الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كاد الخوف يقتلني

فينوس فائق

2005 / 8 / 7
الارهاب, الحرب والسلام


أوشكت الطائرة على الإقلاع عندما تنبهت إلى الشخص الجالس على الكرسي الذي على يميني و هو غارق في الإستماع لصوت أحد المغنيين الغربيين الذين لا أحتمل سماعهم سوى لحظات ، لم تكن الطائرة قد بلغت السحاب عندما غاب في نوم عميق ، و غرقت أنا في تفكير قاتل بطول المسافة التي سأقطعها على متن الطائرة من هولندا إلى نييويورك ، و فكرة أن أبقى محلقةً في السماء قرابة السبع ساعات و نصف الساعة ، فكرت في كل شيء سوى الموت ، لأن الموت كان يلبسني ، لست من النوع الذي يخاف ، بل أنني أحب المجازفة بعض الشيء ، هذا النوع من الخوف كان شيئاً آخر ، فأطول مسافة قطعتها في الهواء قبل هذه الرحلة لم تتجاوز الثلاث ساعات أكثر أو أقل أحياناً و مرة واحدة فقط خمس ساعات من مطار بغداد إلى الجزائر ، التحليق في الهواء هو نفسه كما في كل مرة ، لكن هذه المرة كان تحليقاً من نوع آخر ، في المرات السابقة لم يكن هناك حرب إسمها حرب الإرهاب ، و لم تكن أحداث الحادي عشر من أيلول قد حدثت ، لم تكن التكنلوجيا قد خدمت الإرهابيين إلى هذا الحد ، لابل لم يكن هناك إرهابيين من هذا النوع الذي نراه اليوم ، الإرهابي الوحيد على الأرض كان يتمثل في شخص صدام و أشباهه في العالم ، قبل هذه الرحلة يكن صدام قد سقط و قام الإرهابيون من جحورهم بعد أن رباهم صدام و قواهم و قاموا من قبورهم العفنة لينشروا الموت على الأرض بإسم الدين، حينها لم تكن ظاهرة تفجير النفس قد ظهرت ، على الأقل لم نكن نفكر في ما يحدث على الأرض من إرهاب ، لم نكن نتصور أننا و بينما نحن بين السحب هناك من يموت مفجراً نفسه على الأرض و يأخذ معه أرواح العشرات بتذكرة واحدة إلى السماء ، كنت و بينما أطالع وجه السماء من النافذة الضيقة بجانبي أتخيل الأرواح التي تصعد إلى السماء بعد تجربة إنفجار رهيبة رفعتهم و أرسلتهم في غمضة عين إلى السماء..
لم أستطع للحظة أن أكف عن التفكير في كل شيء و أي شيء سوى الموت ، فحتى الموت كان يختلف في السابق ، أبشع صور الموت كانت تحدث على يد إرهابي واحد هو صدام و أعوانه المتغطرسين ، عداه كان الموت إما بالمرض أو بعض حوادث السير ، و أكثر أنواع الموت قسوة كانت في جبهات القتال البعيدة عن الأطفال و النساء و الشيوخ ، غير أن اليوم الموت موزع بين الجميع بعدالة لا متناهية ، فتذكرت و بإلحاح أنني أم ، و أن لي أبوين ، لا أدري لماذا ، تذكرت جارتي التي كانت تقول دائماً أنها عندما ترى الطائرات و هي تطير في السماء ، في الأفلام طبعاً ، يداهمها خوف رهيب ، و كانت تضيف: أعرف أنني لن أصعد طائرة في حياتي ، لكنني أفكر كيف يتجرأ البشر على أن يركبوا الطائرة و يطيروا في السماء دون أن يفكروا للحظة في إمكانية سقوط الطائرة ، تلك كانت أبسط صور الموت عند الإنسان البسيط ، لكن اليوم صورة الطائرات صارت مقرون بصور الموت و الإرهاب ، من إختطاف الطائرات إلى إسقاطها ، إلى ضربها بالبنايات و الأبراج في عروض إستشهادية بطلة تستهدف قتل أكبر عدد من الأبرياء ، بهدف خلق توازن طبيعي و منع التضخم السكاني ، فبدلاً من أن يموت البشر و هم متلاصقون ببعضهم البعض ، يقدم اليوم الإرهابيون خجماتهم و يضحون بأنفسهم بتفجيرها و أخذ العشرات و المئات و أحياناً الآلاف ، لإفساح المجال أمام البشر ليتنفسوا براحتهم ، فإلى جانب الكوارث الطبيعية التي تحدث من فيضانات و براكين و زلازل و عواصف ، هناك بدعة أخرى تسمى الإرهاب بإسم تساعد الطبيعة في عملية التوازن على وجه الأرض ، لم أقدر أن أمنع نفسي من التفكير على هذا النحو الممل في الموت و أشكال الموت و ظاهرة الإرهاب..
تذكرت حين حزمت حقائبي للمرة الأولى بعد غياب سبع سنوات عن كوردستان و بعد سقوط صدام بثلاثة أشهر ، حين توجهت إلى المطار ، في ذلك الوقت كانوا يتبعون تعليمات قاسية في المطارات الأوروبية خصوصاً في الفترة التي تلت أحداث الحادي عشر من أيلول ، عندما وصلنا المطار و شحننا الحقائب الكبيرة ، كنت بجسدي موجودة في المطار و بتفكيري في كوردستان ، توجهنا إلى نقطة التفتيش الأخيرة لكي ندخل قاعة إنتظار الطائرة ، و بينما وصلنا إلى النقطة ، أشار موظف التفتيش إلى زميله الآخر و قال له إحجز هؤلاء الثلاثة مؤشراً إلينا ، فلم أصدق إلا عندما جاء موظف التفتيش الثاني و أشار إلينا بأن نتبعه ، و أخذنا إلى مكان مغلق من كل الجوانب و وقف يحرسنا ، و لم نسأل ظناً منا أنها مسألة بسيطة أو إجراء بسيط و سينتهي بعد دقائق ، لكن عندما بقينا مدة ربع ساعة ، سألت الموظف لماذا نحن محتجزون؟ قال بأنه لا يعرف ، و بعد مرور نصف ساعة أخرى عدت إلى الموظف و سألته مجدداً هل أستطيع أن أعرف لمذا أنا محتجزة؟ و أنا مصرة هذه المرأة على أن أعرف ، فعندما رأى الموظف ملامح الإلحاح في وجهي و منعاً لحدوث أي مشادة نادى زميلاً ثالثاً و طلب منه أن يشرح لنا لماذا نحن محتجزون ، فقال الآخر: أنتم محتجزون لأننا وجدنا بحوزتكم سلاحاً..!!! فكاد الضحك الممزوج بالخوف يقتلني ، فسألته بدهشة ، سلاح ؟ أين هو هذا السلاح هل لي أن أراه ؟ فقال حسناً ، مد يده ليدير شاشة المونيتور التي تظهر فيها محتويات الحقائب اليدوية ، و أشار إلى جسم السلاح الذي ظهر على الشاشة و الحقيبة التي كان السلاح بداخلها و التي كانت موجودة داخل جهاز الفحص هي فعلاً لنا ، فنشف حلقي و قلت له و أنا أضحك ، لكن هذه حقيبة إبني ، و ربما جلب معه مسدس أطفال و هي لعبة و لا داعي لكل هذا التأخير ، و طلبت منه أن يدعني أخرج له المسدس و ينتهي الأمر ، فقال أنهم أرسلوا في طلب خبير أسلحة هو الذي يفتح الحقيبة و يخرج السلاح دون وقوع أذى لأحد ، و أضاف لا يحق لي أن ألمس الحقيبة. فضحكت مجدداً و قلت له لكن هذا إهدار للوقت ، المسدس عبارة عن لعبة أطفال ، غير أن الموظف قال بأنه لا يُسمح له بأكثر مما قال و التعليمات في مثل هذه الحالة هي التي ستطبق في هذه الحالة .. فبقينا ننتظر قرابة الساعتان إلى أن وصل خبيراً طويل القامة بشارب أصفر و جبهة ضيقة ، و بيده جهاز خاص بفحص الحقيبة و جهاز بفحص السلاح المزعوم ، فبدأ ببطء قاتل يمرر الجهاز على الحقيبة و بدأ و هو يحاول أن يبدوا كالأبطال فتح الحقيبة و أدخل يده الرفيعة البيضاء المائلة إلى الصفار المليئة بالبقع الخضراء على ظهرها إلى داخل الحقيبة و بعد جهد جهيد أخرج المسدس (اللعبة) فبدت على وجهه إبتسامة مصطنعة و إلتفت إلينا ، من ثم إنحنى بطوله الفارع ليكلم إبني قائلاً له ، هل هذه اللعبة لك؟ فرد عليه إبني: و من غيري تظن؟ فقال : الا تعرف أن المسدسات ممنوع أن تجلبها معك في الطائرة ، فرد عليه إبني : لكنك قلت أنها لعبة عندما سألتني هل هي لك ، و لم أسمع أن اللعب يمنع إدخالها في الطائرة و أنا إشتريت هذه اللعبة لآخذها هدية لإبن خالي. فأجابه الخبير طويل القامة : لكن يؤسفني أن أبلغك بأننا سنحتفظ بها و لن نسمح لك بأن تأخذها معك إلى الطائرة ، فقاطعتهما قائلة : لكن لماذا؟ فقال الخبير الأشقر المائل إلى الصفار: ألم تسمعي عن ذلك الإرهابي الذي إختطف طائرة قبل فترة تحت تهديد سلاح مثل هذا و عندما ألقي القبض عليه إكتشف رجال البوليس أنها مجرد لعب ، فقلت له لكنني لن أختطف طائرتكم ، لا حاجة لي بها ، خصوصاً بعد غيابي عن بلدي سبع سنوات ، فقال لكن هذه هي التعليمات و لا نستطيع تجاوزها و نحن آسفون .. تذكرت هذه الحادثة و أنا على متن الطائرة إلى نيويرك ، و فكرت في ترى كم يحتاج المرء من الوقت لأن يتوصل إلى فكرة أن يختطف طائرة أو ليقتنع بفكرة أن يفجر نفسه ، أو أن يقوم بتفجير مكان و يقتل عشرات بل مئات الأرواح البريئة ، لم أستطع التوقف عن التفكير في فكرة أن تركب حافلة و تنفجر في لحظة دون أن يكون لك في ظاهرة الإرهاب و مرض الإرهاب لا ناقة و لا بعير ، لم أتوقف عن التفكير في الطائرات التي كانت تغيير على المدن الكوردستانية في عهد صدام و ترش الأبرياء بالموت و تزرع الموت في نفوس الأحياء ، و الطائرة التي أنا أركبها هي أيضاً تطير لكنها تحمل بشراً يسافرون إلى ذوييم مثلي أنا بعد إنقطاعهم عنهم لسنوات طوال ، فأي تكنلوجيا هي هذه التي كالسلاح الذو حدين ؟ تخيلت نفسي أقود طائرة و أحمل أمراً بقصف قرية بالغاز السام ، فزعت في مكاني لم أكمل الفكرة ، فتخيلت نفسي إحد أهالي قرية صغير و هذه الطائرة تقصف بالغاز السام ، فإسترسلت في التفكير إلى أن تم قصف القرية و أصبت بجروح قاتلة و كادت ترتفع روحي إلى السماء عندما نبهتني المضيفة و قدمت لي الطعام ، عندها تذكرت أني مازلت على متن الطائرة..
بقدر ماهي رهيبة فكرة التحليق في السماء لساعات طوال ، بقدر ماهي ممتعة و مخيفة في آن واحد تلك الأفكار التي تسيطر على المخيلة و نحن في أحضان الغيوم.. فمرت الساعات بثقل ، و الأفكار تأخذني شرقاً و غرباً و لا أكف عن التفكير في كل شيء و أي شيء سوى فكرة الموت ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نتنياهو: اتهامات المدعي العام للجنائية الدولية سخيفة


.. بعد ضغوط أمريكية.. نتنياهو يأمر وزارة الاتصالات بإعادة المعد




.. قراءة في ارتفاع هجمات المقاومة الفلسطينية في عدد من الجبهات


.. مسؤول في مجلس الأمن القومي الإسرائيلي يعترف بالفشل في الحرب




.. مصر تحذر من أن المعاهدات لن تمنعها من الحفاظ على أمنها القوم