الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كارشي خان آباد

عبدالله المدني

2005 / 8 / 8
مواضيع وابحاث سياسية


إحدى مشاكل السياسة الخارجية الراهنة للولايات المتحدة هي كيفية الموائمة ما بين الرغبة في سيادة قيم الديمقراطية و حقوق الإنسان في العالم التي تستوجب انتقاد الأنظمة الشمولية و دعم معارضيها ، و متطلبات الأمن القومي الأمريكي التي تفرض أحيانا التعامل مع تلك الأنظمة و السكوت عن جرائمها.

مثل هذه المشكلة لم تكن تؤرق الأمريكيون كثيرا في سنوات الحرب الباردة التي فرضت طبيعتها و ظروفها التخلي عن الكثير من المباديء و القيم لصالح مد النفوذ في كل مكان من اجل تحقيق النصر على السوفييت بأي ثمن، بدليل أن واشنطون لم تكتف بدعم العديد من الدول ذات الأنظمة الديكتاتورية حفاظا على مصالحها الاستراتيجية فيها وإنما ساهمت في ضرب محاولات التغيير. و لعل أفضل مثال هو مساندتها لنظام الشاه في إيران ضد حركة مصدق الوطنية في الخمسينات.

و مناسبة هذا الحديث هو ما أعلنته الحكومة الاوزبكية نهاية الشهر المنصرم من أنها أمهلت واشنطون فترة ستة أشهر لسحب جنودها و معداتها من قاعدة كارشي خان آباد التي تستخدمها الولايات المتحدة منذ عام 2001 بموجب اتفاقية ثنائية. هذه القاعدة التي أرخت لأول تواجد غربي في منطقة آسيا الوسطى منذ زمن الاسكندر الأكبر، ولعبت دورا هاما في تسهيل مهمة القوات الأمريكية للإطاحة بنظام طالبان الأفغاني في أكتوبر 2001 بفضل موقعها الاستراتيجي على بعد 190 ميلا من شمال أفغانستان، كانت حتى وقت قريب عنوانا للعلاقات الاستراتيجية التي ربطت البلدين منذ زيارة الرئيس الاوزبكي إسلام كريموف لواشنطون في عام 2002 . كما كانت تجسيدا حيا لتعاونهما الذي بدأ في عام 1992 بإقامة علاقات دبلوماسية ثم تشعب سريعا لتشمل مجالات متنوعة.

و بطبيعة الحال فان فقدان واشنطون لهذه القاعدة السوفيتية السابقة قد لا يؤثر كثيرا على عملياتها العسكرية و الإنسانية في أفغانستان أو غيرها لأنها تملك بدائل أخرى من بينها قاعدة ماناس الجوية في قرقيزستان حيث تحتفظ بمعدات عسكرية و نحو 1200 عنصر أمريكي و كوري جنوبي، إضافة إلى التسهيلات العسكرية التي تقدمها لها طاجيكستان بموجب تفاهم ثنائي. غير أن الحدث يصلح كمثال جيد على إمكانية أن تقع واشنطون ضحية لسياساتها الداعية إلى الإصلاح و الديمقراطية و احترام حقوق الإنسان فتخسر نفوذا بذلت من اجله الكثير لصالح قوى منافسة لا تعير تلك المسائل أية أهمية.

من السهل بطبيعة الحال على نظام كريموف أن يقول في تبرير قراره أشياء مثل استنفاذ الأغراض التي دعت إلى تواجد الأمريكيين في قاعدة كارشي خان آباد بزوال نظام طالبان و تحسن الأوضاع في أفغانستان، أو مخالفة الأمريكيين لبنود الاتفاقية الخاصة بالقاعدة بتهربهم من دفع تكاليف الصيانة و الحراسة و الوقود و تعويضات الأضرار البيئية الناجمة من حركة طائراتهم العملاقة. غير أن الدوافع الحقيقية للقرار تبدو مختلفة تماما و يكشفها التوقيت، و إلا لأقدمت طشقند على قرارها في وقت سابق.

يجمع المراقبون أن الخطوة جاءت ردا على انضمام واشنطون إلى الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي و جماعات حقوق الإنسان العالمية في التنديد بأعمال القمع و القتل التي ارتكبها نظام كريموف بحق مئات المواطنين العزل في انديجان في مايو الماضي، و في المطالبة بإجراء تحقيق دولي مستقل في تلك الأحداث. كما يمكن النظر للقرار من زاوية المخاوف التي صارت تتلبس الرئيس الاوزبكي من إمكانية استغلال الأمريكيين لتواجدهم على أراضيه في إسقاطه من خلال دعم ثورة شعبية على غرار الثورة الوردية في جورجيا و الثورة البرتقالية في أوكرانيا و ثورة الزنبقة في قرقيزستان، وكلها انتفاضات حظيت بدعم و بمباركة إدارة الرئيس جورج بوش، بل أن الأخير أثني عليها في عدة خطب و عدها – إضافة إلى الثورة البنفسجية في العراق و ثورة الأرز في لبنان – بمثابة البداية لحركة انتصار الحرية و الديمقراطية ضد القمع والديكتاتورية و الفساد في العالم.

و الجدير بالذكر أن الرئيس كريموف كان قد عبر أولا عن امتعاضه من الموقف الأمريكي بتقييد حركة الطائرات الأمريكية في قاعدة كارشي خان آباد ليلا ، ثم لمح إلى إمكانية إعادة النظر في بنود اتفاقيته مع الأمريكيين، و اتبع ذلك بتصريحات تسخر من "القوى التي نصبت نفسها مدافعة عن الديمقراطية في العالم"، الأمر الذي قوبل في واشنطون بالامتعاض بدليل أن وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد استثنى أوزبكستان من جولته في آسيا الوسطى في أواخر الشهر الماضي مكتفيا بزيارة جارتيها، قرقيزستان و طاجيكستان.

هذه التطورات في الموقف الاوزبكي استغلته الصين و روسيا، الدولتان اللتان تبدوان الآن في حالة انتقال من سياسة الصمت أو العمل الصامت حيال توسع النفوذ الأمريكي في دول آسيا الوسطى أو ما تعتبرانها حديقتهما الخلفية إلى سياسة المناكفة العلنية لاستراتيجيات واشنطون في المنطقة. فكلا البلدان التزما الصمت يوم كان التواجد الأمريكي في المنطقة يخدم اغراضهما في التخلص من نظام طالبان و تنظيم القاعدة الداعمين للحركات الإسلامية الانفصالية في الشيشان و داغستان و إقليم سينكيانغ الصيني. أما الآن، وبعدما انتهت طالبان و تشتت القاعدة و نجحت بكين من بناء نفوذ لها في آسيا الوسطى عبر بوابة الاقتصاد و الاستثمارات و المساعدات التنموية و المناورات العسكرية المشتركة ، و تمكنت موسكو من زيادة تواجدها العسكري في المنطقة وتقنينه عبر اتفاقيات ثنائية و جماعية، فان البلدين صارا يحرضان ضد التواجد الأمريكي. وأفضل دليل على صحة هذه المقولة ما حدث في قمة منظمة شنغهاي للتعاون الاقتصادي في العاصمة الكازاخية في أوائل يوليو المنصرم. حيث وظفت بكين و موسكو ثقلهما في هذه المنظمة للضغط على الأعضاء الآخرين (كازاخستان وأوزبكستان و طاجيكستان و قرقيزستان) لإصدار إعلان رسمي يطلب من واشنطون تحديد جدول زمني لسحب قواتها من آسيا الوسطى ، الأمر الذي ردت عليه واشنطون بالقول أن وجودها في المنطقة تنظمه اتفاقيات ثنائية ولا شأن للمنظمة بها.

كذلك قالت حكومتا قرقيزستان و طاجيكستان حينما أعلنتا أن الولايات المتحدة يمكنها الاستمرار في استخدام القواعد والتسهيلات الممنوحة لها في البلدين طالما كان ذلك ضروريا ، بل أن طاجيكستان أضافت أن ما يصدر عن منظمة شنغهاي ليس ملزما و أن المنظمة لا تملك الوسائل والإمكانيات من اجل توفير غطاء امني جماعي لأعضائها ضد الإرهاب العالمي و بالتالي فانه من قبيل قصر النظر إملاء الشروط على الأمريكيين أو حلف الناتو. ولأن هذا الموقف المتناقض مع مضمون إعلان قمة منظمة شنغهاي جاء بعيد زيارة رامسفيلد للبلدين ، وخلافا لبعض التسريبات التي خرجت من دوائر النظام الجديد في قرقيزستان في وقت سابق حول احتمال لجؤ الأخير إلى إخراج الأمريكيين من قاعدة ماناس ، فان واشنطون برهنت على أنها لا تزال تملك بعض الأوراق القوية لمواجهة منافسيها في المنطقة.

و هكذا نجد نظام كريموف في أوزبكستان وحده الذي يسير في اتجاه استبدال تحالفاته مع واشنطون بتحالفات جديدة مع بكين و موسكو اللتين حتما لن تضغطا عليه للإقدام على إصلاحات ديمقراطية و احترام حقوق الإنسان ، كما لا يمكن توقع دعهمها لمعارضيه. وقد اتضح ذلك في الاستقبال الحار الذي لقيه كريموف في بكين في وقت لم تكن فيه دماء ضحايا انديجان قد جفت بعد، وما تبع ذلك – بحسب بعض التقارير – من حصول كريموف على وعود صينية بتعويض بلاده عن أية خسائر قد تنشأ من فك التحالف مع الأمريكيين.

د. عبدالله المدني
*باحث وحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية
تاريخ المادة: 8 أغسطس 2005
البريد الالكتروني: [email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الانتخابات التشريعية في بريطانيا.. هل باتت أيام ريشي سوناك م


.. نحو ذكاء اصطناعي من نوع جديد؟ باحثون صينيون يبتكرون روبوت بج




.. رياضيو تونس.. تركيز وتدريب وتوتر استعدادا لألعاب باريس الأول


.. حزب الله: حرب الجنوب تنتهي مع إعلان وقف تام لإطلاق النار في




.. كيف جرت عملية اغتيال القائد في حزب الله اللبناني؟