الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شجاعة التفكير خارج المنهج

نوال السعداوي
(Nawal El Saadawi)

2014 / 8 / 27
مواضيع وابحاث سياسية



قال الأطباء لدوستيوفسكى إنه مريض بالصرع فقال لهم: إذا استطاع الصرع أن ينتج هذا الأدب والجمال والابداع والمتعة فهو ليس مرضا بل مزيد من الصحة المجهولة للأطباء.
لم يبعث الأطباء أى بهجة فى طفولتى، أصواتهم معدنية خالية من المشاعر، حركتهم ميكانيكية كالآلات، يعلقون فى أعناقهم خراطيم، يدقون على الصدر بأصابع حديدية، يغرزون فى الجسم الإبرة والمشرط، ثم يقبضون على المظروف المنتفخ بالفلوس. أما الموسيقى فكانت تغمرنى بالبهجة، يقفز قلبى ويطير، أرقص مع البنات والأولاد، نغنى للقطن والقمح والبرتقال، تحت وسادتى مفكرتى، أكتب فيها مشاعرى وأفكارى، لم أفصل بين شعورى وتفكيرى إلا بعد دخولى المدرسة، زميلتى إزيس أحبها، أغنى وألعب وأكل معها، يضربنى المدرس على أصابعى بحافة المسطرة ويقول، سيحرقها الله فى النار لأنها كافرة ويحرقنى معها.
كان المنهج المدرسى يعلمنا كراهية الأديان والأجناس الأخرى، وتمييز الذكور عن البنات، واحتقار الخدم والبوابين ذوى البشرة السوداء. لم أتخلص من هذه القيم العنصرية الطبقية الذكورية إلا بعد القراءة خارج المنهج الدراسى، بتشجيع من أمى وأبى. يبدأ الابداع فى الطفولة بالتفكير خارج المنهج المقرر، مما يحتاج إلى وعى الأم والأب (أو شخصية أخرى) بأهمية تحصيل المعرفة، يولد الإنسان بعقل يشتهى المعرفة أكثر من الجنس، أغلب المدرسين (الفرويديين) يتصورون أن الجنس محرك التاريخ، ويتصور أغلب المدرسين (الماركسيين) أنه الاقتصاد وليس الجنس. والدراسات الأحدث أوضحت أن "المعرفة" هى المحركة للتاريخ، لولا شهوة المعرفة ما عرفنا القطار والسيارة والطائرة والكمبيوتر، لولا شهوة المعرفة ما أكلت حواء الثمرة المحرمة، لولا كسر المحرمات لأغرقنا الطوفان والجهل والمرض والعبودية، لم أدخل كلية الطب لأكون طبيبة بل لأشرح المخ بالمشرط وأعرف كيف يعمل؟ كيف يمكن للمادة (المخ) أن تفكر وتشعر؟ دراسة تشريح المخ وفصوصه وسوائله الكيمائية وموجاته الكهربية، ضرورية لمعرفة كيف نفكر، لكن التفكير لا يقوم فقط على الكيمياء والكهرباء، هناك عوامل أخرى غير مادية مثل الإرادة الشخصية والدوافع الاجتماعية وغيرها، وأغلب مناهج التعليم تفصل بين المادى واللامادى، أو بين الجسم والنفس والعقل والروح، وهكذا يتم التجهيل بأهم وأجمل ما فى الحياة وهو التفكير المبدع.
يقوم الإبداع على "المعرفة" الكلية للظواهر، والأفكار والأجزاء المترابطة فى أى مجال علمى أو فنى أو اجتماعى. ولولا تطور المخ مع التغيرات الاجتماعية الدائمة لما شاهدنا الطائرة والكمبيوتر والأقمار الصناعية وعلوم الفضاء.
والشجاعة تؤدى إلى صدق الشعور والتفكير، ويحتاج الصدق إلى الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، بعض شخصيات قليلة تضحى بحياتها وأمنها وسمعتها من أجل التفكير خارج المنهج والصندوق المغلق المفروض، هؤلاء المبدعون من النساء والرجال تظل شعلتهم مضيئة لا تخبو، وإن وصموا بالجنون أو ماتوا بالسجون.
تتميز المناهج فى الطب والعلوم التطبيقية الأخرى بالجمود والثبات على النظريات السابقة، لهذا كانت المحاضرات فى كلية الطب مملة، أهرب منها إلى الأدب والموسيقى، لماذا تسعدنا الموسيقى؟ لأنها تخاطب (فى آن واحد) العقل والجسم والروح والوجدان، لأنها تعيدنا إلى الأجزاء التى بترت منا فى الطفولة، تعيدنا إلى ما قبل عمليات ختان العقل والجسم، نعود إلى كياننا الكلى الذى كان ونحن أطفال، قبل أن تفسد المدرسة فطرتنا وذكاءنا الطبيعى، قبل أن تفصل المدرسة بين أجسامنا وعقولنا، بين المادى والروحى، بين الفردى والاجتماعى، بين الذكر والأنثى، بين الأنا والآخر، بين الماضى والمستقبل، بين الأرض والسماء، بين الزمان والمكان، بين الإله والإنسان، وغيرها من الثنائيات والتقسيمات الموروثة منذ تحريم المعرفة.
فى كلية الطب كان الأساتذة يملكون الشهرة والثروة والصلات الوثيقة بالسلطات الحاكمة، يحشون عقولنا بمعلومات تتسرب بعد الامتحان. وسألنى الاستاذ عن عمليات الختان فى إمتحان شفهى، قلت "مضاعفاتها خطيرة أحيانا والأفضل منعها وكأنما نطقت كفرا، وأعطانى صفرا. وتعرضت لشتى الضربات من زملائى الأطباء، بعد أن بدأت أكتب عن مضار عمليات الختان التى أودت بحياة بعض الأطفال الإناث والذكور.
كليات الطب المتقدمة بالعالم أضافت مواد جديدة لمناهج التعليم، منها الأدب والموسيقى، لترقية الشعور والوجدان لدى الأطباء، وتعليمهم كيف يفكرون. وفى بلادنا وجد التعصب الدينى الأصولى فى نقابة الأطباء أرضا خصبة. لا تساعدنا مناهج التعليم عن التفكير، بل تقدم معلومات جاهزة لنحفظها ونطبقها. التعليم الجيد لا يعطينا السمكة بل يعلمنا كيف نصطادها من البحر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - شهوة المعرفة لا تضاهيها شهوة
فؤاده العراقيه ( 2014 / 8 / 27 - 11:37 )

تحية طيبة للمبدعة دوما وابدا الكاتبة والأديبة والطبيبة نوال السعداوي المحترمة جدا...(والدراسات الأحدث أوضحت أن -المعرفة- هى المحركة للتاريخ) قد اخصتِ بهذه الجملة الكثير للذين يتصورون بأن الأقتصاد هو اساس الحياة الكريمة دون الوعي والمعرفة اولاً

شهوة المعرفة هي اسمى الشهوات وهي خاصة بالإنسان كونه قادراً على ان يطور وعيه ومنها سيصل لإنسانيته الحقيقية ويتحرر من كل اشكال عبوديته, ولكن هذه الشهوة تُقمع لديه منذ الطفولة وتبقى شهوة الطعام والجنس قائمين لديه وخصوصا لدينا نحن العرب بسبب الحكام المأجورين الذين استولوا على التعليم والأعلام ليُضعفوا الإنسان من خلال تقسيمه وتجزئته فيفصلوا بين شعوره وفكره وجسده ويضعوا الروح بمفردها والجسد بمفرده وعقله وهكذا يتم فصله وتجزيئه (فرق تسد) بعد أن يضعوا سقفا لحريته ولتفكيره ويحرّمون عليه من ان يتجاوز هذا السقف ليقتلوا كل شعور انساني لديه ليكون مجرد آلة بين ايديهم يوجهوها لمصلحتهم فقط لينشئوا اجيال مشوهة ومرعوبة دوما لا تهتم بعقولها بل تكون عبدة لغرائزها , ولا تفكر لأنها لو فكرت لعرفت ولو عرفت سوف لن يبقوا حكاما متنفذين عليه بعد ان يتحرر من عبوديته





2 - شهوة المعرفة لا تضاهيها شهوة
فؤاده العراقيه ( 2014 / 8 / 27 - 11:54 )

تحية طيبة للمبدعة دوما وابدا الكاتبة والأديبة والطبيبة نوال السعداوي المحترمة جدا...(والدراسات الأحدث أوضحت أن -المعرفة- هى المحركة للتاريخ) قد اخصتِ بهذه الجملة الكثير للذين يتصورون بأن الأقتصاد هو اساس الحياة الكريمة دون الوعي والمعرفة اولاً

شهوة المعرفة هي اسمى الشهوات وهي خاصة بالإنسان كونه قادراً على ان يطور وعيه ومنها سيصل لإنسانيته الحقيقية ويتحرر من كل اشكال عبوديته, ولكن هذه الشهوة تُقمع لديه منذ الطفولة وتبقى شهوة الطعام والجنس قائمين لديه وخصوصا لدينا نحن العرب بسبب الحكام المأجورين الذين استولوا على التعليم والأعلام ليُضعفوا الإنسان من خلال تقسيمه وتجزئته فيفصلوا بين شعوره وفكره وجسده ويضعوا الروح بمفردها والجسد بمفرده وعقله وهكذا يتم فصله وتجزيئه (فرق تسد) بعد أن يضعوا سقفا لحريته ولتفكيره ويحرّمون عليه من ان يتجاوز هذا السقف ليقتلوا كل شعور انساني لديه ليكون مجرد آلة بين ايديهم يوجهوها لمصلحتهم فقط لينشئوا اجيال مشوهة ومرعوبة دوما لا تهتم بعقولها بل تكون عبدة لغرائزها , ولا تفكر لأنها لو فكرت لعرفت ولو عرفت سوف لن يبقوا حكاما متنفذين عليه بعد ان يتحرر من عبوديته





3 - شجاعة
ناس حدهوم أحمد ( 2014 / 8 / 27 - 16:35 )
النصوص العظيمة والصادقة صاحبة النظرة الثاقبة
تحرك في الإنسان مشاعره وتهز وجدانه وتمكنه من القدرة العالية
على الإبداع وعلى سبر أغوار الحقائق وفهمها
نصوص نوال السعداوي وكتاباتها تفعل نفس المفعول فتجعلك تحدق في كلماتها فتراها في وضوحها ودقتها وجماليتها صادقة وتملك الكثير
والكثير من الصواب
لأنها سيدة تفكر خارج المناهج التي إعتدناها والتي شوهت واقعنا وأردته
صريعا واقع غير قادر على مواجهة الحياة
وإلا لماذا كنا نحن العرب على هذا الوجه البشع وعلى هذا الوجه الفاشل
في تدبير أمور مجتمعاتنا العربية وعدم القدرة على إيجاد الحلول لمشكلاتنا
وبؤسنا وتخلفنا؟
كل الكتاب المبدعين كانوا خارج المناهج خارج المألوف
كل المبدعين كانوا متمردين على السائد والمألوف
هذا هو الإبداع يخلق النور ويغير وجه المألوف ا لمأفون
من أجل إيجاد واقع جديد منسجم مع الحياة
ولهذا كل المبدعين متهمين إلى أن يتغير الواقع بإرادتهم هم
هم المنارة هم الأمل والدواء



4 - شجاعة
ناس حدهوم أحمد ( 2014 / 8 / 27 - 16:57 )
التاريخ يحكي لنا عن المبدعين الحقيقيين الذين غيروا مجرى الحياة
وأناروا السبيل لنا لكي نتعلم من تمردهم ونستفيذ من معاناتهم
لقد قالوا لا
من أجل الصدق والحب
منهم من مات فداءا لقناعته وضرب لنا المثال الصحيح في التفاني حتى العمق من أجل تكريم المعرفة
فالمعرفة هي قانون كل الكائنات وكل الأحياء لأن المعرفة منارة السيرورة الإنسانية وتطورها
التاريخ يزخر بعظماء الناس الذين كرسوا حياتهم من أجل اكتشاف
الأشياء والآليات والحقائق بها بنت الإنسانية واقعا مغايرا للماضي ولا زالت تكافح من أجل بناء المستقبل وهكذا ستسير
حياتنا إلى الأبد
ودائما كما قالت لنا السيدة نوال
سنسير خارج المناهج لبناء الواقع العربي الجديد ولن تثنينا
هذه الإحباطات التي تقف في وجهنا ولا هذا الألم الذي يترصدنا
ولا هذه التهديدات التي تريد هدم مخيلتنا
سننتصر بتمردنا على كل المعيقات بإرادة المعرفة


5 - النظره الدونيه للاخر
انتصار الأنصاري ( 2014 / 8 / 28 - 14:00 )
اعيش في اوربا منذ عقود الاوربيون متهمون دائما بالعنصريه من قبل الجاليات الاجنبيه هنا رغم كل مايحصلون عليه من حقوق اضطروا لاجلها ترك اوطانهم لكنهم في نفس الوقت يحملون في دواخلهم نزعاتهم الطائفيه والعنصريه التي رافقتهم في رحلاتهم الى بلدان اللجوء فضلا عن ذلك يحاولون نشرها وتعزيزها ويغرسونها في نفوس اطفالهم لم ارى العنصريه والتمييز الطائفي في البلدان التي عشتها في اوربا كما رأيتها وعشتها في بلدي منذ الصفوف الاولى في الابتدائيه حين كانت المعلمه تميز بين الطالبه الغنيه والطالبه الفقيره بين ابنة المديره ابنة الفراش بين ابنة المسؤول في الدوله وابنة المطلوب بتهمه سياسيه وها نحن نعيشها اليوم فيما بيننا ونحن في ارقى بلدان العالم بين السني والشيعي والمسيحي والمسلم العنصريه تعيش في دواخلنا والنظره الدونيه للاخر حملناها معنا منذ صغرنا لذايجب محاربتها في دواخلنا قبل محاربتها عند الاخرين تحياتي لاروع مبدعه الدكتوره نوال


6 - صلاة الصبح
طلعت ميشو ( 2014 / 9 / 1 - 19:40 )
سيدتي العزيزة
لو كانت شعوبنا العربية تقرأ كتابات كهذه بدل النصوص الشيطانية، لكُنا اليوم نركض في مُقدمة الشعوب. شكراً لكل محاولاتك في تحسيس العملاق النائم على وسادة الكتب الدينية العفنة
إستمري رجاءً
طلعت ميشو

اخر الافلام

.. أبرز القضايا التي تصدرت المناظرة بين بايدن وترامب


.. الرئيس الأميركي جو بايدن ومنافسه ترامب يتبادلان الاتهامات بع




.. هل يتنحى بايدن؟ وأبرز البدلاء المحتملين


.. توثيق اشتباكات عنيفة في رفح جنوبي قطاع غزة




.. آيزنكوت: يجب على كل الذين أخفقوا في صد هجوم السابع من أكتوبر