الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البارون والكتخدا: ملاحظات عابرة حول الثقافة المصرية في عصر فاروق حسني

عبد الناصر حنفي

2014 / 8 / 23
الادب والفن


لا شيء في الأوضاع الحالية للثقافة المصرية يمكن فهمه أو تفسيره، ناهيك عن تغييره، دون المرور بـ "فاروق حسني"، بدءا من مؤسسات الوزارة، وأحوالها، وطرائق عملها، مرورا بقوائم المسئولين الكبار، والمتوسطين، والأجندات التي تحتوي اسماء المرشحين الدائمين أو المؤقتين لمناصب بعينها، ونمط الخبرات الإدارية والثقافية المتراكمة لدى هؤلاء جميعا، فضلا عن أصحاب الحظوة في التقدير الرسمي عبر منح أو بعثات أو سفريات أو غيرها، وصولا لتجمعات أو كتل المثقفين وأساليب التعامل معها، ووسائل حشدها، أو إمتصاصها وتفريغها من الداخل، فعبر حوالي ربع قرن قضاها فاروق على رأس الثقافة المصرية، لا شيء أفلت من تأثيره، لا شيء على الإطلاق.
وبالرغم من ذلك فمن العبث الحديث عن رؤية ذات معالم واضحة، أو خطة متكاملة، أو مشروع ثقافي، حكم مسار فاروق ووزارته "طويلة العمر"، فهو لم يمتلك في حياته قط ما يشبه شيئا كهذا، لا مع الثقافة، كما يقول مؤيدوه، ولا حتى ضدها كما يقول معارضوه، وفي الفضاء الذي إحتله فجأة في أعلى نقطة رسمية تتحكم في مجريات ما هو ثقافي، لم يجد الرجل نفسه "هناك" ملزما بالسعي وراء أي خطاطات أو أفكار منظمة، باستثناء ما يتعلق بالحفاظ على بقائه في منصبه، وهو ما لم يكن يمثل صعوبة كبيرة بالنسبة له وقد إحتل كرسيه الوزاري بناء على نجاحه في القيام بمناورة دبلوماسية، ومخابراتية، بين كيانات أسطورية مثل الجيش الإيطالي، وقوات "دلتا" الأمريكية، بالإضافة إلى عدة حكومات وأجهزة مخابراتية (أثناء أزمة السفينة أكيلي لاورو)، إلا أنه سرعان ما وجد أن الواقع الثقافي والمؤسسي، بما في ذلك نظام الحكم ذاته، كان أكثر هشاشة وإنحطاطا بما لا يقتضي استدعاء مهارات وتكتيكات المناورات الدبلوماسية والمخابراتية على نحو دائم، وذلك بعدما أسرف في إستخدام بعضها خلال العام الأول من ولايته. وهنا بدأت شخصيته الأولى -"الكتخدا"- في الظهور.
والكتخدا -حرفيا أمين الوالي أو وكيله- هو أمير مملوكي له تلامذة، وأتباع، وأغوات، وعادة ما كان يتم "إقطاعه" مجال ما في الدولة، يصبح تحت تصرفه المطلق، سواء كان ذلك أراضي إقليم ما، أو نشاط تجاري بعينه، وليس هنا مجال تحليل الفارق بين نظام الإقطاع الأوروبي، والإقطاعية المملوكية التي عادة ما تدرج تحت مبحث "نمط الإنتاج الآسيوي"، ويكفي أن نشير أن ما يعود للأمير المملوكي لا يرتبط بشخصه، أو بملكيته الخاصة (باستثناء بعض الفوائض التي يقتطعها لنفسه) وإنما بموقعه من الدولة، وبقدرته على الحفاظ على هذا الموقع.
وإهتمامات الكتخدا محدودة التنوع والأفق بحكم طبيعتها، ولا تسري أبدا بعيدا عن كرسيه، مثلما أن قلقه لا يتجاوز أبدا مصيره الخاص، فهو يناور إزاء من فوقه دائما وبلا توقف، فيما يقضى ما بقى له من الوقت في إختيار وتربية اتباعه، ومراقبتهم، وإحاطتهم بعطاياه، وتكبيلهم وإرباك حساباتهم بمنعه، مع إخضاع بعضهم لحملات تأديبية، شبه دورية، تتفاوت في قسوتها ودمويتها حسب الظرف العام للدولة، والعلاقات الداخلية لللإقطاعية.
أعوام قليلة كانت كافية لبناء إقطاعية الكتخدا الجديد، وإعادة تكييف ما كان بها سابقا من مؤسسات أو أشخاص طبقا لرغباته ومتطلباته، بحيث بدا أن آوان الإستمتاع بفوائضها قد حان، وهنا ظهرت الشخصية الأخرى لفاروق حسني: "البارون".
والبارون هو ذلك الإقطاعي النبيل، الذي يستنزف عرق فلاحيه في ضياعه، مثلما يستنزف دماءهم في حروبه، ولكنه، من أجل مجده الشخصي، أحيانا ما يهتم بأشياء عظيمة، فقط ليثبت أنه أعظم منها، دون أن يتقيد في ذلك بأي أغراض نفعية مباشرة، أو حتى أي قيود موضوعية، فقراره هنا ذاتي، بل ومزاجي تماما، حيث سخاء في العطاء بلا حدود لمن "يظنه" ينتمي لمجال الفن، وإغداق مسرف على مباني أو أبراشيات تقام وسط حقول فلاحين يتضورون جوعا.
وهكذا، فكل تاريخ الثقافة المصرية في الربع قرن المنصرم، وحتى الآن، يمكن تفسيره بالرجوع إلى هذا الإزدواج في شخصية فاروق بين البارون والكتخدا، فهناك مؤسسات كاملة أنشئت وأديرت بوصفها منحة البارون، وتحت رعايته، مثل صندوق التنمية، وجهاز التنسيق الحضاري، ومركز الابداع، والمتحف المصري الجديد، ..الخ، وكلها تعمل –حتى الآن- في إطار من الغموض والكتمان الذي يليق بالتبعية المباشرة للبارون، بينما بقية المؤسسات الأخرى تم تحويلها إلى إقطاعية موحدة تدار تحت رقابته وبالوسائل والطرق التي يفضلها، وذلك انطلاقا من سيطرة تلاميذه وأتباعه عليها، وهيمنتهم على دوائر صنع القرار فيها.
أما الهيئة العامة لقصور الثقافة، فقد إحتلت وضعا أكثر تعقيدا في علاقتها بالبارون والكتخدا معا، فقد اضاع البارون معظم ميزانياتها في بناء معماريات فارهة دون التفكير حتى في مصادر وتكلفة صيانتها وتشغيلها، ناهيك عن عدم مراجعة الحاجة إلى هذه الفخامة ومدى قيمتها الاستعمالية في تقديم خدمة ثقافية حقيقية مقارنة بتكلفتها التي كان يمكن أن توفر العديد من المواقع الثقافية في مناطق مختلفة، وهي حالة لا يمكن تفسيرها إلا بالعودة إلى تركيبة البارون، الذي لا يفكر فيما يحتاجه الناس قط، فهذه أبنية لم تنشأ لفائدة أحد، بل ليتكلم عنها ويسمع بها كل أحد على نحو يجعل البارون يشعر أنه ماض في منافسة تاريخية تسير لصالحه مع اسم مثل "ثروت عكاشة"، ولا شيء آخر كان مطلوبا هنا، فقد كان الكتخدا فاروق يحتقر الثقافة الجماهيرية، مثلما يحتقر الأمير المملوكي تلك الدار القديمة التي شهدت سنواته الأولى كمملوك صغير، وهو أمر كان البارون يراه بمثابة إهانة لا يمكن ردها إلا بهزيمة تاريخية ساحقة لمن أسس هذا الكيان، ولكن عندما بدا أن هذا الإنتصار بعيد المنال، لجأ إلى إنتقام رخيص بعض الشيء، حيث إختطف "قصر الحرية" من الثقافة الجماهيرية قبل اسبوع من افتتاحه، وبعد أن تكلف ترميمه حوالي 25 مليون من ميزانيتها، ووهبه لصندوق التنمية التابع لبارونيته، وطرد كل موظفيه الذين قد يكون منهم من عاصره وهو موظف صغير في ثقافة الإسكندرية.
ومن جهة أخرى، فلا يمكن تفسير أحوال، وطرق تفكير، ونمط خبرات، قيادات وزارة الثقافة، وطرق إعدادهم لقراراتهم، وكيفيات تنفيذها، دون الرجوع إلى دراسة حملات الكتخدا التأديبية، تلك الحملات التي بدأت مبكرا مع أحمد قدري، الذي وافته المنية عقب خروجه بطريقة مهينة، توالت بعد ذلك إلى درجة أنه لم يفلت منها احد باستثناء بضعة مقربين عددهم لا يكاد يتجاوز اصابع اليد الواحدة، لكن القليل منها فقط هو ما تسرب إلى الإعلام، بعضها لظروف خاصة، وأغلبها لأن الكتخدا كان يحب أن يرى أتباعه قسوته وأن يحسبوا حسابها. تلك الحملات تراوحت وطأتها بين مجرد تقليم الأظافر والإحراج المعلن، كما حدث مثلا مع جابر عصفور عندما بدا أن اسمه يلمع أكثر من اللازم لدى دوائر الحكم وقتها، أو إنهاء الحياة الوظيفية بشكل خشن، كما حدث مع حسين مهران، أو بترها بقسوة كما حدث مع علي ابو شادي، قبل أن يتم استعادته مرة أخرى، أو تدميرها بشكل نهائي كما حدث مع محسن شعلان، فضلا عن أنها كانت لاتتورع أيضا عن التنكيل الباطش بصحفي شاب مثل محمد عبد الواحد، صاحب كتاب "مثقفون تحت الطلب" والذي تمرد على رعاية البارون، فتم فضحه على نحو أنهى حياته العملية تقريبا، فسافر إلى خارج مصر، ثم عاد مريضا، ومنزويا، قبل أن يموت في صمت منذ عدة أعوام دون أن يشعر به أحد.
هذه هي المعالم الأولية الحاكمة لعصر فاروق والممتدة حتى الآن. ومنذ أكثر من ثلاث سنوات يتساءل بعض المثقفين بين الفينة والأخرى بتشكك بالغ: هل إنتهى عصر فاروق حسني حقا؟ بعضهم يطرح هذا السؤال على سبيل إحراج أو إدانة المسئولين الحاليين سياسيا!!، فيما البعض الآخر يطرحه بحسرة من كان يتوقع أو يتمنى شيئا مختلفا عما يراه بالفعل!، وكلا الحالتين لا يمكن أن ننتظر منهما نتائج مجدية. فالسؤال الذي يجب التفكير فيه وبحثه فورا ودون إبطاء هو: هل سينتهي عصر فاروق حسني قريبا؟ وكيف يتم ذلك؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا