الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
في وداع الأقلّيات العراقيّة
نصير عواد
2014 / 8 / 1الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة
كأنّنا في زمن آخر ووطن غير العراق، نرّوي حكايات لا يمكن تصديقها؛ إذ لم يتبقْ في مدينة البصرة العراقيّة التي يسكنها ثلاثة ملايين إنسان سوى عائلة يهودية واحدة، عايشت أعوام الفرهود والثورات الوطنيّة والحروب القوميّة والحصار والاحتلال والحرب الأهليّة. ويرّوي آخرون عن وجود بائع (كبة) يهودي بمنطقة العشّار وأن وكيلا يجمع ايجارات عند الشناشيل عن عائلة يهودية لا أحد يعرف مكانها، وكأنها جزء من أسرار المدينة. فمثل هذا البقاء الاسطوري، لأغصان متناثرة مليئة بالعزلة والرعب، صنع من الخيبة والمرارة أكثر مما من البطولة والتباهي، وترك خلفه أسئلة لا يستطيع الواقع العراقي اليوم اجتراح اجوبة وبدائل تساهم في صنع الأمل. ومع أننا لا نستطيع رؤية وتحديد الخطر الذي يشكّله وجود عائلة يهودية على مدينة بحجم البصرة، بتاريخها وشعراءها ونفطها ورطوبتها، ولكننا نستطيع تحديد الضرر الذي يُحدثه غياب هذه العائلة على نسيج المدينة الذي عُرف بالتنوّع الدينيّ والمذهبيّ والقوميّ.
في الحقيقة مدينة البصرة ليست مقبرة الأقليات الوحيدة بالعراق، فإفراغ المدن من سكانها الذين يقيمون فيها من قرون صار شائعا في أغلب مدن العراق، ولكل مدينة أسلوبها ومبرراتها في العزل والأقصاء والتهجير، حتى أن هنالك مدنا باتت تفتخر بنقاءها وخلوها من الأقليات الأخرى، ويروى عن مدينة الناصرية العراقيّة أنه لم يتبقْ فيها سوى بضع عائلات سنيّة، وفي مدينة الديوانية حوصرت قرية الغجر وقُصفت بالمدافع وقطع عنها الماء والكهرباء لا لذنب سوى مهنتهم التي ورثوها عن أسلافهم، وفي الموصل لم يُنقذ الرضى والكفاف قرى الشبك من محاولات التهجير والتكفير، وكل ذلك يحدث تحت راية (لا الله إلاّ الله، محمد رسول الله) وفي ظل حكومة طائفيّة لا يعكر صفوها ومزاجها رحيل الجميع عن الوطن ما دام الكرسيّ بخير. البصرة ليست حالة معزولة عما يحدث بالعراق، ولكنها بسبب موقعها البحري الذي يستقبل ويودع الكثير من الأقوام والجنسيات، وبسبب طيبة أهلها وتاريخها الذي أرتبط بالثقافة والتسامح، فإن غياب وتغييب الأقليات قد ينذر بخراب بصراوي آخر ستدفع ثمنه الأجيال الجديدة، وستخسر بسببه البصرة صفة التنوّع الذي طالما عُرفت به.
صحيح أن بعض النخب الوطنيّة في البصرة بادرت للدفاع عن العائلة اليهودية؛ بمعنى أنهم دافعوا عن صفة التنوّع بالمدينة، إلاّ أنه لا يشكّ أحد منهم بأنّ شيئا ما قد تبدل في مزاج المواطنين في البيت والشارع والمدرسة، وأن هذا العنف المجتمعيّ المتجدّد الذي عانى، ويعاني، منه أهل العراق صار هو السائد ولم يوفر فردا أو مجموعة أو أقلية، حتى صار العراقيون لا يفهمون حقا عراقهم الذي ولدوا وترعرعوا فيه. ولذلك لا أظن أن هذه العائلة اليهودية استمرت باقية في البصرة حتى اليوم بفضل أفكارنا الوطنيّة المزيفة، ولا بسبب هوس التسامح الدينيّ الذي مللنا سماعه من على المنابر وشاشات التلفزة، ولكني أظن أن بقاء هذه العائلة في شوارع البصرة هو واحدة من مصادفات الحياة التي قررت الحفاظ على هذه العائلة الوحيدة لتوثق تفاصيل القسوة.
