الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التمازج بين العقيدة والتاريخ

محمد كمال

2014 / 8 / 21
مواضيع وابحاث سياسية





تكاد سطور التاريخ عند بعض الشعوب ومنها شعوبنا العربية والإسلامية خاصة أن تكون نصوصاً مقدسة، ونرى من خلال تعاطينا مع الدين والمذاهب المؤولة والمفسرة له أن تاريخنا العربي الإسلامي قد أُسْقِطَ قسراً على عقيدتنا الإسلامية، فتلاقح التاريخ عندنا بالعقيدة وتلازمت العقيدة بدهاليز التأريخ المتعرجة، فتولد من هذا التلاقح والتلازم شبيه عقيدة موازية بفروعها المذهبية التي حكمت عليها سطور التاريخ أن تكون متباينة إلى درجات التنافر والتلاطم.
تَسَطَّرَ التاريخ العربي الإسلامي بفعل النشوء والانتشار وبانتكاسات التصارع والتخندق وتقلبات الخلافة الحاكمة من راشدية إلى أموية ومنها إلى عباسية تشظت من الخلافة المركزية الواحدة فيها إلى شتات من دول ودويلات متباينة وحيناً متصارعة وإلى يومنا هذا.
العقيدة الصرفة الخالصة تمازجت متلازمة بتاريخ سطرته كتبة السلاطين وعلى هوى السلاطين، فباتت العقيدة حبيسة سطور مفروضة على التاريخ، فلا التاريخ تاريخ مؤتمن تطمئن له النفوس وتهضمه العقول ولا العقيدة عقيدة صرفة خالصة جامعة لقلوب المؤمنين في روضة روحانية واحدة؛ وقس على ذلك تباين إيمان المؤمنين بين دفتي عقيدة وسطورٍ مُسَطَّرَةٍ في مجاز التاريخ.
بيت القصيد من طرح هذا الأمر ليس العقيدة الصرفة الخالصة التي لا تشوبها شائبة ولا يلامسها شك لا من قريب ولا من بعيد، بل الأمر في أسطر سطرتها أقلام ولا ندري كيف تم تدوينها وما الدافع إلى تدوينها وكيف تم التدقيق المهني الأمين للاطمئنان إلى مصداقيتها قبل توثيقها تاريخاً موثقاً. بيت القصيد أن هذه السطور التي أُدْرِجَتْ ضمن مادة التاريخ لم تعرف التمحيص ولا التدقيق ولا التثبت من صحة مروياتها لتتوثق تاريخاً مؤتمناً يمكن الوثوق به والاطمئنان إلى حيثياته ومكوناته من أحداث وشخوص وأماكن وظروف وأهداف ودوافع. إن الذي يثير و يبرر هذا الشك في سطور – تسطير – تاريخنا هو أن جل هذه السطور سطرت في فترات تعاقب السلاطين العباسيين وليس هناك من مدونات، مسطرة أو موثقة، تعود إلى الخلافة الراشدية ولا الأموية.
إن ذاكرتنا في قراءات المدونات التاريخية تبين بأن هناك نصوصا متباينة إلى درجة التناقض للموضوع التاريخي الواحد وأن هذه القراءات المتناقضة عديدة وتغطي أزماناً متفاوتة، إضافة إلى أن منطق التاريخ يؤكد و يحذر بأن ليس كل ما يسطر تاريخاً يكون تاريخاً موثقاً تطمئن له النفوس وترتضيه العقول. إن منطق التاريخ قد أثار شكوكاً عديدة في مدونات تاريخية مختلفة ومتعددة، ومنها على سبيل المثال المجلدات التي دون فيها تاريخ الإسكندر، حيث أن نفراً من المؤرخين وعلماء التاريخ الضالعين في علوم التاريخ ومدونات التاريخ والتأريخ قد أثاروا الشكوك حول مصداقية تلك المدونات خاصة وأنها دونت بعد الإسكندر بأكثر من مائة عام؛ حتى الفيلم السينمائي الذي يعرض حياة الإسكندر ومغامراته في غزو البلدان يبين بعضاً من جانب التصرف الذاتي في التدوين عندما أوعز الفيلسوف أرسطو إلى كتبة تاريخ الإسكندر إلى تغيير الأسباب التي أودت بحياة الإسكندر. هذه الجزئية في الفيلم هي شذرة تلميح بأن تسطير التاريخ ليس بالضرورة تاريخاً موثوقاً به.
تعريجاً من عهد الإسكندر الذي كان قبل فجر الإسلام بنحو الف وسبعمائة عام إلى العهد الأموي في خلافة سليمان بن عبدالملك، حيث أن إحدى المدونات تروي أن إبان بن عثمان سلم امير المؤمنين كتاباً من تأليفه بعنوان «المغازي» والذي كان يحوي سرداً مؤرخاً لحياة النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته وغزواته، وكان ذلك في حجة سنة 82 من الهجرة، فأتلفها سليمان بن عبدالملك ؛ هذه هي إحدى المرويات المسطرة تاريخاً عن كتاب يتناول سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ويقوم أمير المؤمنين بإتلافه. هذه الرواية المسطرة تاريخاً في العهد العباسي يجب ألّا يمر علينا مرور الكرام إطمئناناً ووثوقاً بحيثياته.
على المتلقي لهذه الروايات المدونة في كتب التاريخ أن يتوقف عندها وقفة استفسار وتساؤل واستبصار في الرواية واستحضار الشك في أمرها؛ فلا أحد يستطيع أن يجزم بأن إبان بن عثمان قد دون الكتاب فعلاً، وعلى افتراض أنه صاحب الكتاب، لا ندري إن كان فعلاً سلمه لسليمان بن عبدالملك، وعلى افتراض أنه فعلاً سلم الكتاب إليه، هل من المعقول والمنطق أن يقوم أمير للمؤمنين في خلافة إسلامية عظيمة بإتلاف كتاب يتناول سيرة حياة خاتم الأنبياء صاحب الدعوة الإلهية ومؤسس الخلافة الإسلامية العظيمة؟
هذه أمثلة نسوقها لنبين أن السطور المدونة تاريخاً قد تثير الشكوك في مصداقيتها من ذات النصوص نفسها، عندما نقيسها اختباراً من منطلق طبيعة الأمور ومنطق الرواية ذاتها.
إن التوثق من الروايات التاريخية وخاصة تلك التي تبعد زمناً بين الحدث والتدوين ليس بالأمر اليسير، ومهما تعرضت تلك الروايات للتدقيق العلمي الرصين، فإن المنتج بعد التدقيق إلى التوثيق لا يمكن أن يطابق الرواية الأصلية بالكامل؛ وليس بخاف على أحد بأننا شهود في زماننا هذا على مدونات وروايات تتعلق بزماننا تشوبها الأهواء و تعجنها المصالح وتشوه أو تجمل وقائعها وحيثياتها على هوى القائمين عليها.
إن التدوين التاريخي كان ومازال عرضة للمصادقة والموافقة من قبل أولي الأمر على قمة هرم السلطة أو المؤسسة و على هوى المصالح و التصارع أكثر منه عرضة للتدقيق العلمي و التوثيق الأمين.
بالنتيجة فإن درجة المصداقية في المرويات التاريخية تتفاوت حسب أهميتها و مدى مساسها بالمصالح العليا لذوي الشأن، وهذه المصداقية والأمانة الواقعية والعلمية غير متوفرة في المدونات التاريخية إلّا بنسب لا تطمئن لها النفوس و لا ترتضيها العقول، ويبقى الشك سَيِّدٌ لا يطاله الشك في أمر مدونات التاريخ جلها.
فإذا كان التاريخُ شَكاً، فعلينا أن نتصور ما الذي يمكن أن يتولد من تزاوج العقيدة بالتاريخ، خاصة وأن هذا التاريخ صار بفضل هذا التزاوج مقدساً قدسية نصوص العقيدة؛ فأصبحت معه الشخوص التاريخية رموزاً معصومة شبه مقدسة لا تُمَسَّ لا بمساءلة ولا بنقد حتى وإن كان نقداً ناعماً خانعاً، وأضحت الأحداث بمعاركها وبطولاتها وخنادقها وتأرجحاتها ثوابت إيمانية مازالت متواصلة متصاعدة بسعير نارها إلى يومنا هذا .
إن المولود من هذا التزاوج هو بؤرة محورية من بؤر الفتنة في عالمنا العربي والإسلامي وأضحى معه وبدواعيه، الإنشطار والتشظي والتخندق من ثوابت العقيدة.
إن الشعوب العربية والإسلامية أمام تَحَدٍّ موازينُ إرثه ثقيلة ودروبه شائكة ومتعرجة، فكيف السبيل إلى إنقاذها من هذا التزاوج بالفصل حتى يمكن إنتشال العقيدة الخالصة الطاهرة من شوائب السطور المسطرة تاريخاً ؟
لا يتحقق هذا الفصل والطلاق بين العقيدة والتاريخ إلّا بكشف الستار عن شوائب المدونات المسطورة تاريخاً، وأخذ العقيدة عقيدة خالصة دون تاريخ وعدم الزج بالتاريخ في العقيدة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مستشرق إسرائيلي يرفع الكوفية: أنا فلسطيني والقدس لنا | #السؤ


.. رئيسة جامعة كولومبيا.. أكاديمية أميركية من أصول مصرية في عين




.. فخ أميركي جديد لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة؟ | #التاسعة


.. أين مقر حماس الجديد؟ الحركة ورحلة العواصم الثلاث.. القصة الك




.. مستشفى الأمل يعيد تشغيل قسم الطوارئ والولادة وأقسام العمليات