الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محمود درويش... كزهر اللوز أو أبعد

محمد السعدنى

2014 / 8 / 12
مواضيع وابحاث سياسية


الناس صنفان، إما «كزهر الطاولة» تتقاذفها الأصابع كيفما اتفق، فإذا هي رقم في حيز محدود، لافرق،الشيش كالبيش كاليك والجهار، لايرتجي منها إلا إزجاء الفراغ وتمضية الوقت، وإما كزهر الليمون المبهج بما يخلفه في محيطه من جمال وبهجة وأثر. وهكذا كان هو، مر في حياتنا ذات يوم ولايزال في حضرة الغياب علي أوراق الزيتون يغني، ويهش العصافير التي بلا أجنحة، عاشق من فلسطين لم يترك الحصان وحيداً وقدم لنا آخر الليل بطاقة هوية: سجل..أنا عربي، ورقم بطاقتي خمسون الفا، وأطفالي ثمانية، وتاسعهم سيأتي بعد صيف، فهل تغضب، سجل، أنا عربي، وأعمل مع رفاق الكدح في محجر، ولا أتوسل الصدقات من بابك ولا أصغر أمام بلاط أعتابك فهل تغضب.هو لم يترك العصافير تموت في الجليل، ولم يقدم لنا ورداً أقل، ولا أعتذر عما فعل الحصار والاحتلال ببني وطنه حين قال: يادامي العينين والكفين، إن الليل زائل، لاغرفة التوقيف باقية، ولازرد السلاسل، وحبوب سنبلة تجف، ستملأ الدنيا سنابل.
كان محمود درويش من أهم زهور سلة خبزنا اليومي في الشعر مع مجايليه سميح القاسم والفيتوري ونازك الملائكة وأمل دنقل وفدوى طوقان وملك عبد العزيز وصلاح عبد الصبور وعبدالوهاب البياتي وأدونيس، وكان علي الضفة الأخري من النهر صلاح جاهين وعبدالرحمن الأبنودي وفؤاد حداد وغيرهم ممن مثلت أشعارهم بالنسبة لجيلي رؤية ونافذة وتحريضا. كنا نقوم بمسرحة شعر المقاومة في مدرسة الإسكندرية الثانوية وقصر الحرية وبعدها في جامعة الإسكندرية، كما مسرحنا «جوابات حراجي الجط» العامل بالسد العالي لزوجته فاطمة أحمد عبدالغفار في منزلها الكائن في جبلاية الفار، وكبرت معنا الأشعار والأفكار وتعقدت الدنيا ولايزال محمود درويش يغني في غزة والجليل وبيت حانون والشجاعية وخان يونس، ولايزال العم عبدالرحمن الأبنودي يكتب ويحرض ويصنع عالماً من الأمل والشجن والثورة، ولئن اعتذر من قبل أن يستدعي عزيزة وعيد لتوشكي، فلعله اليوم يستدعي أبنائهم للغناء والعمل معنا في مشروعنا القومي لقناة السويس الجديدة الذي هو لهم وليس للشركات عابرة القارات.
عرفت وجيلي محمود درويش أكثر عندما تلقفنا بلهفة كتاب الراحل الكبير رجاء النقاش «محمود درويش شاعر الأرض المحتلة»، وأدعو دار الهلال أن تقدم لأبنائناالشبان طبعة جديدة منه، ثم تابعنا دواوينه عصافير بلا أجنحة وأوراق الزيتون وعاشق من فلسطين وآخر الليل والعصافير تموت في الجليل، وبقية أعماله التي ازدادت مع الزمن تعقيداً ولفتها غلالة من الفلسفة والشجن خصمت من غنائية محمود درويش لتضيف إلي غناه ثراء فكرياً جسد أزمة المثقف والمفكر وتوقه للإنعتاق والخلاص والحرية في عذابات الإغتراب واللاوطن، وراح يحن لخبز أمه، فالأم وطن، والأم سكن والأم تاريخ وذكريات لاتعرف النسيان: أحن إلي خبز أمي، وقهوة أمي، ولمسة أمي، وتكبر في الطفولة يوماً علي صدر يوم، وأعشق عمري لأني، إذا مت، أخجل من دمع أمي.
كما مواطنه المفكر إدوارد سعيد، مارس درويش السياسة، أصاب وأخطأ، لكن خطيئته الكبري لم تكن سوي اجتهاده لفهم العالم وتصاريف الدنيا ومصير الإنسان. عاني كما إدوارد سعيد عذابات مابعد الكولونيالية و»خارج المكان» حيث المنفي والغربة حتي علي أرض الوطن. توالت دواوينه: لاتعتذر عما فعلت، الحصار، في حضرة الغياب، كزهر اللوز أو أبعد، حيث كتب: لوصفِ زهرِ اللوز، لا موسوعةُ الأزهارِتسعفني، ولا القاموسُ يسعفني...سيخطفني الكلامُ إلي أحابيلِ البلاغةِ،..فكيفَ يشعُّ زهرُ اللوز في لغتي أنا، وأنا الصدي؟وهو الشفيفُ كضحكةٍ مائيةٍ نبتتْ، علي الأغصانِ من خفرِ النَّدي... وهو الخفيفُ كجملةٍ بيضاءَ موسيقيةٍ...وهو الضعيفُ كلمحِ خاطرةٍتطلُّ علي أصابِعنا، ونكتبها سدي. ولعله لم يختر زهر الليمون «الزيزفون» وتجاوزه لما هو أجمل، ولما توحد مع ذاته وأفكاره ومشواره، صار كما شجرة اللوز المزهرة المثمرة المعمرة كما رسمهافينسنت فان جوخ، وربما أبعد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيضانات عارمة تتسبب بفوضى كبيرة في جنوب ألمانيا


.. سرايا القدس: أبرز العمليات العسكرية التي نفذت خلال توغل قوات




.. ارتقاء زوجين وطفلهما من عائلة النبيه في غارة إسرائيلية على ش


.. اندلاع مواجهات بين أهالي قرية مادما ومستوطنين جنوبي نابلس




.. مراسل الجزيرة أنس الشريف يرصد جانبا من الدمار في شمال غزة