مقالنا ما زال يتحدث عن توديعهم ولم يتحدث عن بناء نصب يخلد بقائهم الأخير. كاتب السطور من الشكّاكين ببطولة هذه العائلة اليهودية، فكمية الرعب التي يمكن تخيّلها بين جدران البيت بعد كلّ هذه الأعوام المؤلمة والمؤذية تجعل من مفردة البطولة نكتة سوداء ليست في محلها. فلا أحد منّا يستطيع تخيّل كيف كانوا يواجهون بلوى عزلتهم بين ظهرانيّ طائفتين في عجلة من أمرهما للقاء الحور العين، وهل غفت عينيّ ربّ الأسرة قبل أن يركض كل مساء صوب باب الدار للتأكد من اغلاقه؟. وهل كان أفراد العائلة اليهودية يؤدون شعائرهم الدينية في دور العبادة؟ وماذا جرى لطبيخهم وحفلات زواجهم وأسماءهم التي يتنادون بها في البيت؟ وهل حقا شوهد أحد أبنائهم يحرك مزيج الحبوب واللحم المفروم في قدر كبير لتحضير طبخة (القيمة) في ذكرى استشهاد الحسين بن علي (ع)؟.
لا نأتي بجديد في قولنا أن الأقليات هي التي تُقتل وتُهجّر عندما يشتد الصراع بين الأقوياء، ولا نكشف سرا أو نتحدث عن حالة متصورة لا يعرفها الشارع العراقي عندما نتحدث ونتظاهر ضد ما يجرى للمسيحيين اليوم في كافة أرجاء العراق، وما حدث قبل ذلك للصابئة والشبك والغجر واليهود. بكلام أكثر وضوحا ومرارة فأن الأقليات بالعراق لم تُباغت بما حدث ويحدث لها اليوم، فعندما كان المجتمع العراقي منسجما وموحدا بالقوة تحت سلطة الديكتاتور، كانت هذه الأقليات تعاني قلقا وجوديا متوارثا، فكيف الحال بعد انهيار مؤسسات الدولة وانتشار الملثمين وهروب الكوادر العلمية والثقافية إلى خارج الحدود. فبمثل هكذا فراغ يختبئ الموت خلف أتفه الأسباب، خلف أسم مشكوك به، خلف مشروع يدر بعض المال، خلف رأي لا يعجب السيّد. الأمر الذي يدفعنا للسؤال هل هذا العنف الأعمى ابن هذه المرحلة الصعبة أم هو قديم ومركون في الضمائر وبطون التاريخ؟.
في الأيام القليلة الماضية فوجئنا ونحن نسمع بأن الأقليات بمدينة الموصل قد طالبت بتسليحها لغرض الدفاع عن نفسها، وأن أنيابا قد نبتت لطيور الحب. فنحن لم نلمس الطبيعة الصدامية عند الأقليات، الصابئة والشبك والمسيحيّين، ولم يَحدثْ أن وُجدت في بيوتهم أسلحة ومعدات كتلك التي تمتلكها المليشيات الطائفيّة، بل لم نسمع أن مسيحيّاً قد فجّر نفسه في سوق أو مدرسة أو شارع، وكانوا يدارون خبز عيشهم ويحترمون من حولهم وينهون دراستهم على خير ما يرام، حتى أن الذّاكرة الشعبيّة حفظت للمسيحيين أنهم ملتزمون اجتماعيّا وأنهم يتحدثون اللغة الانكَليزية بطلاقة ويلبسون (البيجاما) في البيت. حدث ذات مرة في بيوت فقراء أهل الشط، بمدينة الديوانية، المليئة بالخيوط والسجّاد وبيوت الشَّعر أن اشتعلت النيران ببرميل النفط الأسود الذي يستعمله الحاكة لتسخين ماء الحمّام في يوم الجمعة من كل أسبوع، وسرعان ما تجمع الرجال والنساء لإطفاء النيران وكأنهم في "فزعة". وكانوا كلما ألقوا بالماء على البرميل المشتعل يزداد اشتعالا وأزيزا، وإذا ألقوا بالتراب على النفط الأسود تَلزّج وازداد خطرا. واستمروا على هذه الحال لساعات طويلة لحين قدوم جارتنا المسيحية (أم هنري) التي أخذت ،بيديها الصغيرتين الخبيرتين بزرق الابر، بطانية عتيقة وانقعتها بالماء جيدا وألقت بها على البرميل المشتعل، وما هي إلا دقائق حتى خمدت نار البرميل، وعاد الرجال إلى المقهى والنساء إلى تَفقد الخيوط.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. عاجل | المبعوث الأممي إلى سوريا: ليس لدي أي معلومات عن بشار
.. سقوط نظام الأسد.. ما الضمانات التي قدمتها تركيا لروسيا وإيرا
.. ساحة الأمويين تحتضن الاحتفالات في وسط العاصمة دمشق
.. هل ستكون فترة بقاء رئيس الوزراء مكلفا بإدارة المؤسسات العامة
.. كاميرا الجزيرة تدخل منزل بشار الأسد في دمشق