الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-حبوب العادة-

نادية عبد الجواد
كاتبة و متفلسفة

2014 / 8 / 1
الادب والفن



أفاق مسرعا على اثر صوت الهاتف الجواَل, بعد رنين طويل و مزعج لرجل نام متأخرا و قد أنهكه الأرق. لم ينتبه راتب للرنين أولَ مرَة إلى أن اقتحم حلمه و غافله و أغفله عن الصوت الحقيقي, و قد ازداد إزعاجا.
كان ذلك الرنين البسيط بمثابة الفزاعة في حلم راتب إذ رافقها صور أناس تتدافع في زحمة محمومة و تتساقط فجأة فتختفي و يظلَ صوت الفزاعة رغم ذلك متواصلا , قويا , مخيفا.
- "ما الذي يجري ؟ " صرخ راتب و قد أفاق مذهولا لبشاعة المشهد.
يا له من حلم ... أردف قائلا , كدت أتلاشى أنا الآخر وسط الحشد و الرنين يخترقني.
نظر يمنة و يسرة و تحت الفراش قبل أن ينهض كليا لكنه لم يجد الهاتف الذي أيقظه.
-"اللعنة على هذه التكنولوجيا العجيبة. لو حافظت على هاتفي القارَ لكان ذلك أفضل"


ككلَ صباح يفيق راتب على مشكلة لا حلَ لها , لقد أكله ,منذ انتقل ليشتغل في المدينة, تيار الزمن المتسارع و جرفه سيل "العجلة" كبقيَة الناس...
"الناس قطيع سعيد هانئ" هكذا كان يقول قبل أن ينتحر وعيه على الحافَة الأخرى من الواقع.

-ما الواقع ؟ صرخ فيه أحد زملائه أيام الدراسة, حين كان راتب طالب حضارة عربية و حين كان يتجادل يوميا مع حلمي طالب الفلسفة الذي ذهب ضحيَة فكره الثوري و مواقفه المتمرَدة.
-"الواقع نخلقه يا حلمي أو نتركه يعبث بنا"
هكذا أجاب راتب منذ خمسة عشرة سنين, لكنَ اليوم شيء ما تغيَر , ربما عبث الواقع براتب و ربما خلق راتب واقعا مغايرا لما كان يحلم به أو ربما لم يعد أمر الواقع يهَم بتاتا فالأسئلة صارت آخر مشاغله بل و لعلها امَحت من باله كليَا.

كان راتب يفكَر ,قبل أن يصبح التفكير مهمَّة ممنوعة في المدينة, لقد شهد حملات التوقيف التي شنَت منذ سنوات على المفكرين و الأدباء و الفلاسفة , كانت حملات مريعة لم يتمكن أحد من الفرار منها سوى من تقنَع بقناع العامَة و ادَعى باطلا الانتماء إلى مجموعة " التماثل" , هذه المجموعة التي هيمنت على العالم و سيطرت عليه بـآليات عملت على دعمها و تقويتها تدريجيا.
لم تعد هذه المجموعة مجرَد سلطة متخارجة عن المجموعات الأخرى بل اندمجت و اتحدت بهم ثم استوعبتم و باتت منبثَة في كلَ الأمكنة إلى درجة يصعب تحديد موقعها. و يقال أنَها يمكن أن توجد في المنازل و الأحياء و الحوانيت و حتَى في جيوبنا.
وكان راتب من أولئك الذين استسلموا و فضَلَوا حياة القطيع على موت الأحرار و هاهو اليوم مسيَر لولا تلك الحبوب التي يتناولها الجميع كلَ صباح فتوهمهم بالحريَة: "حبوب العادة"

غيَر ملابسه على عجلة من أمره وغادر المنزل دون أن يتفقد جواله , لقد كان مطمئنا لأن حاسوبه الجديد يمَكنه من القيام بالاتصالات. ترشف القهوة و هو جالس في مكتبه, كانت بمرارة غير معتادة , شعر لوهلة بالدوار فاتَجه مسرعا إلى حمام قبل أن يتفطن اليه بقيَة الموظفين.
-"وظيفة ؟ هل ستصير موظفا لديهم يا راتب ؟ سأله حلمي مستاء لما آل إليه وضع صديقه , هل ستبيع نفسك من أجل حقك اللامشروط في الحياة. عجبا يا صديقي كم تغيرت..."
كان ذلك منذ سنين, قبل أن يتمَ اعتقال حلمي و تهجيره أمَا اليوم فلا يتذكر راتب شيئا من كل ذلك ,الماضي صار ضبابيا بلون الرماد , و الأفضل أن يظل كذلك.

-"ماذا يحدث لي هذا الصباح؟ أشعر بالاختناق , بالاستياء ,على غير عادتي ",قال راتب و هو ينظر الى نفسه في المرآة..."لا... لا ينبغي عليَ أن أتعجب أو أن أسأل فلو علم أحدهم أني مندهش و متسائل سيُقضى عليَ"
خرج مسرعا ليستنشق بعض الهواء فانزعج لضجيج السيارات الملوَنة و الأصوات الصاخبة التي تطلقها. كانت في تنوعها و جمالها الخارجي تنَم عن شيء واحد : قضاء الحاجة.
لا أحد ينزعج من هذه العادة و لا أحد يدهش للحركة المتكرَرة باستمرار للحياة في المدينة.
الكلَ منغمس في التفاصيل: في فاتورة الماء و عشاء الغد و حلويات العيد و مهر الزواج, الكلَ يبحث في الهنا و الآن, الكلَ لا يعيش الهنا و الآن.
فكيف لراتب أن تزعجه أصوات السيارات؟ كيف لراتب أن يدهش ؟ أن يكفر بالعادة ؟ أمر غريب و خطير قد يؤدي بحياته للتهلكة.
قرَر راتب أن يعود إلى البيت فحالته تسوء أكثر فأكثر و خاصَة أنَ الأسئلة اكتظت برأسه. امتطى سيارته و انطلق مسرعا, بدا كأنه يهذي فيتمتم و يصرخ و يفرك عينيه و يدهش لكل ما يحدث حوله كأنه يحدث لأول مرَة و الأغرب من ذلك أنَه رأى لافتات تشعَ في الطريق بعبارة "استيقظ"
لم يصدَق راتب ما رآه و حاول استفسار الأمر, نزل من السيارة و اقترب من اللافتة لكنَه كلَما ازداد قربا ازدادت اضمحلالا,و هفت لمعانها.
-"أنا أهذي" فكرَ راتب و قد استبد به الخوف.
أيكون يهذي ؟ ما هذا الحيرة التي تمكَنت منه فجأة بعد أن كان ينعم بالأمن و الطمأنينة ؟

قرَر أن يشرب كأس نبيذ علَه ينسى هذا اليوم العجيب. كان البار مكتظا و كان هناك في أحد الزوايا مجموعة من السكارى يغنون. مرَ بجانبهم راتب دون أن ينبته إليهم و طلب كأسا و جلس في مكان منعزل لكنَ سرعان ما شدَ انتباهه هتاف الجماعة " استيقظ استيقظ" كان الهتاف يعلو و يرتفع كأنَه يخترق أذنيه , امتقع لونه و ارتجف خوفا مما سمعه و طلب مزيدا من النبيذ ثمَ خرج ثملا متمايلا لا يعرف مكان سيارته بالتحديد و بينما هو يبحث عنها متمتما وجد فتاة صغيرة متسوَلة تقترب منه ثم أشارت بصوتها في أذنه " استيقظ قبل فوات الأوان, نريد مدينة للأمل و لا نحلم بأكثر منها"
تحجَر راتب و تصلَب في مكانه " مالذي أسمعه؟ و ماذا تقول هته..."
نظر إليها بعينيه الحمراوين و قال لها : وهل لنا الحق في الحلم بالأمل؟ اخشي أن يستحيل إمكان الأمل أصلا"
ابتعد عنها و صرخ وفي صوته أنين" أريد أن أستيقظ " ثم ركض في الشارع الطويل المزيَن بفوانيس زهريَة و بين السيارات الغاضبة و هو لا يرى من الطريق سوى اللافتات المشعَة التي اعترضته قبل قليل.
ظنَ راتب أنَه قد جنَ و أنَه يحلم . توقَف لحظة و اتَكأ على باب محلَ تجاريَ كتب عليه " هنا يباع الأمل"
ضحك راتب و دخل المحلَ طالبا المساعدة و فورا تمَ توفير ما يبحث عنه : الأمل في أقراص تسمَى"حبوب العادة"
شربه راتب متلَهفا و شعر في غضون دقائق بالرَاحة و عرف أنَه لم يشرب قرصه هذا الصباح.
خرج من المحلَ و استقبلته المدينة بضجيجها و اكتضاضها و الزاماتها و استقبلها بدوره بابتسامة محايدة شبيهة بابتسامات جميع الناس...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب للسقا يقترب من حصد 28 مليون جنيه بعد أسبوعين عرض


.. الفنانة مشيرة إسماعيل: شكرا للشركة المتحدة على الحفاوة بعادل




.. كل يوم - رمز للثقافة المصرية ومؤثر في كل بيت عربي.. خالد أبو


.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : مفيش نجم في تاريخ مصر حقق هذا




.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : أول مشهد في حياتي الفنية كان