الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التخلف الاجتماعي و البدْوقراطية

محمد بن زكري

2014 / 8 / 10
مواضيع وابحاث سياسية


خلافا لطروحات الايديولوجيا الليبرالية الكلاسيكية ، التي كرستها آلة صناعة الرأي العام الإعلامية الغربية .. كثقافة سياسية شعبوية ، حتى استقرت في أذهان العامة بمثابة المسلمات البديهية ؛ فإنه ليس للديمقراطية مفهوم واحد في الفكر السياسي ، و أهم من ذلك ليس لها مضمون واحد في البعدين الاجتماعي و الاقتصادي لنظام الحكم . فديمقراطية العدالة الاجتماعية التي تقع - كدافع رئيس و هدف مطلق - في أساس انتفاضة المحرومين بليبيا (كما بتونس و مصر أيضا) ضد نظام الفساد و الاستبداد المزمن ، هي شيء آخر مختلف كليا عن ديمقراطية السوق و نظامها الانتخابي ، التي تحتكم الى صندوق الاقتراع - استنساخاً آليّاً للديمقراطية الغربية - فتبدو من حيث الشكل تجسيدا للمساواة ، بينما هي في المحتوى والمحصلة ترسيخ للتمايز على الصعد كافة : الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ، و إعادة انتاج لسلطة الاستبداد و الفساد ، بقوة تأثير المال الانتخابي .. او بقوة تأثير العصبية القبلية ، او الجهوية ، او براجماتية الاحزاب الهجينة (غير المعبرة عن نضج سياسي حداثي في واقع مجتمعات تقليدية متخلفة) .
و في المشهد المأساوي لما سمي بثورات الربيع العربي ، افتئاتا على الثورة بما هي فاعلية تغيير جذري يشمل البنى الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية ، لصالح أغلبية الشعب المغبونة - اقتصاديا و اجتماعيا - نتيجةَ سياساتِ الاستبداد السلطوي و الفساد الاداري و المالي ؛ تأكد (حتى الآن) بصورة قاطعة ، أن صندوق الاقتراع .. لم يُوفق أبدا إلى الأجوبة الصحيحة ، عن أسئلة الثورة و العدالة الاجتماعية ، في امتحان الديمقراطية .. فقد رسب صندوق العجائب في الامتحان رسوبا فاجعا ، يليق بواقع مجتمع متخلف محكوم بثقافة العبودية المقدسة ، بمرجعيةِ إسلامٍ سياسيّ تجريفيّ ، تمتد جذوره في تاريخ الاستبداد و الفساد أربعة عشر قرنا الى دولة الخلافة ، متجسدة في نموذجيْ عثمان و معاوية .. و تمتد موجته التسونامية الى دولة الثقب الأسود ، متجسدة في نموذج معمر القذافي .
و في لعبة الأمم التي تجري أحداثها الزلزالية على المسرح السياسي في شمال افريقيا والشرق الأوسط .. تفعيلا لنظرية الفوضى الخلاقة ، باتجاه إعادة رسم الخارطة الجيوستراتيجية لهذا الجزء الهام جدا من العالم ، بالتطابق مع مصالح الشركات الاحتكارية متعددة القوميات ، التي تنعقد الهيمنة الادارية عليها لحكومة العالم في وول ستريت ، في واقع نظام العولمة الراسمالية الجديدة ، المعززة بدبلوماسية حاملات الطائرات .
و على دويّ أصوات انفجار صواريخ الغراد ، وخلف ستار دخان المعارك الدائرة بين الميليشيات (المشرعنة) ، في إطار الجيل الرابع من الحروب ؛ تم - يوم 21/7/2014 - إعلان نتائج تشخيص فصل جديد من النسخة الليبية لملهاة صندوق الاقتراع ، في سياق ما يسمى ثورات الربيع العربي .
و لأن العملية الانتخابية لإنتاج مجلس النواب ، جرت في نفس ظروف التخلف الاجتماعي ، المحكوم بعناصر ثقافةٍ إسلامويةٍ قبليّة بدويّة ، هي التي شكلت مدخلات صندوق الاقتراع (في انتخابات 25/6/2014 كما في انتخابات 7/7/2012) ؛ فإن مخرجاته من أعضاء المجلس النيابي ، لن تختلف كثيرا - في الجوهر - عن مخرجاته من أعضاء المؤتمر الوطني العام ، ما يعني أن التوجه العام لهذا المجلس النيابي ، لن يخرج عن كونه جسماً سلطويّاً محافظا ؛ إسلامويّ الطروحات ، قبليّ الولاءات ، كومبرادوريّ المحتوى ، في كل مناحي أدائه التشريعي : اجتماعيا و اقتصاديا و ثقافيا و سياسيا . و ذلك بالرغم من اعتماد اسلوب الترشح الفردي بدلا من اسلوب القائمة الحزبية في انتخاب أعضاء هذه الهيئة التشريعية ، كأول مجلس نيابي بعد الإطاحة بحكم العقيد معمر القذافي .
و إذا كان المؤتمر الوطني العام ، بتركيبته الهجينة من الاسلاميين و الليبراليين الجدد ، المعبرة عن تقاطع مصالح الطبقة الكومبرادورية المتنفذة ؛ قد أسّس لأخونة الدولة إداريا ، و أسلمتِها تشريعيا ، و رسملتِها اقتصاديا ؛ فإن مجلس النواب المنتخب خلَفاً للمؤتمر ، سوف لن يختلف عنه كثيرا ، لجهة ارتهانه لمعطيات الواقع الاجتماعي ذي المرجعية الثقافية الاسلاموية القبلية من جهة ، و ارتهانه من جهة أخرى لنمط اقتصاد السوق و الراسمالية الطفيلية ؛ في سياق إعادة إنتاج المجتمع المتخلف و الدولة التابعة . ذلك أن الخلل يكمن أصلا في ثقافة المجتمع أكثر مما يكمن في سلوك الافراد و أدائهم السياسي و الإداري كمسؤولين أتوا الى السلطة عبر صناديق الاقتراع .
و بصرف النظر عن ضعف الاقبال على التصويت ، حيث لم يُقبل على صناديق الاقتراع سوى 630 الف ناخب ، من اصل نحو 3,5 ملايين لهم حق التصويت ، و من أصل نحو 6,5 ملايين نسمة ؛ ما يعني أن المقترعين لا يشكلون سوى نسبة 10 % من عدد السكان (المواطنين) ، و أن مجلس النواب - وهو يستلم مهمة التشريع للدولة الليبية اعتبارا من تاريخ 4/8/2014 - لا يمثل سوى هذه النسبة الضئيلة من الشعب الليبي ، ؛ فإن قراءةً أولية في قوائم اسماء الفائزين بعضوية المجلس النيابي ، تُظهِر أن أغلبيتهم المطلقة هم أناس مجهولو الهوية ، ليس لهم أيُّ تاريخٍ من النضال الوطني أو الحراك السياسي أو النشاط الثقافي او الفكري ، فيما عدا قلة من المحسوبين على تيار الاسلام السياسي (الدكتور مصطفى بوشاقور / نموذجا) ، أو المحسوبين على ما يسمى - بصورة غير دقيقة - التيار المدني او الليبرالي ، بمن فيهم الفدراليون البرقاويون (الدكتور أبوبكر بعيرة / نموذجا) ، و هو ما يعني أن منابر الجوامع و العصبيات القبلية و الجهوية ، هي التي أنتجت مجلس النواب عبر صندوق الاقتراع ، المفرغ من مضامينه السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية ، في ديمقراطية السوق ، تماثلا شكلانيا عبثيا مع المجتمعات الغربية المتقدمة .
و من الوقائع ذات الدلالة السلبية الخطيرة .. لجهة عدم مصداقية المترشحين لعضوية مجلس النواب ، أنّ المفوضية الوطنية العليا للانتخابات ، قد أحالت عدد 350 مترشحا إلى مكتب النائب العام ، بتهمة التخلف عن تقديم تقاريرهم المالية خلال المهلة الزمنية التي حددها القانون . وذلك تطبيقا لنصيّ المادتين (15) و (37) من القانون الانتخابي ، مِن بينهم 3 مترشحين فازوا في دائرتي بنغازي و طرابلس ؛ الأمر الذي يعني أولاً أنهم غير جديرين بالثقة وليسوا أهلا لحمل مسؤولية التشريع وهم يتعمدون مخالفة التشريعات النافذة ، و يعني ثانيا أن دافعهم للترشح لعضوية المؤسسة التشريعية ، هو الابتزاز و المنفعة الشخصية المحضة ، و ليس بناء دولة المؤسسات و القانون و تمثيل مصالح الناخبين (كما ادعوا في إعلاناتهم الانتخابية الإنشائية) .
و تأسيسا على ما تقدم ، فإنه يمكن الذهاب - بكثير من الوثوق - إلى القول بأن تيار الإسلام السياسي ؛ بمختلف أحزابه الإخوانية البراغماتية ، و جماعاته السلفية المتعصبة ، و تنظيماته الأصولية التكفيرية ؛ سيكون له حضور فاعل و مؤثر في مجلس النواب ، وذلك بالرغم من الحجم النسبي الأكبر لما يسمى تجاوزا التيار الليبرالي ، بمكوناته السياسية الهشة ، و بطبيعة بنياته الفكرية الغائمة ، الأقرب إلى المحافظة و اليمين منها إلى الفكر التقدمي المنفتح على ثقافات المجتمعات المتحضرة و تجاربها الديمقراطية .. المعبرة عن درجة تطورها الاجتماعي ، فضلا عن الغياب شبه الكامل لتمثيل قوى اليسار (بالمفهوم الواسع للمصطلح) ؛ الأمر الذي يوفر كثيرا من نقاط التقاطع بين التيارين - اللبرالي و الإسلامي - سواء فيما يتصل بدسترة الشريعة و اعتمادها كمصدر رئيس للتشريع ، أم في التوجه إلى رسملة الاقتصاد و إطلاق قوى السوق .
و من ثم يثبت صندوق الاقتراع مرة أخرى أنه لا يصلح للشعوب المتخلفة ، اللهم إلا كوسيلة تعليمية ؛ باهظة التكلفة الاجتماعية .. لجهة اتساع قاعدة الفقر و تَعمّق حالة التمايز الطبقي ، و باهظة التكلفة الاقتصادية .. لجهة ربط الاقتصاد الليبي - الريعي - بالسوق الراسمالية العالمية و نزح الثروة الوطنية الى الخارج ، و باهظة التكلفة سياسيا .. لجهة إعادة إنتاج نظام الاستبداد الشرقي (الديني القبلي) محلياً و الارتهان للاملاءات الخارجية دولياً .
و إنه لفاقد للرؤية الموضوعية و أدوات التحليل المنهجية العلمية ، أو إنه لوصوليّ متملق شعبويّ .. من يقول إن الشعب - الآن - قد تجاوز حالة التخلف الاجتماعي ، و بلغ سن الرشد السياسية ؛ ففي بلد تلوذ (نُخبه) المتعلمة بالقبيلة لاكتساب القيمة و الاعتبار ، ويلجأ (زعماؤه) و قادته السياسيون إلى مجالس (اللوياجرغا) ، لحل ازمات الحكم ، و الفصل في القضايا المنعقدة سلطة الفصل فيها للدولة ؛ يصبح الحديث عن الديمقراطية و التعددية و تداول السلطة وحقوق الإنسان - بل حتى الوطنية - لغوا لا معنى له أو ترفا فكريا مقطوع الصلة بالواقع ؛ حيث لا زال الانتماء و الولاء للقبيلة يعلو فوق الانتماء و الولاء للوطن ، و حيث تبدو قيم البداوة أقوى حضورا من قيم المدنية والتحضر ، حتى إن التخلف الاجتماعي يتغلغل عميقا في العقول و الذاكرة الجمعية إلى درجة أعتبار الوطن قبيلة كبيرة ، فلا يجد الناس حرجا في تداول مصطلح (قبيلة ليبيا !) ، ذلك أن ثقافة و قيم البداوة لا تعرف الانتماء إلى الوطن .. بل إلى القبيلة ، والبدو نمطياً منغلقون ضد مفاهيم المواطنة والحضارة . و مع التأسلم فهم حُكما ينحازون - متوافقين مع تاريخهم الاجتماعي و بنيتهم المعرفية - إلى خيارات المحافظة و الماضوية و التفلت من استحقاقات النظام المدني ، متمترسين وراء موروث تراكمي من قيم البداوة والعصبيات القبلية و الدينية .
و عليه فإن صندوق الاقتراع ، الذي أفرز في انتخابات 2012 المؤتمر الوطني العام ، كسلطة حاكمة (تتمتع بالشرعية الديمقراطية) ، يغلب عليها طابع الإسلام السياسي ؛ لن يكون مفاجئا انه قد أفرز في انتخابات 2014 مجلسا نيابيا (يتمتع بالشرعية الديمقراطية) ، كسلطة تشريعية يغلب عليها سياسيا طابع القبلية و الجهوية ، مع استمرار وجود فاعل و مؤثر للإسلام السياسي .. سواء كحراك تنظيمي أم كثقافة شعبوية سائدة .
على ان ثمة قاسما مشتركا بين الهيئتين التشريعيتين ، هو تمثيلهما لمصالح الشرائح - حتى لا أقول الطبقة - الكومبرادورية و الراسمالية الطفيلية ، التي تَضاعَف حجمها و تعززت قوتها بانضمام مئات من مليونيرات غنائم الحرب و سلطة الميليشيات (الإسلامية و القبلية و الجهوية) خلال السنوات الثلاث الفائتة .
و في هذا الواقع المجتمعي المثقل بتراكمات القرون من التأسلم و القبلية ، تضيع الأصوات الوطنية ولا تجد لها قواعد شعبية قوية تستمد منها قوة التأثير السياسي ، فتكون الحصيلة صفريّةً لجهة تحقيق أهم مطلب لأية ثورة شعبية ، و هو تحديدا و حصرا : العدالة الاجتماعية .
غير أنه بالرغم من كل تلك التحفظات و المآخذ ، فإنه لا مناص من القبول بالمتاح من شروط الممارسة الديمقراطية ، التي يمثل صندوق الاقتراع إحدى أدواتها الإجرائية ، و القبول من ثم بنتائج العملية الانتخابية ، إرساءً لقواعد مجتمع الحريات التي أقرتها المواثيق الدولية ، و البناء عليها تراكميا ، بفعل الوعي و المزيد من الوعي ، باتجاه تحقيق ديمقراطية العدالة الاجتماعية ، أخذا في الاعتبار أنه لا عدالة اجتماعية حقيقية و لا ديمقراطية حقيقية دون توزيع عادل لثروة المجتمع بين أبنائه ؛ فعندما يبدأ الوعي - الحقيقي لا الزائف - تبدأ كل الثقافات الاستلابية بالتعري من اقنعتها ، و تشرع كل مواريث التخلف الاجتماعي بالتلاشي ؛ ذلك أن الوعي ، بما هو فاعلية كشف و تجاوز ، يضعنا في حالة يقظة تامة ، نستعيد معها ذواتنا من أسر الأوهام الغيبية العدمية التي تبخّسنا في نظر انفسنا ، و نستعيد إنسانيتنا من الاغتراب في ايديولوجيا المباراة التي تشرعن الظلم الاجتماعي و تبرر التمايز الطبقي ؛ فنعيد اكتشاف الواقع و نسيطر عليه ، بعد ان كان الواقع هو الذي يسيطر علينا .
و إن الوعي الثوري وحده هو الذي يحرر الجماهير من أوهام أيديولوجيا التعزية و من أمراض التخلف الاجتماعي ، و يضعها وجها لوجه أمام مسؤوليتها التاريخية عن مصيرها . لكن الوعي ليس معطى جاهزا ، و ليس انعكاسا ميكانيكيا للواقع ، بل هو محصلة عملية نضالية ترتقي بالشعب الى مستوى النخبة . و في غياب تنظيم شعبي ثوري تقدمي ، تقع مهمة تغذية الجماهير بالوعي الثوري على كل مثقف وطني يناضل بالكلمة و الموقف و العمل بين الناس و معهم مِن أجلهم ، يعلمهم و يتعلم منهم كواحد منهم ، ليتحرر معهم .. لا ليستثمر فيهم للوصول الى السلطة .
و يكون الشعب قد صار واعيا بذاته كقوة اجتماعية منظمة تملك إرادة الفعل و التغيير و انتاج تجربة ديمقراطية مؤنسنة و متطورة ؛ عندما ينظر الاستغلالي حوله ، فلا يجد أناسا (قنوعين) يرضون بـ (القسمة و النصيب) . و ينظر المسؤول حوله ، فلا يجد أناسا مسكونين بالدونية ، يتطلعون اليه من تحت ، و ينعتونه بألقاب صاحب المعالي و صاحب السيادة . و ينظر الزعيم (الوجيه !) القبليّ حوله ، فلا يجد قطيعا من البشر يخصّونه باحتكار الحكمة ، ويسبغون عليه صفة الأبوّة المعنوية . و ينظر خطيب الجامع حوله ، فلا يرى أناسا سذّجا يلتمسون لديه الوساطة مع السماء .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. العراق: السجن 15 عاما للمثليين والمتحولين جنسيا بموجب قانون


.. هدنة غزة تسابق اجتياح رفح.. هل تنهي مفاوضات تل أبيب ما عجزت




.. رئيس إقليم كردستان يصل بغداد لبحث ملفات عدة شائكة مع الحكومة


.. ما أبرز المشكلات التي يعاني منها المواطنون في شمال قطاع غزة؟




.. كيف تحولت الضربات في البحر الأحمر لأزمة وضغط على التجارة بال