الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجنوبية

عبد الكريم وشاشا

2005 / 8 / 9
الادب والفن


الألـــــم

أغلب مذاهب الألم ، تعتمد على تعذيب النفس وعلى الألم كوسيلة تطهيرية للسمو الروحي والمعرفة الخالدة.
إنها تتوصل إلى " المعرفة الحقة" ومشاهدة "الأسرار" بعد تجفيف الجسد من كل الرغبات وردم الخطيئة الـأولى.
إنها تدعو إلى فصم الجسد من وحدته باغتيال جزئه الذي تطلق
عليه " الحيواني" ؛كي تبزغ مشرقة شمس المعرفة من فوق الوهدة المظلمة.
ولأول مرة يلتقي الجلاد بالضحية في جسد واحد !
لكن ما شكل هذه المعرفة وماهيتها في غياب ومحو الجنس؟
أليست المعرفة دائما مقرونة بالجنس؟
و ما أسطورة الخطيئة الأولى، إلا تمثيل وتجسيد لذلك .. إذا كان مثلا
" جلجامش " ابنا للمدينة والحضارة فإن " انكيدو " ابن للطبيعة وأخ للحيوانات البريئة .. وعندما نام " أنكيدو " ، مع كاهنة المعبد المقدسة أو البغي كما سجلت ملحمة بلاد الرافدين، وأراد العودة من جديد إلى اخوته الحيوانات، جفلت منه ونفرت، فأصبح عاجزا عن الركض معها وملاحقتها. لكن في مقابل ذلك، أحس بذهنه فهيما، منفتحا، متقدا وواسعا. مستعدا لاستقبال المعرفة..

البركة

الهواء الأصفر يكتسح البلدة بأجنحته ويوطد خيمته السوداء. وتحدث الناس عن رجل غريب يحمل منجلا يدخل البيوت والمنازل. البلدة كلها غارقة في الرماد كأنها تعرضت لحريق مهول. السوق شبه مهجور مجموعة قليلة من الرجال ملفوفة داخل الجلابيب. جامدة كالأحجار. باستثناء واحد منهم. يغطي رأسه بغطاء جلبابه. يتألم. في الغالب محموم. خرقة متسخة تغطي فمه. في تلك اللحظة وصل رجل كثيف الشعر حافي القدمين. مغبر كأنه قادم من سفر طويل. يحمل في يده مسمارا كبير الحجم. يتقدم وسط الرجال. حلقة الرجال تتململ. كأن تيارا قويا يسري داخلها.
صرخ. عيونه حمراء:
- وصلت الآن من "مولاي إبراهيم" نفّعنا الله من بركاته. بالليل وأنا أصلي. جاءني الولي الصالح. و أمرني. قائلا . انهض أيها المجذوب. إن حاجتك قد قضيناها ومنحناك بركتنا. اذهب. في طريقك إذا وجدت شيئا. خذه. وتوكل على الله. وإذا اعترض طريقك أحد وسألك. أعطيه مما أعطاك الله. إنّا منحناك خبزة فيها شفاء وبركة للناس.
- في طريقي إلى هنا. وجدت هذا المسمار. بعد قليل اعترضني رجل يتألم من ألم الأسنان. وطلب مني أن أقتلعها. قلت له. بهذا المسمار. قال. نعم. إنشاء الله. فألهمني الله واقتلعتها. إنها بركة "مولاي إبراهيم". الولي الصالح. ولي الأولياء والسادات.
استدارت الجماعة نحو الرجل الذي يتألم وطوقته كالجدار.
صرخت صرخة رجل واحد. الله أكبر. الله أكبر.
سقط على الأرض ويده تكمم فمه بالخرقة المتسخة. ركض إليه المجذوب شاهرا مسماره. صرخة واهنة كشاة مريضة أطلقها الرجل. قفز المجذوب إلى عنقه. عنوة أدخل المسمار في فمه. وطفق يحركه. والرجل يستغيث حتى خرّ مغشيا عليه. أخرج المجذوب نابا داميا وصاح.
هاهي بركة "مولاي إبراهيم".

لعنة

" أبا زايو" المتعبد، التائه في روابي و تلال "نتيفة". المتبحر في علم "الكابال" والتلمود. وصل إلى "تابية" وبعيدا عن حارة اليهود سقط ميتا.
اشتد الخلاف بين يهود "فم الجمعة" و يهود "تابية" حول مكان دفن الولي. وفي منزل "ساعدة"، وبحضور أحد الحاخامات المبجلين، شرب الكل نخب التسوية؛ كؤوسا من ماء الحياة صافية كعين الديك.
ساعدة القابلة، قالت إنها وصية أبا زايو نفسه، ظهر لها في الحلم، وأخذ بيدها وأراها مكان الدفن وشروطه.
ومنذ تلك الليلة، بدأت ساعدة تولد نساء المسلمين، بعدما كانت فقط قابلة لليهوديات. وقد أقسمت نساء كثيرات يفضلن الولادة على يديها، أن نورا يسطع بقوة من وجهها خلال ذلك، وأن ولادتهن سهلة تتم دون آلام كثيرة، والأكثر من ذلك أن ساعدة الجدة هكذا أصبحوا ينادونها، علمت الكثيرات منهن فن التوليد.
سنوات قليلة قضت ساعدة، وخرجت " نتيفة" كلها لوداع الجدة، ودفنت كما تمنت دائما في حياتها بجوار أبا زايو.
بعد ذلك حدثت أمور خطيرة..
كان يهود المنطقة ومناطق أخرى، يعقدون اجتماعاتهم واحتفالاتهم في المعبد، وغالبا ما يتم ذلك بالليل، شموع وتراتيل ليلية، هذا ما خمنه الجميع.
لكن في إحدى الليالي كان الصخب المنبعث من المعبد أقوى من المعتاد، وفي ساعة متأخرة من الليل، انطفأت الأنوار وغرق المكان في الظلمة.
قالوا، إن يهوديتين شابتين في تلك الليلة، فرتا من المعبد عاريتين، والتجأت كل واحدة منهما إلى منزل من منازل المسلمين بالجوار.
إحداهما، أجمل فتاة في "فم الجمعة"، وهي " إيزة" التي يعرفها الجميع، ابنة الإسكافي "هارون". والأخرى غريبة عن المنطقة لا يعرفها أحد.
يقولون أن "إيزة" أسلمت وتزوجت بحاميها، وأن كبار اليهود عرضوا مبالغ مالية مهمة وإغراءات كثيرة لاستردادها، لكن زوجها رفض حتى استقبالهم.
أما الفتاة الأخرى، فكان الأمر مختلفا معها. إنهم نجحوا في ذلك وأن الرجل الذي سلم لهم الفتاة، ساعدوه كثيرا حتى أصبح شخصية وجيهة مهيبة.
والآن بعد كل هذه السنين الطويلة، لم يبق أحد من اليهود في المنطقة كلها، رحلوا وتركوا مقابرهم ومذابحهم، أما رجلهم الذي خان الحمى والعهد فقد نزلت عليه لعنة البرص.


قتـــــــيل


الصخور، ملأ السماء والهواء. أفقية ومنحنية، والرسوم المنقوشة على قلبها تواجه الشمس الجنوبية؛ هي رسائل وأعمال فنية عن الحروب الداخلية الطاحنة. والهجرات الكبرى، الشتات، وعن الإرساليات السرية. علامات، إشارات للتائهين والمنبوذين…
ازداد توغل "ميم العمري" في الحكاية فازدادت كاتيا اقترابا منه وتسارعت أنفاسها. فارتجل في الحين حكاية رجل اسمه "أزال" أطلسي المنبت. أحد تلاميذ وأتباع زاوية "أحنصال" الأكثر نجابة وإخلاصا في تاريخها المروع. انتهى به حاله مطرودا تتابعه لعنات الشيوخ والآباء. وعندما أحس بصحراء تمتد داخله وتحول فيها إلى جرذ يقرض قلبه، توقف في هذه الجبال. وعلى صخرة أفقية رسم شريط حياته: أنصاف خيول مذبوحة، خنجران يسيلان دما، زربية، جرة مكسورة، كلاب تعدو، قمر باهت، شمس كامدة و وجه امرأة عريض موشوم يحمل بريقا غجريا منذور بالرحيل والسفر الدائم..
كان ميم وهو يحكي، يذيب أبعاضه ونثارة من روحه ويقطرها في "أزال". يحكي بصدق دافئ، حكاية من نسيج خياله. يعرف جيدا أن أغلب هذه اللوحات الصخرية مزيفة، رسمت حديثا وأن الأصلية هرّبها أفاقون ومغامرون مجهولون دون هوية محددة..قال
"ميم العمري" أن "أزال" لم تقض عليه سياط اللعنات القاتلة، و لا قطّعته أنصال السيوف العديدة المتربصة به في كل المضارب. بل قتله الوجد ورجل ك"أزال"، لا تقتله غير امرأة..امرأة تحمل وجها عريضا غجريا منذور بالرحيل والسفر الدائم..


طيور

طيور، أسراب من الطيور، طيور تبقى طوال السنة في الأعالي وطيور عابرة وأخرى مهاجرة..
الطيور الجنوبية غالبا ما تلتقي بالطيور العائدة من أفريقيا السوداء إلى الشمال، إلى أوروبا. تتوقف في هذه الجبال لتتناسل ربما خوفا من رحلتها المرتقبة المحفوفة بالمخاطر. تتوقف أسراب من الطيور متعبة، مرهقة وغير بعيد منها على اليابسة، على البسيطة، على أمنا الأرض، قطعان بشرية من عمق أفريقيا السوداء، اخترقت الصحراء الجهنمية طولا إلى النقطة الأطلسية. نقطة العبور نحو الضفة الأخرى. رثة وجائعة اجتازت الصحراء القاتلة بكل كثبانها الرملية الغادرة والعاصفة.
في طريقها إلى هنا التهمت كل شيء، السحالي، الثعابين، والجرذان…
……….أما أنا يا كاتيا فإني أفكر في النسر الأطلسي و أتألم.
نسر يسكن أعالي الجبال البلوطية ويقتات من الجيفة.. نسرنا يا كاتيا يطعم نفسه وصغاره من الجثث المتقادمة والحيوانات التي نفقت منذ زمان طويل. هل رأيت نسرا يزاحم الدود على جلود دبقة!! إنه نسرنا ياكاتيا.
أين منه ذلك النسر الذي حد تثني عنه، نسر "بوشكين" رمز الثائر القوقازي. تمرد على السلطة المركزية القيصرية وفضل أن يكون نسرا حرا قصير العمر يشرب من الدماء الحارة، على أن يكون غرابا يقتات من الجيف آمادا طويلة.
وأنت يا كاتيا، أي نوع من الطيور أنت. عابرة. مهاجرة أم ماذا؟؟
أنت غامضة، غامضة يا كاتيا وملتهبة. الصور التي تلتقطينها. كتابتك الليلية. إطلاعك الواسع والمخيف. أسئلتك الدقيقة واحتراسك الشديد والأسماء الغريبة التي تبتهلين بها أثناء احتراقنا.. تستحمين على جسدي وأنت بعيدة عني. بعيدة على شاطئ غريب اسمه فرانز. من هو فرانز ياكاتيا؟ من هو، من هو..
من مسودة رواية (الجنوبية)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لم أعتزل والفوازير حياتي.. -صباح العربية- يلتقي الفنانة المص


.. صباح العربية | في مصر: إيرادات خيالية في السينما خلال يوم..




.. لم أعتزل والفوازير حياتي.. -صباح العربية- يلتقي الفنانة المص


.. صباح العربية | في مصر: إيرادات خيالية في السينما خلال يوم..




.. لقاء خاص مع الفنان حسن الرداد عن الفن والحياة في كلمة أخيرة