الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طفولة الموت – قصة قصيرة

باسم السعيدي

2014 / 8 / 10
الادب والفن


كنت في العاشرة من العمر، ربما أقل قليلاً، قالوا لي ماذا ستفعل؟ إبكِ .. ليس قدّامي الا أن أبكي، فلم يكن بمقدوري قول شيء، بلاغتي العظمى تكمن في دموعي، المفارقة الغريبة هي أنني كنت أبكي فعلاً، لا لأنهم قالوا لي إبكِ، بل لأنني فعلاً لا أجد ما أقوله سوى البكاء.
في العاشرة من العمر، أقف بين يدي قاضِ، لأشهد على حادثة قتل، كيف قُتِلَ فاروق، صديقي وقريبي الذي يكبرني بعام، فارق العام في تلك السن يعني الخبرة، والريادة والزعامة، فارق العام يعني أن الأكبر هو كل شيء، هو الإبداع، هو التطلع، هو الرؤية، وأنا لست أكثر من فتى محظوظ أتيحت له الفرصة العظمى في الإستفادة من هذا التراكم الإنساني من الخبرة والمعرفة.
كان فاروق يعلم ما يفعل، حين كنا نلعب الكرات الزجاجية، كان هو القناص الأول، ويفتي بكيفية الإمساك بالكرة الزجاجية، كيفية التهيؤ وكيفية جرّ الخط الوهمي بين العين والكرة والكرة الهدف، وكيفية الإطلاق، وفتاواه ملزمة لمريديه، لي على الأقل.. لكنه لم يكن يلتزم بفتاواه أحياناً، مردداً بصوتٍ جليٍّ .. يجب تغيير الأسلوب، طبيعة الأرض تفرض ذلك.
كان فاروق هو المهندس الأول والأخير في صناعة العربات الخشبية (التي لايزيد إرتفاعها عن 10 سم فوق الأرض) ذات الدواليب الحديدية (المحامل)، كيفية تثبيت المسمار الواحد الذي يتيح إمكانية حركة مفصلية لأجزاء البدن الخشبي ما يجعل الإستدارة ممكنة للعربة من خلال عصا قيادة أفقية.. وأما إختيار نوع وحجم المحامل من مخلفات محال تصليح السيارات كان الصنعة الأكبر والخبرة الأعظم لدى فاروق، أنا كانت خبرتي في دفع الراكب هي الأفضل التي لاتدانيها خبرة من كل الأقران والأصدقاء، بشهادة فاروق نفسه.
كان يتسلق شجرة التين كقرد، ينتقي الفاكهة الناضجة ولو على إرتفاع عالٍ، يأكلها بلا غسل كنوع من التحدي لوصايا الأهل، يأكل إثنتين ويلقي الي بواحدة .. لأنه أكبر مني بعام.
كنا نلعب "العصابة" أي رعاة البقر، كان فاروق يعيد تصميم المعارك بنفسه، لم يكن يلتزم بالنص الذي أخرجت به أفلام هوليوود، في الحقيقة لم نكن بعمر يتيح لنا فهم ميكانزم الفيلم، لكن مايهم هي المعارك، وكان فاروق يجتهد في تصميم المعركة ويعيد توزيع الأدوار لنا نحن الأصغر منه، طبعاً كان يحتفظ بالبطولة لنفسه، فكلنا نسقط قتلى الا هو يبقى واقفاً حتى النهاية.. مدندناً بموسيقى تصويرية وهو يشعل سيجارته (عود خشبي) ناظراً بطرف عين الى كاميرا وهمية تسجل المشهد.
كان أخي الأكبر جبار وهو صبي يافع يعرف مخبأ المسدس، كان أبي يخبئه بعيداً عن متناول أيدينا، لكنه لم يكن يعلم ما مدى ماتتناوله أيادينا، يظن الآباء أن الأبناء لايعرفون شيئاً، لكنني أجزم أن الآباء لايعرفون شيئاً، نحن صبية الحي كنا نعرف كل شيء، كنا نعرف أين يخبئ جارنا أبواحمد بطل العرق بينما يذهب كل ربع ساعة الى الثلاجة يتمزمز قليلاً من الخيار وملعقة من الرائب بينما ام احمد لاتدري شيئاً، وابوعامر أين يخبئ فائض النقود من أم عامر، أبوماجد كان يضرب زوجته وعياله عند عودته الى البيت إذا خسر في لعب القمار، أبو أمجد كان يسافر كل خميس الى بغداد ليلعب الريسز معللاً ذهابه بمراجعة الطبيب، وحين يفوز يجلب لعياله كعك السيد، نادراً ما كان يجلب الكعك.
كنا نعرف عن أم فؤاد أنها تهرش عجيزتها إذا أكلت على الغداء الباذنجان، وأم مصطفى كانت تموء على ولدها الصغير حمودي إذا مرّ بائع اللبلبي ليجلب لها لفافة ورقية ملئى به كنا ننظر اليه بمجرد دخول البائع الى الحي ننتظر الصوت الرخيم لوالدته (حموووووودي) فيقوم هو لاعناً اليوم الذي أرغمه على ترك لعبة التصاوير ليذهب اليها، كنا نعرف شيئاً آخر لايعرفه الكبار، كنا نعرف مواعد الدورة الشهرية لنساء الدربونة، واحدة واحدة، صحيح لم نكن نحفظ المواعيد لكننا كنا نعرف أن فلانة بدأ موعدها اليوم أو سيحلُّ الليلة على الأرجح.
كنا نعرف حتى تسلسل دخول الحفافة الى نساء الحي، أم عوف أولاً لأن زوجها ميسور الحال فتستفتح عندها، ثم تليها بقية نساء الحي، وكانت أم قنيطرة في آخر الدور، لأنها دائماً تحفُّ بالدفع الآجل، على الراتب في آخر الشهر، وفي الحقيقة لم أفهم كيف تجري عملية الدفع بالضبط؟ لأن آخر الشهر هو نفسه موعد قدوم الحفافة، فلماذا لاتدفع لها من أجرة هذا الشهر لهذا اليوم؟ لماذا تدفع لها اليوم أجرة الشهر الفائت؟ بينما تحف اليوم بموعد الدفع للشهر القادم؟ أم آزاد كانت إذا مرت بها الحفافة تمتنع عن الظهور في الحي لثلاثة أيام متتالية، وكنا نعرف لماذا، لأنها بيضاء البشرة، كانت بشرتها تصاب بالإحمرار طيلة تلك الفترة، لشدة بياضها كما لأنها مشعرة أيضاً فتتعب الحفافة معها وتتعب بشرتها كذلك.
كان جبار يتباهى قدّامنا بأنه يعرف كيفية التصويب بمسدس أبي، وكنا نحسده جميعاً، لكننا نصنع مسدساتنا من أصابعنا، وبعضنا كان يصنعها من الخشب اوأعواد الموطا، عامر كان مسدسه عظم فك الغنم، إستحوذ عليه من بقايا (الباجة) حين ذبحوا خروف العيد الكبير على روح جده، جبار لم يكن يلعب معنا لأنه كبير بما يكفي، لكنه يستعرض مهاراته بالتصويب فإن المسدس في العادة لم يكن محشواً، لم يكن يبتعد عن المخبأ أكثر من نصف متر، في الغرفة الكبيرة خلف إحدى اللوحات المزيفة، خوفاً من أن تراه أمي فتبلغ أبي،كان يسحب الأقسام، ويصوب نحو أي منّا، ويطلق مصدراً صوتاً مفخَّماً في فمه (طااااااااا) مردداً صدى خفيفاً شبيهاً بأصداء الإطلاقة في صحراء تكساس الهوليوودية.
إعتدنا منظره هذا، وصوته هذا، ووقفته تلك، ولم نعد نعبأ به لأنه يثير فينا الغيرة والحسد لا أكثر، وإبداء اللامبالاة منا كان يرد له الصاع صاعين فيغضب، ونحن مستمرون باللعب وكان قائد المجموعة بلا ريب هو فاروق، في صبيحة ذلك اليوم كنا ثلاثة، جبار يلعب بالمسدس قرب اللوحة، وفاروق وأنا، قبالته منحنيين على الأرض، كان يرسم لي خطة فيلم الكاوبوي لهذه الظهيرة، يخطط للمعركة بعناية متخيلاً مواقع الكاميرات الوهمية التي ستصور الفيلم، أين سنربط خيولنا قبل اقتحام الكازينو، من سيطلق النار، ومن سيصاب ومن .. ثم سمعت دويّاً هائلاً .. لقد سقط فاروق على وجهه نظرت نحو جبار الذي فوجئ بإطلاق المسدس النار وإصابة فاروق، ركضت نحو أمي صارخاً جبار قتل فاروق، لم أر جبار بعد الحادثة، المسكين هرب لايلوي على شيء، أمي أخذت بالصراخ في مشهد جنوني، وأنا فقدت الإحساس بالزمن، جاءت الشرطة وسحبت فاروق، رأيته وهم يسحبونه، لم يرفعوه بمحفّة أو شيء آخر، لقد سحبوه سحباً من رجليه، كانت الإصابة في جبهته، رأيت بياضاً غريباً يبرز من ثقب في الجبهة، تمتمت مع نفسي: ليتني كنت انا لاهو .. لم أعرف الى الآن ماهو الدافع الذي جعلني أقول هذه الكلمات، أهو الحب الصغير الذي لا يعرف الإلتواء؟ الصدق الذي لم نعد نمتلكه؟ ربما، لكنني شعرت بأنني قلتها صادقاً ليتني كنت أنا لاهو، كان هذا ممكنا، أربع بوصات فقط كانت تفصل بين رأسينا حين صدر الدوي الهائل، سمعته أنا، لم أدرِ يومها أسمعه هو أم لا .. وحين كبرت علمت أنه لم يسمعه، لم يعرف قطّ ما جرى.
سحبتني أمي بعيداً كي تمنعني من رؤية المنظر، ذلك هو اللقاء الأول لي مع الموت، بالمناسبة هو لم يمت فوراً، لم أفهم كيف لكنهم قالوا أنه مات في المستشفى بعد أربع أو خمس ساعات، كنت أظن أنه سيحيى، وربما يعود لنلعب سوية، لكن هذا لم يحصل أبداً.
وقفت بين يدي القاضي خائفاً، كان الضابط قد أدخلني الى غرفتنا الكبيرة نفسها، جلبوا له منضدة وكراسياً عدة، جلس وجلس جنبه أشخاص آخرون، بعضهم يكتبون، الضابط كان واقفاً بالباب أغلق خلفه الباب، ربما لم يغلقه لا أذكر جيداً، بالحقيقة لم أنتبه للباب أكان مغلقاً أم لا، فقط كنت حائراً ماذا أقول، قبل دخولي قال لي أحد الحاضرين في الخارج وكان اسمه قحطان قال لي إبكِ، لن تملك الا أن تبكيَ، ربما لاحظ إحتقان الأفكار في دماغي الصغير، قال سيسألونك ماذا رأيت، إبكِ، لأنك لاتدري بشيء، سألني القاضي او الحاكم كما يسمونه هناك، ماذا رأيت؟ إنفجرت ببكاء حارٍّ صاخب بحرقة، بكاء من قلبي على خسران صديقي، الخسران شيء أكبر من طاقتي، لم أسمع شيئاً مما قاله القاضي، لكن أحد الحاضرين سحبني من كتفيّ نحو الباب، وأخذني الى خارج الغرفة، قائلاً لقد بكى، لايعرف شيئاً.
أذكر انني استمررت بالبكاء خارج الغرفة، كان الجميع ينظر الي، سمعت بعضهم يقول لقد نجا من الموت بأعجوبة .. إذبحوا له خروفاً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع


.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو




.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05


.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر




.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب