الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أم غاوية 6

حيدر الكعبي

2014 / 8 / 4
الادب والفن




لم أكن بلغت الثالثة من عمري بعد حين حملتني امرأة عمي وذهبت بي الى بيت عمي في شارع أبي الأسود لتريني زوجة أبي الجديدة، وهي ابنة عم بعيدة لأبي— فتاة نحيفة جيء بها، مع "خشْلها" وجهاز عرسها، من مدينة المُحمَّرة. كان الوقت ظهراً، وكان الظل في مجاز البيت لذيذاً بارداً. قالت امرأة عمي: "سلّم على أمك." وحين رفعتني أمي الجديدة كنت ثقيلاً على ذراعيها النحيفتين. قالت: "ياء! يمه حيدر." واستغربتُ معرفتَها باسمي. كانت ترتدي شيلة سوداء وثوباً طويلاً مليئاً بالورد، وكان وجهها مدوراً وساذجاً، وفي جسمها رائحة صابون. وكانت عيناها طيبتين، وحين قبّلتْني مسحتُ القبلة عن خدي. كنت أرتدي دشداشة بازة داكنة اللون. و .. فجأة، اقتحمت أم غاوية البيت، وانتزعتْني بعنف من يدي زوجة أبي التي بدا عليها الذعر وهي تتخلى عني. حين خرجنا أسلمتْني جدتي الى أمي التي كانت تنتظر على الرصيف المقابل للبيت. ذهبتا بي الى سوق الدجاج، حيث يعمل أبي وعمي. كان السوق شبه خال حين دخلناه، لكنه سرعان ما اكتظَّ بالمارة حين راحت أم غاوية تهز عباءتها وتهوّس: "الشر متطشِّر بخشيمي." وهجمت هي وأمي على أبي. وقد أقعدتني أمي على قفص دجاج لتحرر يديها— قفص مستطيل من أعواد الخيزران تفوح منه رائحة ذروق ساخنة. وكالعادة فقد ضرب أبي أمي ضرباً مبّرحاً، لكن أم غاوية أفلحتْ في عضّ أذنه فأدْمَتْها. وكم أثار هذا استغرابي، فأسنان جدتي معدودة وبائدة. ولاشكَّ أنها كانت غاضبة جداً. وكان المشهد قد كسر رتابة الظهيرة وأمتع الحمّالين والعربنجية وباعة الماء (السبيل) والعاطلين عن العمل. ثم خرجت أمي من المعمعة مشوشةَ الشعر، محمرةَ الوجه، مُزاحةَ الشيلة، وخطفتني خطفاً من على قفص الدجاج، ومضت مبتعدة عن السوق وهي تتكلم مع نفسها وترتجف غضباً. فيما تبعتنا أم غاوية متغنية بالنصر، "هاي آنه والدرب بعيد." ورأيت أبي يمسح أذنه الدامية بيشماغه. وفجأة مر بائع (سمسمية) حاملاً صينية يوازنها على رأسه، معلناً عن بضاعته بصوت ممطوط مموسق لعوب. "هاي ســـمـممـ..ســـمـيييييية، عيني سمااااسييييم، سمسووووم اغااااتي، ياااااابه سمسم." ويخالسني النظر بخبث. وسال لعابي للقطع السمراء النمشاء المنمنمة المعينية الشكل من كتل السمسم المتماسك المحلى بالسكر. وطارت ذراعاي باتجاه الصينية. وقد أغضبتْ لهفتي وقلقي ونفاد صبري أمي فنهرتْني بشدة. وأشفق علي رجل من أقارب أبي، فاشترى قطعة سمسمية وتبعني مهرولاً. لكن أمي انتزعت السمسمية من يدي قبل أن أعضها، ورمتها بعيداً باتجاه الرجل. وبُهِتَ الرجل، وركض فالتقط السمسمية من الأرض وهو يضع يده فوق عقاله لئلا يقع، ثم عاد يهرول خلفنا ماسحاً السمسمية بذيل يشماغه. فاختطفتْها أمي مرة أخرى، ورمتها هذه المرة بتصميم أكبر، فانطلقتِ السمسمية من يدها كالسهم، وتحولت الى طائر سنونو بجناحين مدببين حلق في الأعالي وصار نجمة بيضاء في سماء الخضارة. أما على الأرض فكان هناك خليط من الطماطة الخائسة والبيض المكسور والقثّاء الذابل المدعوس بالأرجل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس


.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل




.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة