أمها و أخوها الكبير، علمت أنه متزوج ويسكن في مكان آخرلم أرها تكلم أحداً في الحي و كأنها خارجة عن الكلام صامتة صمتاً مشبعاً يتجاوز فحوى النطق ، قد تكون المصادفة ما يجعلني أراها في هذه الحالة.
أدخل إلى غرفتي مع صعود جاري الشاب محاذراً أن ألتقي عينيه اللتان تجهران برماً وضيقاً بوجودي .
يخطر لي أحياناً أن أعيد خطوات وصولي إلى هذا الحي علني أستعيد حالتي التي كنت فيها ، في هذه الحالة لن أستأجر هذه الغرفة ، سأبحث عن أخرى في طابق أرضي تمرق حذاء نافذتها طيور السنونو متأرجحةً بين انخفاض وارتفاع و سآنس بكتاب وأستمع إلى الراديو وأقصد البحر وأشرد في البعيد ، سيتخلص هذا الشاب مني وسيقذف بكتابه المقلوب لألف مرة ويغني أغانيه الحزينة ويتبرم بحضور زبيدة الطاغي الذي يمنعه من القراءة والاهتمام بحياته تبرم العاشق بروحه وربما يتزوجها.
لن يحصل هذا ولن أستطيع محو حضور زبيدة ، كائن كلي لا أستطيع امساك ملامحها فقط عينان فيهما ما هو أعمق من الكلام ، يرتعش على رمشيها دعوة وخوف. لن أحصل عليها أعرف هذا من عدم قدرتي على أن أحوز ملامحها في باطني ، زبيدة كانت ترحل أبداً و أنا أنتظر فقط أن تفعل ذلك ، أعرف أن علي أن أكلمها ولكن دائماً تنبثق صورة الشاب الذي كان يحضر مع حضورها، لم أستطع إقصاءه فخياله يتداخل مع خيالها بكتابه الذي لا يقرأه. أصبو للاقتراب منها لتنسم ذلك السحر والغموض وأخشى ذلك .
التقيت زبيدة أخيراً، عند عودتي من المدرسة عرجت إلى الدكان كان تقف مع صاحبته ، كلما اقتربت منها ترسخ حضورها و ازدادت غموضاً بدت حزينة ، مددت يدي وسلمت على صاحبة الدكان وعليها للحظة خاطفة تلاقت نظراتنا وتلاشيت وكان فراغ، اتجهت صوب منزلها لم تنظر في وجهي تجنبت ذلك بارتباك وحزم ، بحثت عن عينيها من جديد عبثاً، قبل أن تنعطف لتدخل دارها التفتت نحوي واندفعت سنونوتان ما لبثتا أن ذابتا في صفاء شاسع ، سرى في دمي وهن وإلتباث،انبعث نسيم ناعم وحنون كملمس يد زبيدة .... نسيم البحر في آذار أضحى أكثر دفئاً .
مقابل دارها حيث انعطفت كان الشاب يقف وكأنه طلع من تراب الشارع ، لم يتحرك حاذرت أن ألتقي عينيه و أرسلت نظري إلى البعيد ، بعد قليل تحرك ذابلاً باتجاه منزله .
قالت صاحبة الدكان : هو يحب زبيدة منذ زمن .
قلت : وهي ؟
أجابت : لا أدري .
سألت : ألا يعرف القراءة ، أين يعمل ؟
قالت : لا وضحكت هل رأيته يقرأ ؟ .. إنه يعمل في المرفأ .
لم أجب ومضيت أحسست وكأني ذلك الشاب بدأت أذبل رويداً،لا أعرف إن كان أحد ما شاهده مع كتابه الذي يلقيه وراء ظهره. فهو كمن يتقرب لحبيبته برقصة سيف أو خنجر أو أغنية ولا يجيد ذلك عندما تراه عليك أن تكتم ذلك وتقدره لكي لا يتحول إلى أضحوكة .
مع تباشير الربيع بدأت زبيدة تغيب تباعدت مرات ظهورها، والشاب ازداد ذبولاً و أنا بدأت أرحل عن مدينة مشوشة وعن نفسي ، وصاحبة الدكان تكرر إنها تليق بك وتغمز بعينيها .
لأيام لم أرها ، عم هدوء كبت نسيم البحر و فار موار الكون بربيع فج ، والشاب يمسك كتابه لساعات ويرصد فنا ء منزلها ، الذي دبت فيه حركة مستجدة ، أشخاص غرباء عن الحي وآخرون كانوا من أهلها يدخلون ويخرجون و زبيدة لم تظهر،قالت صاحبة الدكان: سيطير العصفور ، و أشارت بيدها ولكن إذا أردت لن يفعل ذلك .
رحلت زبيدة في صباح رحيلها تململ النسيم بوجل ألمت بي نفحة من نسيم البحر ، نفحة مالحة مفعمة بنفس اخضرار ، اقتربت من النافذة و أنا أتكلم عن خولة بنت الأزور وثلاثين فارساً ، وكانت ترحل بخطى وئيدة يحيطها بعض أهلها وآخرون غرباء .
خرجت من غرفة الصف وسط صخب التلاميذ وقصدت غرفتي ، في أول الشارع كان الشاب ساهماً يمسك كتابه بإصرار ، اقتربت منه عدلت الكتاب المقلوب ....... ومضيت و أنا أفكر : علي أن أعلمه القراءة . طيور السنونو بدأت ترتفع مفارقة جو الشوارع الموحلة باتجاه البحر ... كانت تهاجر .
لم أر زبيدة ثانيةً ولم أر الشاب ولكن إلى الآن مازالت تتراءى لي كائناً مرمرياً غامضاً وما زال الشاب يلقي كتابه في الهواء، و أنا أنتظر نسيم البحرالذي لا وقت لهبوبه .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب