الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التقنيات الأولية لمسرح الشارع

عبد الناصر حنفي

2014 / 8 / 28
الادب والفن


مقدمة: حكايات وحالات، وصوب مسرحية.
حكاية أولى: عام 2006 كنت عضوا بلجنة تحكيم مهرجان مسرح شبرا الخيمة مع الصديقين العزيزين أ.أحمد خميس، ود.محمد زعيمة، وكان المخرج "محمد الجنايني" (رفيق بني سويف) مشاركا بفرقته: "السويس لمسرح الشارع"، والتي كانت حينها تكاد تكمل عقدها الأول من التخصص والإنهمام بهذا النوع المسرحي (سبق لي أن شرفت بتحكيم ومشاهدة عروض لهذه الفرقة منذ موسم 97-98). وعندها تراءى للجنة أن هذا التاريخ يستدعي اختبار خاص للفرقة التي كان عرضها يبدأ بطقس "الزفة"، فيما كان نادي شبرا الخيمة الذي أقيم فيه المهرجان يحتوي على عدد من قاعات المناسبات المهيئة في إنتظار بعض حفلات الزفاف، ولذلك اشترطنا على المخرج أن تقوم الفرقة بزفة حقيقية لعرس حقيقي وإلا تم استبعاد العرض من التسابق!! وعلى الفور انتشر افراد الفرقة بين مواكب العرس وقاموا باختبار وفحص التجمعات الاحتفالية إلى أن توافقوا مع إحداها وأرسلوا لجمهور المهرجان للحضور، وعبر الدقائق التي استغرقها طقس الزفة بوصفه تحية سوايسية خالصة للعروسين وأهاليهما كانت مجموعة من أفراد الفرقة تنتشر بين المعازيم لتفسر لهم من هم وما الذي يقومون به، وتقضي على اية توترات محتملة قبل نشوبها، وخاصة من قبل الفرقة المحترفة المستأجرة خصيصا للقيام بموكب الزفة.
حكاية ثانية: عام 2012، تبنت إدارة المسرح بقصور الثقافة مشروعا لتدريب وإنتاج مسرح الشارع، وسنحت لي الفرصة لمشاهدة عدد من هذه العروض أثناء تحكيم مهرجان اقليم الصعيد لنوادي المسرح والذي أقيم بسوهاج، وقد دونت في تقرير اللجنة ملاحظة مؤداها أن أغلب هذه التجارب هي مجرد عروض في مكان مفتوح أكثر منها مسرح شارع وأنها تفتقر للخبرات والمفاهيم التقنية اللازمة لتقديم هذا النوع المسرحي. وبعد عدة أشهر تحققت تماما من صحة هذه الملاحظة حين تم تقديم أحد هذه التجارب بالقاهرة في بيئة أكثر تشتيتا مما إعتاد فريق العرض على مواجهته، وكانت النتيجة ارتباك شديد وملحوظ للممثلين في لحظات ما قبل بداية العرض، وعندما تحدث معي المخرج سألته عن التدريبات الخاصة التي أخضع لها ممثليه، ثم أشرت إليه ببعضها وكان رد الفعل في الحالتين أشبه بعبارة "ليه ده كله ... ده مسرح شارع"!!.
حكاية ثالثة: عام 2014، كنت محكما لأحد تجارب الشارع التي تتبناها إدارة المسرح، وقدم العرض في حديقة عامة عبر شكل دائري دون أدنى اعتبار لبنية وأبعاد تلك الحديقة والتي لا توفر دائرة ذات مساحة كافية للتمثيل أو للمشاهدة، وكانت النتيجة كارثية، حيث أدى ضيق المساحة إلى اضطراب وخلل في حركة الممثلين و أوضاع الجمهور.
هذه الحكايات الثلاث (والتي اعتذر عن طابعها الشخصي) شكلت بالنسبة لي إحداثيات، أو نقاطا جيوديسية لمعالم الجزء الغارق من جبل الجليد الذي إعتدنا على تسميته بمسرح الشارع، إنها في ذاتها لا تقول الكثير بالطبع (تقنية النقطة الجيوديسية ليست سوى محاولة خلق إحداثي معلوم في قلب مكان مجهول)، ولكن التجول الصبور حولها دائما ما كان يكشف عن ملاحظة أخرى أو تحليل أدق، أو تساؤلات اشد غموضا، وطوال السنوات الماضية كانت مثل هذه الحكايات تستبدل بأخرى أكثر إستثارة للتأمل، أو تخلي مكانها لحكايات تؤشر لما هو أكثر تطلبا، إلى أن وجدت هذه الحكايات الثلاث البسيطة طريقها هنا لتصبح جزءا من كتابة يتعين عليها أن تضع أمامنا إلماحات عامة مدققة حول بعض التقنيات الأولية لـ "مسرح الشارع"، والتي تمثل بالنسبة له طريقته، أو هندسته، الخاصة والفريدة في إنشاء، وحفظ، "بنيته التحتية" التي لا يمكن اتمام العرض بنجاح دون تجهيزها بشكل جيد.
وتنقسم هذه التقنيات إلى مجموعتين رئيستين، هما: "تقنيات ما قبل العرض"، والتي ستتكفل بمهام تحضير وتجهيز مكان العرض، وتجميع وتهيئة جمهوره، وخلق الغطاء الجمالي لمجال حضوره. و "تقنيات ما حول العرض"، والتي تتضمن طرائق السيطرة على مكان ومناخ العرض، وأساليب مواجهة ما قد يتعرض له من مشكلات قد تعوق استمراره. وهذه التقنيات ذات طبيعة إجرائية بالمقام الأول، بمعنى أنه مهما تم تداولها في إطار خطاب نظري، إلا أنه لا يمكن اكتساب الوعي بها، وتطوير المهارات اللازمة لتفعيلها، إلا في إطار الممارسة الحية، وليس في قاعات التدريب المغلقة.
وهذا التحليل لن يتطرق لأية موضوعات، أو حتى ملاحظات، متعلقة بفنيات عروض مسرح الشارع، أو تنويعاتها الجمالية، أو مناهجها ومذاهبها، أو سياساتها، .. الخ، فما سنحاول طرحه هنا يمثل بطبيعته مجالا متعاليا و مجاوزا لكل هذه الظواهر، بمعنى أن هذه التحليلات ستنطبق على اي تجربة مسرح شارع بغض النظر عن طبيعة العرض أو رهاناته الجمالية، أو الثقافة التي ينطلق منها أو يتوجه إليها، فقط طالما التزمت هذه التجربة بالهدف الرئيسي لمسرح الشارع، وهو إنشاء حالة مسرحية من العدم تقريبا، ففي هذا الإطار، كلما تم إهمال فعالية بعض من هذه التقنيات فقد يعني هذا أن ثمة مشكلة ما ظهرت واستمرت بلا معالجة أو حل، وبالتالي فهناك خسارة محققة قد وقعت حتى وإن لم يتم الإنتباه لها، ففي عالم الشارع تسود قوانين العقاب المباشر بلا تسامح.
وبالطبع فهذا لا ينطبق على أغلب التجارب التي تقدم تحت مسمى مسرح الشارع، بينما هي في الحقيقة نتاج "صوب مسرحية"، حيث المكان المجهز مثل محمية طبيعية، والجمهور المصقول المتعاطف مسبقا، والنخبة التي تجيء مرتدية تأويلاتها حول أصابعها بغرض الاستمتاع بـ "المغامرة" و"الجماليات المتمردة" لهذا النوع الفني!!. ففي مثل هذه الاجواء لن يكون العرض ملزما إلا بنفسه دون أي مهام أو أعباء أخرى، وستنعدم الحاجة إلى تلك التقنيات الأولية المؤسسة لحالة العرض، ولكن بالمقابل فقد تظل مثل هذه التجارب أسيرة الصوبة التي نشأت فيها، لتظل تحيا داخل جهاز التنفس الصناعي، دون أن تملك القدرة أو الرغبة في الخروج إلى مواجهة العالم المفتوح.
أولا: تقنيات ما قبل العرض.
وهذه التقنيات ستعمل من لحظة دخول فريق العرض إلى المنطقة المستهدفة، وحتى لحظة بداية العرض. والفاعل الرئيسي الذي يقود هذه المرحلة ويوجهها هو مجموعة "منظمي العرض"، والتي ينبغي أن تتكون من أكثر أفراد الفريق خبرة. ومن الأفضل إلا يكون أغلبهم من الممثلين المشاركين بأدوار رئيسية في العرض، فهذه المجموعة ستنشغل بمهام متعددة أثناء العرض أيضا. ولنلاحظ أنه حتى إذا كانت المجموعة تنحصر في المخرج وطاقمه المعاون، فهم هنا لا يتصرفون من منطلق وضعيتهم الفنية بالنسبة للعرض، بل كمنظمين لسياقات أوسع تتطلب مهارات ومهام مختلفة عما هو فني، حتى وإن بدا أحيانا أنها تتداخل معه.
1- "لفت الإنتباه" وتهيئة الجمهور:
مسرح الشارع لا علاقة له بجمهور الدقات الثلاث الذي حسم قراره مسبقا بمشاهدة عرض مسرحي واستعد لذلك وقطع رحلة، ومر باجراءات، وتحمل أي تكلفة استلزمها تنفيذ قراره، فمسرح الشارع يقدم بالاساس لجمهور عشوائي لم يتخذ قرارا بعد حيال العرض، فضلا عن انه جمهور منشغل بامور وأنشطة أخرى، مثل الشراء أو البيع، أو المرور عبر هذا المكان إلى مكان آخر.. الخ، وقد تسبب بعض هذه الانشغالات تعارض مصالح مع عرض مسرح الشارع، ففي حكاية فرقة السويس كان هناك تعارضا حادا أدى إلى إزاحة مؤقتة لمجموعة الزفاف المحترفة التي كانت تؤدي عملها الذي تتقاضى عنه أجرا، وفي سياقات أخرى قد ينشأ تعارض مصالح مع نشاط تجاري مثلا، أو مرور وسائل نقل، أو مدخل أحد المنازل او أماكن العمل، أو المباني العامة .. الخ.
وكل ذلك يستوجب مجموعة من الاجراءات السابقة على العرض، إذ يجب أولا اختبار جمهور المكان ومستوى توتره وانتباهه ومدى استعداده لتقبل التجربة، وذلك عبر عمليات بحث لطبيعة الكتلة الجماهيرية في المكان ونوعية انشغالاتها، مع التأكد من عدم وجود شقاقات أو خلافات ساخنة فيما بينها، واكتشاف أي تعارض مصالح أو نزاع محتمل مع العرض، وفضه أو التفاوض حوله. والبعض قد يفضل إنجاز كل هذه الاجراءات أو جمع المعلومات الكافية حولها في الفترة الزمنية السابقة على العرض بما يستلزمه هذا من أن يستعين فريق العرض، أو يضم في تكوينه، مجموعة من الباحثين ذوي الخبرات المتخصصة القادرين على جمع هذه المعطيات وغربلتها وتحليلها من أجل التوصل إلى رسم خريطة لطبيعة جمهور المكان المستهدف وتقديم الإجابة عن كل الأسئلة التي يحتاجها منظمو العرض. إلا أن هذا المنحى ينطوي على جموح أكاديمي مبالغ فيه، فهو فضلا عن كلفته العالية والمشقة التي يتطلبها، فليس له سوى مردود ضئيل من الناحية العملية، فبغض النظر عن مدى كفاءة واجتهاد هذا الفريق البحثي فإن نتائجه لن تستطيع تجاوزطابع العمومية التي قد تكون مفيدة أحيانا ولكنها غير كافية دائما، إذ كيف للناس أن يظهروا طبيعة رد فعلهم تجاه تجربة لم يمروا بها بعد !!. وعموما قد لايحتاج الأمر في كثير من الأحيان سوى لزيارة واحدة للمكان المستهدف يتم خلالها تحديد مدى صلاحيته لاستقبال العرض من عدمه، واستكشاف التوقيت المناسب لذلك، بالإضافة إلى إجراءات استخراج التصاريح الرسمية المطلوبة واستئذان القيادات المحلية غير الرسمية إن تطلبت ظروف المكان هذا. أما بقية المهام فستتكفل بها واحدة من أهم التقنيات الأولية لمسرح الشارع وهي: "تقنية لفت الانتباه"، والتي يتعين عليها أن تستكشف وتقيس مدى اهتمام الجمهور، وتدفعه لاتخاذ قرار بشأن العرض، وهو ما يأتي مصحوبا بحوارات تعرف بالتجربة أو ترد على أي استفسارات حولها، مع استمالة الشخصيات المتعاطفة في المكان، وتستمر هذه العمليات والاجراءات المرتبطة بهذه التقنية حتى يتحقق تهيئة المناخ المناسب لبداية العرض.
وينقسم فريق "لفت الانتباه" إلى عدة مجموعات تعمل بالتزامن، اثنتين منها تمارس أنشطة أدائية، وأخرى تباشر مهام اقرب للعلاقات العامة والتواصل الاجتماعي، وأخيرة (تتضمن منظمو العرض بالضرورة) تختص بتلقي البيانات وتحليل النتائج واتخاذ القرار.
والمجموعة "الأدائية" الأولى ستحتل المنطقة المقررة لاقامة العرض، بحيث تصبح مركز لتجميع الجمهور واستقباله، وعبر تقديم بعض الجمل الادائية (موسيقى، رقص، جمل حركية، أجزاء من مشاهد تمثيلية .. الخ) ستقوم بتعريف الجمهور الوافد بالفرقة والعرض وطبيعة التجربة التي يقدمونها، وقواعد مشاهدة العرض .. الخ، مع تحفيزهم على طرح اي تساؤلات والإجابة عليها عن طريق الاداء التمثيلي -كلما أمكن-، وصولا إلى دعوة بعضهم للدخول في حلقة التمثيل والمشاركة في الأداء. أما المرحلة التالية (والتي يجب أن تسبق بداية العرض) فيمكن البدء في تهيئة الجمهور لاستقبال العرض عبر تقديم موضوعه أو تيمته وشخصياته الرئيسية بغية جذب الاهتمام إليها واستطلاع وقياس الانطباعات حولها.
أما المجموعة "الأدائية" الثانية فستطوف بارجاء المكان بالكامل، وستعمل بنفس مباديء المجموعة السابقة بحيث تقدم جملا أدائية وتدعو إلى العرض وتدخل في حوارات تمثيلية مع المقيمين بالمكان، وخاصة من أصحاب المهن بحيث يتم تصوير طابعهم المهني في جمل أدائية سريعة لجذب اهتمامهم وبناء لغة حوار ذات طابع مسرحي معهم، وبناء على ما يتم استخلاصه من هذه الحوارات يمكن أن تتضمن بعض الاداءات شيئا عن المكان وأهله لبناء أرضية من الاهتمام المشترك، ويتخلل ذلك التعريف بالعرض وفريقه وتوجيه الجمهور إلى مكانه وتوزيع أي اوراق دعائية متوفرة.
وهكذا، فعبر عمل المجموعات الأدائية ستتكشف أي نقاط سخونة أو تعارض مصالح في المكان، مثلما ستتضح الشخصيات الأكثر تعاطفا مع تجربة العرض، وسيتعين على المجموعة الخاصة بالعلاقات العامة أو التواصل الاجتماعي أن تعمل على هذه المعطيات فور ظهورها بحيث تفض أو تهديء أي خلافات تنشأ وتتفاوض حول حالات تعارض المصالح لحلها وتجتذب المتعاطفين وتهيئهم –إن أمكن- للقيام ببعض المهام المعاونة للعرض.
أما المجموعة الأخيرة، والتي تتضمن المنظمين، فينبغي عليها أن تظل في حالة تواصل لحظي ومستمر مع نتائج عمل المجموعات السابقة بحيث تصل من خلالها إلى تقدير طبيعة الجمهور وكثافته المتوقعة، وما يترتب على ذلك، وصولا إلى إتخاذ قرار بدء العرض.
وقبل أن نترك هذه النقطة ربما ينبغي أن نضع علامة تحذير على ظاهرة الجمهور المزيف، أي هؤلاء الذين يتم استجلابهم من أصدقاء ومعارف فريق العرض، أو يتم توجيه دعوات خاصة لهم من خارج المكان، فرغم أن هذا الجمهور قد يعمل بمثابة محيط أمان للعرض، إلا أنه في نفس الوقت سيمثل عبء عليه وسيعمل كحائل أو حاجز بينه وبين الجمهور الحقيقي للمكان، وفي المجتمعات الشديدة المحلية (مثل المناطق الشعبية والقرى والمدن الصغيرة) المستهدفة أساسا من قبل مسرح الشارع قد يتسبب هذا الجمهور الغريب في إثارة العديد من المشاكل المتعلقة بضبط العلاقة بينه وبين أهل المكان، ولذلك من الأفضل التخلي عن هذا الأمر برمته، أو تقليل عدد هذا الجمهور "المزيف" قدر الإمكان مع دمجه في مهام العرض.
2- تحديد المكان:
المفترض أن مسرح الشارع لا يعرف الأماكن سابقة التجهيز، ولذلك فإن اختيار مساحة وشكل ساحة العرض والسيطرة عليها تمثل واحدة من أهم التقنيات الأولية التي ستؤثر بشكل حاسم على مجريات العرض ككل. وتتم أغلب هذه الإجراءات بالتزامن مع عمليات "لفت الانتباه"، وعموما فمن الأفضل بدءا أن يتم إختيار مكان ذو أرضية منبسطة دون نتوءات أو انحدارات حادة.
مساحة العرض: وهي تتكون من حاصل جمع مساحة التمثيل ومساحة الجمهور، وينبغي أن يتضمن المحيط الخارجي لمنطقة الجمهور المحيط الداخلي لمساحة التمثيل بالكامل، بحيث يشكل التقابل بينهما محيط المشاهدة النشطة (التي تحتوي متفرجين يتمتعون برؤية واضحة). وعكس ما نجده في مسرح العلبة الايطالي حيث لا توجد علاقة ترابط ضرورية بين مساحة خشبة المسرح وعدد الكراسي إذ أن كلاهما مرهون قبليا بالتصميم المعماري للمبني، ففي مسرح الشارع كلما كانت مساحة التمثيل صغيرة كانت دائرة المشاهدة النشطة صغيرة وتستوعب عددا اقل، وكلما اتسعت، أدى هذا إلى اتساع دائرة المشاهدة وتضاعف الاعداد التي يمكنها (نظريا) استيعابها.
وبصفة عامة فإن عمليات اختيار أوتحديد مساحة العرض تخضع لمعادلة أساسية منضبطة تحتوى على ثلاثة متغيرات، أولهما طبيعة المكان ومستوى خلاؤه أو ازدحامه (شارع ضيق، أو متسع، أو ميدان مفتوح .. الخ)، وبالتالي مقدار المساحة الفارغة التي يمكن اقتطاعها لصالح العرض. وثانيهما عدد المؤديين منسوبا للمسافات التي يحتاجونها طبقا لمخطط حركة العرض، وكما راينا في الحكاية الثالثة عن عرض الحديقة فإن عددا كبيرا من الممثلين في مساحة ضيقة سيؤدي إلى نتائج كارثية، وفي المقابل فإن عددا صغيرا منهم في مساحة كبيرة سيؤدي إلى مصاعب في السيطرة على المكان وملؤه بالفعل المسرحي. أما المتغير الأخير فهو العدد المتوقع أو المستهدف من الجمهور، وطبيعته (وهو ما يمكن استخلاصه أو تقديره طبقا لنتائج عمليات لفت الانتباه) ففيما يتعلق بالعدد فإن مساحة ضيقة فيها جمهور كبير ستؤدي إلى تململ الجميع وربما يصل الأمر لحد التدافع من أجل الحصول على مشاهدة أكثر وضوحا، بينما دائرة كبيرة حولها عدد ضئيل ستخلق حالة من البرودة الثلجية وانطباع بعدم الاهتمام وضعف التواصل الحسي، ومن جهة أخرى فإن إكتشاف طبيعة هذا الجمهور وما إذا كانت أميل في مجموعها إلى الهدوء والسكون، أو للعصبية والإستثارة الحركية (كما نجد عند الأطفال مثلا)، إضافة إلى مدى توقع المنظمين لإحتمالات حدوث وقائع إقتحام أو تداخل أثناء العرض، وكلها أمور قد تستدعي إقامة حرم لمنطقة التمثيل، بمعنى خلق فراغ أو فاصل واضح بين محيط ساحة التمثيل، ومحيط المشاهدة، فمثلا في الشكل الدائري يمكن أن يكون نصف قطر الدائرة المخصص للممثلين أصغر بأمتار قليلة عن نصف قطر دائرة المشاهدة النشطة.
ويمكن صياغة هذه المعادلة بالشكل التالي: مساحة العرض= طبيعة المكان/ عدد المؤديين/ حجم وطبيعة الجمهور.
ومن الواضح أن الحل النموذجي لهذه المعادلة سيكون متغيرا مع كل حالة عرض، ناهيك عن أنه يمكن أن يتغير اثناء العرض نفسه مع ارتفاع أو انخفاض عدد الجمهور، أو ما قد يطرأ على طبيعة خلاء المكان من تغيير (مثل دخول سيارة، أو فتح مدخل لمكان كان مغلقا لحظة بدء العرض)، وهي حالات ينبغي التمتع بأقصى قدر من المرونة في التعامل معها عبر إعادة تكييف أوضاع العرض على نحو يكفل استمراره دون توقف.
شكل ساحة العرض: المعتاد في مسرح الشارع هو استخدام أشكال هندسية بلا زوايا، مثل الدائرة الكاملة، أو نصف الدائرة، أو حتى القوس، ولا يوجد ما يمنع نظريا من استخدام الاشكال الزاوية (المربع أوالمستطيل ..الخ) سوى ما يتعلق بها من تعقيدات عملية متعلقة بعدم تكافؤ "زاوية الرؤية" على كافة نقاط كل ضلع من أضلاع هذه الأشكال، وصعوبة الحفاظ على تنظيم الجمهور في شكل "زاوية قائمة" حيث سيصبح جزءا من صف شديد القرب من صف آخر وهو ما قد يخلق حالة من تفاعل غير مرغوب فيه تتسبب في تشتيت الانتباه عن العرض، ولنفس الأسباب تقريبا يتم استبعاد الشكل البيضاوي، والقطع المكافيء.
وأهم قاعدة في اختيار الشكل هو أن يكون مغلقا ودون فجوات وأن يتطابق محيطه مع محيط مساحة المشاهدة، بمعنى أنه لا ينبغي اختيار شكل القوس أو النصف دائرة في مساحة واسعة ومفتوحة بما يعنيه ذلك من ترك المنطقة خلف مجموعة التمثيل فارغة ومنكشفة لأي أحداث، أو وقائع عابرة، أو تداخلات لا يمكن السيطرة عليها، وربما لهذا السبب تأتي الدائرة الكاملة بوصفها الخيار الأول لأغلب العروض، أما في الأماكن التي لا تسمح بشكل دائري كامل فيجب أن يستند شكل نصف الدائرة أو القوس على حاجز (حائط أو سور مثلا) بحيث يغلق الشكل من الخلف.
3- قرار العرض:
في المسرح التقليدي يمكن أن يتم تحديد موعد بدء العرض بدقة لاسابيع أو حتى لشهور مقبلة، أما في مسرح الشارع فليس ثمة موعد مسبق اصلا لبداية العرض، بل هناك قرار يتم إتخاذه في حينه طبقا لظروف ومعطيات متغيرة، والشيء الوحيد الثابت في توقيت هذا القرار هو أنه يأتي تاليا لإنتهاء عمليات لفت الإنتباه، وتحديد المكان، وبناء على مدى نجاحها في تحقيق المهام المناطة بها من عدمه.
فمثلا إذا إجتمعت حالات من قبيل: اكتشاف تنازع مصالح لا يمكن حله أو التخفيف من حدته بالتفاوض، أو الفشل في جذب إنتباه الجمهور أو خلق اهتمام مشترك معه، والإخفاق في استمالة شخصيات متعاطفة، أو تفجر خلافات لا يمكن السيطرة عليها (سواء بين فريق العرض والجمهور، أو بين الجمهور وبعضه البعض)، أو ظهور حالة سلبية أو عدائية –أو حتى عدوانية- تجاه تجربة العرض وفريقه وتصاعدها على نحو يجعل تحييدها غير ممكن، كل هذه الحالات "مجتمعة" تجعل اتخاذ قرارا ببدء العرض محض حماقة مؤلمة لا طائل من ورائها سوى مزيد من الخسارة. فالحل الوحيد هنا هو انسحاب هاديء ومبتسم يعقبه جلسة لفريق العرض بأكمله لتحليل ما حدث وجمع انطباعات وآراء كل فرد بدقة وصولا إلى تفسير واضح قدر الإمكان لأسباب هذا الفشل الكامل وهل تكمن في نقص كفاءة الفريق ككل أو أخطاء جسيمة لبعض أعضائه، أم أن هناك خصوصية ما في المكان فشلوا في استكشافها أو اصطدموا بها دون وعي. مثل هذه الجلسات، إذا أجريت بإهتمام كاف، كفيلة بتحويل تجربة الفشل المرير إلى منبع للخبرة، وتطوير القدرات والامكانيات واستكشاف حلول بديلة (وبصفة عامة فهذه الجلسات مطلوبة عقب كل حالة عرض لتحليل الخبرة المستفادة منها). والخبر السار هنا هو أن بضعة تجارب فاشلة يتم التعامل معها على هذا النحو، قد تؤدي إلى تجربة ناجحة قابلة للاستمرار.
ولكن من حسن الحظ أنه ما لم تكن هناك عوامل استثنائية قوية، فليس من المحتمل "نظريا" أن تفضي عمليات "لفت الإنتباه" -حتى في الحدود الدنيا لممارستها- إلى حالة فشل كامل ومطبق، فبعض هذه العمليات يعتمد أساسا على استثمار حالة سحر المسرح، أو "إغواء المسرحة"، أي حالة نزع طابع المباشرة عن التواصل الإنساني، فالجمل الأدائية التي تقوم بها مجموعات "لفت الإنتباه" ستخترق، أو تخدش، جمود حالة التفاعل التقليدي، البسيط والجاف، بين رواد المكان وتفرض عليهم نمطا مغايرا، منعشا، ومختلفا، في التواصل مع الحالة الأدائية التي يقدمونها. أما مسرحة الحوار مع بعض هؤلاء الرواد أومسرحة النشاط الذي يؤدونه في المكان، أومسرحة بعض السمات المعروفة عن تاريخ المكان وأهله وشخصياته .. الخ، كل هذا سيؤدي إلى أن رواد المكان سيشعرون بما يخصهم وهو يتدفق في إطار مغاير عن خبرتهم به، وهو ما سيعيد خلق مسافة بينهم وبينه، وتلك المسافة ستؤسس لظهور مجال تفاعل أو تواصل متحرر من قواعد المباشرة النفعية والجامدة، ومن ردود الفعل التقليدية المحفورة في الوعي. وهذا يعني أن تقنيات لفت الانتباه هنا قادرة في أغلب الأحوال على إحداث صدمة جمالية مفاجئة لرواد المكان والذين سيتباين رد فعلهم تجاهها، فالبعض قد لا يريحه هذا الشعور المفاجيء فينكمش إلى ذاته متحفظا، والبعض قد يشعر بهذا التأثير وكأنه بمثابة عدوان خبيث يستدعي رد فعل دفاعي، فيما سيندفع البعض الآخر إلى الاستمتاع بهذا الشعور والاستغراق فيه، وفي كل هذه الحالات سيصبح لدى مجموعات العرض (بما فيها مجموعة العلاقات الاجتماعية) ما تعمل عليه وتستثمره.
المتوقع إذا في الأحوال العادية أن منظمي العرض عند هذه المرحلة ستتجمع أمامهم معطيات تحمل مزيجا من النجاح والفشل لمهام ما قبل العرض، وسيتعين عليهم تقدير ما إذا كان فشل بعض هذه المهام سيؤثر على إمكانية بدء العرض أصلا، أم أنه سيهدد استكماله، أو أنه فقط سيحد من فرص نجاحه، وبناء على ذلك يمكن اتخاذ قرار إما ببدء العرض، أوإلغاؤه، أو إرجاؤه لدقائق تقوم خلالها مجموعات لفت الانتباه ببذل المزيد من الجهد لإنجاح المهام غير المستكملة.
وينبغي ملاحظة أن عمليات لفت الانتباه تمتاز بعلاقة حدية مع الزمن، بحيث أنها إذا زادت عن مدى زمني معين توقفت قدرتها على إضافة أي عطاء جديد، قبل أن تنقلب لتصبح فاعليتها بالسلب، وبمعنى آخر، فهذه العمليات تخلق صدمة جمالية منعشة مقرونة بافق ترقب وإنتظار، وكلما طال الوقت، زال الأثر المنعش وتحول الترقب إلى ضجر وتململ، وإذا استمرت هذه الحالة فقد يؤدي ذلك إلى ردود افعال سلبية تجاه تجربة العرض ككل، ولذلك فالوقت الذي تستغرقه تلك العمليات يجب أن يراقب ويحسب بدقة، بحيث يتم تحديده وتعديله دائما وفقا للخبرة المكتسبة.
تعيين مخطط الحركة:
فور اتخاذ قرار العرض ينبغي الشروع فورا في إختيار مخطط الحركة، وإختباره، وتمثل هذه العملية سمة أخرى هامة وفارقة ضمن السمات الخاصة بمسرح الشارع، ففي اثناء البروفات الطويلة للمسرح التقليدي سيجري بحث خطوط وتشكيلات وأبعاد الحركة المناسبة للعرض، وما أن تتضح معالمها حتى يتم تسجيلها وتثبيتها، وينتهي أمرها عند هذا الحد، أما في مسرح الشارع فقد تكون هذه المرحلة أشد بساطة بكثير، ولكنها مجرد خطوة مبدئية لإنتاج مخطط أولى للحركة، يليها خطوات أخرى تهدف إلى اشتقاق عدة مخططات ثانوية منه، ومبدئيا ينبغي أن يصيغ المخرج ثلاثة مشتقات لمخطط الحركة لتلبية متطلبات الأشكال المختلفة الممكنة لساحة التمثيل، الدائري، والنصف دائري، والقوس، وكل شكل من هذه الأشكال سيفرض شروط ومتطلبات مختلفة على المخطط الأصلي من حيث عدة متغيرات أساسية، وهما المنظور أو زاوية الرؤية، والأبعاد، وخط الرؤية، فالشكل الدائري مثلا سيتطلب إمكانية الرؤية المتناسبة من على أي نقطة على محيط الدائرة، بمعنى أنه أيا كان موقع المشاهد على محيط دائرة التمثيل فينبغي أن يتاح له رؤية نفس التفاصيل بقدر الإمكان، مما قد يتطلب مخطط حركة قادر على الالتفاف وإتاحة المنظور عبر 360 درجة طوال العرض، بينما في الشكل نصف الدائري والقوس سيجري بناء حسابات المنظور على زاوية 180 درجة تقريبا. أما بخصوص خط الرؤيا، فكل ممثل سيثبت للحظات في أي بقعة من بقاع ساحة التمثيل قد يتسبب في حجب الرؤية لنقطتين متقابلتين (على الأقل) على محيط المشاهدة، بحيث أنه إذا تواجد ممثل آخر على نفس خط الرؤية فأحدهما سيحجب الآخر تماما بالنسبة للمشاهدين، وهو ما يستلزم حسابات دقيقة لا تتيح خلق بقعة عمياء في ساحة التمثيل بالنسبة لبعض المشاهدين على نحو يدفعهم للتململ ومحاولة تغيير موضعهم للحصول على رؤية افضل، وفي نفس الوقت لا يحول الحركة إلى تذبذب مستمر غير مريح للحواس، وربما لهذا السبب يعمد أغلب مخرجي مسرح الشارع إلى تصميم حركة بسيطة وغير مركبة تمنح التأكيد والبروز لكل ممثل بالتتابع طبقا لمركزية دوره داخل المشهد، وتمثل هذه الطريقة "حل الحد الأدنى"وهي تخفف من كثافة الحسابات المطلوبة ولكنها لا تلغيها.
أما المرحلة الثانية لاشتقاق مخططات الحركة فتتم بالنسبة لكل شكل على حدة ولكن بدلالة المساحة المفترضة له، وعادة لن تختلف حسابات المنظور بالنسبة لكل شكل مهما تغيرت مساحته، فالتأثبر هنا سيقتصر على متغير الأبعاد وخط الرؤيا، فكلما قلت مساحة الشكل كان تأثير خط الرؤية أكبر، اي أن عمليات الحجب سيزداد تأثيرها، ونفس الشيء ينطبق على الابعاد بين الممثلين والمسافات التي يقطعونها خلال حركتهم، فهذه وتلك، سيتمددان وينكمشان تبعا لكبر أو صغر المساحة، وهنا أيضا سنجد مبدأ "حل الحد الأدنى" عند بعض مخرجي مسرح الشارع، حيث يقوموا بتصميم حركة العرض بأكمله بدلالة ممثل واحد يعمل وكأنه علامة إتجاهية، أو جيوديسية، بحيث أن بقية الممثلين سيتلقون جمل الحركة الخاصة بهم بوصفها إتجاه منسوب لجسم هذا الممثل القائد (أمامه، خلفه، يمينه، يساره) وعلى بعد أو مسافة معينة منه بحيث تتغير بنفس النسبة كلما تحرك هذا الممثل داخل المشهد. وبعضهم قد يخطو خطوة أبعد قليلا فيجعل لكل مجموعة من الممثلين قائدا، أو يجعل لكل مشهد قائده الخاص. وعادة ما تتهي عملية اشتقاق مخططات الحركة للمساحات المختلفة إلى وضع حد أدنى لا ينبغي أن تقل المساحة عنه بالنسبة لكل شكل.
وبرغم أن حلول الحد الأدنى التي يلجأ إليها أغلب المخرجين تهدر إختبار واستكشاف الحلول اللانهائية الممكنة التي تتيحها مباديء تصميم الحركة في مسرح الشارع بكل ما يعنيه ذلك من امكانيات جمالية مهدرة وهو ما يؤدي عادة إلى خفض السقف الجمالي للعرض، إلا أنها من جهة أخرى تتيح قدرا من السهولة للمخرج في إجراء حساباته، وتبسيط الإجراءات المطلوبة لتنفيذ التغييرات التي يفرضها كل اشتقاق لمخطط الحركة بحيث لا يكون مجبرا على إعادة تدريب الفريق بالكامل على تنفيذ كل تغيير على حدة.
والخلاصة أن المخرج ينبغي أن يمتلك أكثر من إشتقاق لمخطط حركة العرض، وعندما يتم التعرف على طبيعة المكان وتحديد المساحة وشكلها يتم إختيار أنسب هذه المخططات لتنفيذها، ويفضل أن يتم أختبار هذا المخطط وتأكيده عمليا بواسطة بعض الممثلين أثناء عمليات لفت الانتباه، وتعديله أو تكييفه مع مقتضى المكان إذا كان هناك ضرورة لذلك.
ما قبل البداية: حالة الممثل:
في الحكاية الثانية، تم العرض في ساعة الظهيرة بصحراء ساحة الهناجر، لا يوجد مارة تقريبا، ولا ضجيج، فقط بضعة أفراد أغلبهم من إدارة المسرح، جاءوا للعمل، وليس لدعم أحد أو لعب دور المتفرج، وعلى مبعدة كان هناك بعض الرواد في كافتيريا الهناجر من جهة وكافتيريا المجلس الأعلى للثقافة من جهة أخرى. إذا فنحن أمام توقيت خاطيء ومكان غير صالح، وجمهور يصعب لفت إنتباهه، وكلها أوضاع كان ينبغي أن تؤثر على "قرار العرض"، لولا أن هذا القرار قد إتخذ سلفا في نطاق إداري، لا علاقة له بما يحدث على الأرض، واصبح فريق العرض ملزما به، وبالطبع كان يمكن لهذا الفريق أن يجرب "مهاراته" مع الجمهور المتاح ويرى إلى أين سيصل به هذا، ولكنه كان منشغلا بأمر آخر تماما.
بالنسبة لأي ممثل أو مؤدي مسرح الشارع فهناك حالتين أساسيتين ينبغي أن يكون جاهزا دائما لمواجهتهما، الصخب والضجيج من جهة، والتشتت من جهة أخرى، وهو ما لا يتأتي إلا عبر طريقة تحكمه في طاقته، وكيفية تخزينها وإنفاقها. وبعض المجموعات العاملة في مسرح الشارع تقابل الصخب بصخب مماثل لا أكثر ولا أقل، وكأن كل ما تستهدفه هو أن تجد لنفسها موقعا في خريطة الضجيج حتى وإن أدى هذا إلى أن يتم تحويل كل ما يتعلق بفن الممثل إلى محض دفقات متوالية من عمليات التصايح والتنادي، وكل هذه المجموعات تقريبا تتجاهل التعامل مع موضوعة التشتت اعتقادا منها بأن قليل من التركيز أو التصميم الشخصي كاف لتجاوزها، ولكن الفريق المذكور كان على موعد لإختبار تلك المقولة في صحراء الهناجر، ليثبت فشلها الذريع.
وبداية فهذا الفريق كان يعتمد على تقنية مميزة في استخدام الطاقة، فهو يختزنها إلى ما قبل العرض بلحظات، ثم يبدأ في نفضها بقوة في كل الاتجاهات، ويستقبل رد الفعل الناتج عن ذلك وكأنه رذاذ منعش يعيد عبره تجديد بعض من الطاقة التي فقدها، ويوالي تكرار هذه العملية إلى أن يصل إلى المستوى المطلوب والمستقر للطاقة التي يحتاجها لسياقات العرض. صحيح أن هذه التقنية غير صالحة سوى في مواجهة مستويات منخفضة أو متوسطة من الصخب، أدنى كثير مما يوجد في الشارع الحقيقي، إلا أنها أسلوب محترف في استخدام طريقة تخارج الطاقة وتحويلها إلى طاقة داخلية مستقرة، ولهذا السبب تحديدا كان أفراد الفريق يقفون في صحراء الهناجر عاجزين عن إطلاق بداية العرض، فهذا كان يعني بالنسبة لهم بداية التعامل مع الصخب والضجيج من أجل تجاوزه والتسامي فوقه، من أجل أن يكون صوتهم مسموعا، وعملهم مرئيا، وجاذبا للاهتمام، ولكن إذا لم يكن هناك ما يمكن أن يصبح موضوعا لهذا التفاعل، حيث المجال المحيط كله تسيطر عليه حالة التشتت... فكيف يبدأ العرض اصلا؟
وخلافا لكتل الصخب التي يمكن منحها شكلا، يأتي التشتت بلا شكل تقريبا، وكأنه صوت مهمهم لا يمكن سماعه بوضوح، مثلما لا يمكن تجاهله بارتياح، إنه أشبه ما يكون بتوتر أو قلق مستمر، مجهول المصدر، وغير مبرر، وهو ما لا يمكن مواجهته أو السيطرة عليه إلا عبر تنشيط الطاقة الداخلية، حيث الهدوء والتركيز المتدفق الذي يمكن أن يمتص أو يذيب اي شيء، فريق الهناجر لم يكن يملك التقنية اللازمة لتوليد هذا النوع من الطاقة، وأدرك أن تقنيته لا تصلح، ولذلك وقف للحظات قبل العرض متجمدا ومرتبكا.
وبالطبع فمن المفترض أن يكون ممثل مسرح الشارع مدربا على كافة أشكال التعامل مع طاقته، ولكن بإعتبار أنه يتعرض في مرحلة "لفت الإنتباه" لمستويات غير محسوبة، وأحيانا غير متوقعة، من الصخب والتشتت، فإن هذا قد يؤدي في بعض الأحيان إلى تشويه هذه الطاقة، أو ركلها إلى مستويات بعيدة عما هو مطلوب لبدء لعرض. ولذلك يتعين على المخرج في لحظات ما قبل العرض أن يتحقق من وضعيات طاقة الممثلين، وأن يعيد توجيهها وتكييفها بقدر ما تستلزمه طبيعة العرض.
لحظة البداية:
بعض العروض تميل إلى إطلاق لحظة بدايتها عبر إنتقال سلس وغير ملحوظ تقريبا، من الحالة الأدائية العامة لمرحلة لفت الإنتباه (غير المنتظمة بطبيعتها) إلى الحدث الأول في العرض (حيث بداية إنتظام أدائي من نوع خاص)، غير أن مثل هذا الاختيار لا يعد جيدا حتى وإن إعتقد بعض المخرجين أن الاستراتيجية الدرامية للعرض تتطلبه أو تدعمه، ففي كل الأحوال يجب أن يكون هناك فاصل "حسي" واضح وحاسم يمهد لللحظة بداية العرض باعتبارها شيئا مختلفا عن المرحلة التي سبقتها، والتي كانت أشبه بحملة جمع عشوائي، متوالي، ومتفاوت التأثير، عبر نثر جمل إدائية غير منتظمة تهدف إلى لفت إنتباه الجمهور، وهذا يعني أن كل فرد من هذا الجمهور يخوض -على حدة- حالة من "الإنتباه المتغير" والذي يواصل الارتفاع والانخفاض طبقا لاستجابته لعمليات التحفيز الغير منتظمة التي يتعرض لها، وإذا ما بدأ العرض فجأة وسط حالة من الإثارة الحسية المتذبذبة على هذا النحو، فسيعاني أغلب المشاهدين لبعض الوقت قبل أن يتمكنوا من ضبط حواسهم تجاه الاستجابة المنتظمة التي تتطلبها متابعة العرض.
والفاصل الحسي المقصود هنا لا يعني "الصمت"، أو السكون، بل يعني تحقيق تباين ملفت للحواس أيا كانت الطريقة المتبعة في سبيل ذلك، إنه يؤدي وظيفة "الدقات الثلاث" في المسرح التقليدي والتي تنهي أفق الترقب والانتظار، وتستدعي التركيز.
ثانيا: تقنيات ما حول العرض.
إن تفعيل كل التقنيات السابقة سيصل بنا إلى لحظة بداية جيدة وربما مبشرة للعرض، ولكنها ستتحول إلى مجرد إجراءات شكلية لا طائل من ورائها ما لم تستخدم نتائجها في السيطرة على مجريات العرض حتى نهايته، فمثلا ما قيمة حل نموذجي لمعادلة تحديد مساحة التمثيل ما لم يتم الحفاظ على حدودها أثناء العرض، وما معنى دراسة الجمهور ووضع قواعد للتفاعل معه إن لم يصل هذا بنا إلى القرار الانسب حول طرق التعامل مع أشكال تداخله أومقاطعاته.
1- حفظ المكان:
في مسرح العلبة يوجد عادة فاصل مادي معماري واضح بين مكان التمثيل ومكان المشاهدة، فضلا عن أن طريقة ترتيب المقاعد تحد كثيرا من حرية حركة المتفرج أثناء العرض، الأمر الذي نجد عكسه تماما في عرض مسرح الشارع، حيث سكون المشاهد أو حركته مرهون بقراره الشخصي أكثر من اي شيء آخر، فيما سيؤثر هذا القرار بالضرورة على نظام العرض ككل.
وبصفة عامة فهناك حلول بسيطة لحفظ المكان مثل توضيح حدود مساحة التمثيل وفصلها رسم بعض العلامات على الارض، أو وضع حواجز بسيطة موصولة بأحبال ... الخ، غير أن الأهم هو العودة لقواعد التفاعل مع الجمهور التي تم استخلاصها قبل العرض، فبالنسبة لجمهور ناضج ومتعاطف قد يكفي مجرد إعلان قواعد اللعبة في نهاية عمليات لفت الانتباه وقبل بداية العرض، أما بالنسبة لجمهور يتضمن عددا ملحوظا من الأطفال، وخاصة في المناطق الشعبية، فيمكن إعداد المكان (بقطع قماش أو جرائد) لجلوسهم على محيط دائرة المشاهدة مع تكليف بعض من الفريق المعاون للعرض أو من المتعاطفين من ابناء المكان لمراقبتهم طوال العرض، وتهدئتهم عندما يلزم الأمر، مع حمايتهم من أي تدافع قد يطالهم من الخلف. أما عندما نكون إزاء جمهور حالته المزاجية غير معلومة ولا يمكن التنبؤ بمدى إنتباهه او انضباطه أثناء العرض، فمن الأفضل أن تحاط دائرة المشاهدة بعناية من قبل مجموعة معاونة أو متعاطفة على أن تتعامل بهدوء شديد لا يجعلها مصدر تشويش. إن عدم السيطرة بكفاءة مناسبة على حدود المكان أثناء العرض سيفضي إلى إنبعاج محيط المشاهدة وخلخلة مساحة التمثيل وتشوه شكلها.
2- المقاطعة والتعليق:
مسرح الشارع هو أكثر الأنواع الجمالية إنفتاحا على كافة اشكال التفاعل مع الجمهور، و أشدها استعدادا للتعاطي مع ظاهرتي المقاطعة والتداخل، ولذلك فعلينا أن نعزل جيدا ما يخص نطاق بحثنا هنا بإعتباره ينطوي ضمن ظواهر وسياقات ما حول العرض، وبين نفس الظواهر والوقائع باعتبارها جزءا من مجريات العرض أو مخططه، فبعض العروض تضع وقائع مقاطعة وتعليق ضمن أحداثها الأساسية (والأمر نفسه ينطبق أحيانا على ظاهرتي الإقتحام والتداخل)، بحيث يقوم بعض الممثلين بالاندساس بين الجمهور لأداء هذه الأفعال، وبعضها يخطط لمناطق معينة في مسار الدراما يتم خلالها تحفيز عمليات التعليق –وأحيانا المقاطعة- مع تكثيف الإستجابة لها عبر ردود فعل يرتجلها الممثلون، وذلك بغية تطوير إيقاع العرض، أو إحداث نقلة بعينها في الدراما، وكلها حالات تقع خارج نطاق إهتمامنا هنا. حيث سنقتصر على تحليل تلك الظواهر بوصفها رد فعل غير مخطط له من الجمهور مما يستلزم قرارا فوريا لكيفية التعامل معه، أو بإعتبارها –خاصة ظاهرة التعليق- جاهزية إجرائية يستخدمها المنظمون لرأب بعض سياقات ما حول العرض. وبصفة عامة فإن حزمة القرارات الممكنة هنا هي إما تجاهل، وإما إستجابة "مرتجلة" يقوم بها الممثلون طبقا لسيناريوهات عامة تم التدرب عليها مسبقا، وإما تحرك المنظمين مباشرة للحد من توالي هذه الوقائع بطريقة تسبب ضررا للعرض.
وفي كل الأحوال ينبغي أن تأتي الإستجابة للمقاطعة أو التعليق من داخل سياق العرض وأن تعيد نفسها وجمهورها إليه، وإلا تحولت تلك الإستجابة نفسها إلى عامل تشتيت للعرض.
المقاطعة:
المقاطعة هي إعتراض –لفظي عادة- على العرض، وعدوان على سياقه، وقد تكون بداية لسلسلة أفعال تؤدي إلى إقتحامه، وهنا تبرز أهمية دراسة معطيات حالة وطبيعة الجمهور، فمثلا إذا كنا مع بداية العرض إزاء كتلة جمهور متوترة (غالبا ما يأتي هذا نتيجة اخفاق جزئي لعمليات لفت الانتباه في تهيئة الجمهور، أو عدم الإختيار المناسب للحظة البداية)، فإن الاستجابة الفورية لأول مقاطعة قد تؤدي إلى توالي المقاطعات من المشاهدين بوصفها طريقة ميسورة لإفراغ توترهم، ولذلك فالنصيحة الذهبية التي يمكننا تقديمها في هذه الحالة هي عدم الاستجابة للمقاطعة الأولى في كل الظروف، وعلى المنظمين ملاحظة أثر هذه المقاطعة وأثر تجاهلها على الجمهور، وهل أدى ذلك إلى زيادة نسبة توترهم، وزيادة استعدادهم لمقاطعات أخرى؟ وهذا الاحتمال ترتفع نسبة وقوعه إذا كانت هناك كتلة من هذا الجمهور تجمعها علاقات قوية فيما بينها، وبالتالي فسيميلون للتصرف كجماعة وإبداء رد فعل موحد ومستمر، وهنا تصبح المقاطعة مهيئة للتحول إلى إقتحام، وفي هذه الحالة يتعين الاستجابة لكل المقاطعات التالية، إلى أن يتم امتصاص التوتر وتفريغه بالقدر المناسب، حتى ولو أدى هذا إلى إبطاء مسار العرض بعض الشيء، تمهيدا لإعادة جذب اهتمام الجمهور بالعرض نفسه. أما إذا أدى تجاهل المقاطعة إلى عدم تواتر تكرارها على نحو مزعج، أو تكرارها من الشخص ذاته فحسب، فعلى المنظمين هنا أن يعمدوا إلى فرض التهدئة كلما رأوا ذلك ضروريا، وبطريقة لا تجذب إنتباه المشاهدين.
التعليق:
عكس المقاطعة، يأتي التعليق بوصفه رد فعل آني ولحظي لأحد أو بعض المشاهدين على مجريات العرض، إعجاب، مديح، ذم، تفسير، تحبيذ أو رفض لخيار يبدو أن العرض متجه إليه، أو تجاهله ... الخ. وعادة لا ينتظر "المعلق" اي إستجابة خاصة، فهو يعبر عن شعوره، أو رأيه، ثم يعود إلى الإستغراق في متابعة العرض. وفي بعض الأحيان، خاصة عندما يكون التعليق نابعا من رد فعل أصيل وغير مصطنع، آهة إعجاب حميمية مثلا، فإنه سينتج أثرا سحريا على وعي الجمهور ومستوى إنتباهه وإهتمامه وتفاعله مع العرض.
وأحيانا مع بداية العرض يمكن أن نجد أننا أمام جمهور سلبي وقلق تجاه التجربة بشكل عام، ومتحفظ إزاء بعضه بعضا، وهنا سينبغي العمل على استثارته وتحفيزه لإبداء بعض التعليقات الجماعية، بحيث يشعر بذاته ككتلة وحدها موضوع مشترك، هو العرض، وبذلك يتم رفع حاجز التحفظ وإعادة دمج الجمهور مع العرض. وتلك الحالة تمثل جوهر استخدام التعليق كجاهزية.
غير أن التعليق ليس دائما هذه الظاهرة الصحية اللطيفة ذات الفعالية الإيجابية، فبمقدوره أحيانا أن يتحول إلى أداة هدم مدمرة للعرض، ولتجنب هذه الوضعية فهناك قاعدتين أساسيتين للتعامل مع التعليقات، أولهما هو ألا يبدي الممثلون تجاهها أي رد فعل مبالغ فيه، أو أن يظهروا تأثرهم أكثر من اللازم، وخاصة عندما يكون التعليق منصبا على أحدهم، فلا ينبغي أن يسمح الممثل لنفسه بالوقوع في حالة الإندهاش، أو المفاجأة، أو إبداء رد فعل مباغت وخارج عن سياق العرض، أو إظهار سرورا زائدا، أو ضيقا ملحوظا، فمثل هذه الاستجابات ستؤدي إلى تحفيز المشاهدين إلى إطلاق العديد من التعليقات المجانية، والتي قد تمثل بالنسبة لهم مجرد محاولة لإختبار قدرتهم في التأثير على الممثلين، كما أنها قد تفتح الباب لتنافس سخيف وغير مطلوب بينهم لإحراز أكبر قدر من الإستجابة لتعليقاتهم، وبالتالي يتحول العرض برمته إلى موضوع لتباري مشاهديه فيما بينهم. وهنا تأتي القاعدة الثانية التي يتعين على المنظمين الإلتزام بتحقيقها، فالتعليق عابر بطبيعته، وينبغي أن يظل كذلك، ومن غير المسموح به أن يتحول إلى أداة صراع ضد العرض (حتى وإن كان هذا ناتجا عن خطأ الممثلين كما في الحالة السابقة)، أو أن يستقل بسياقه الخاص بحيث يصبح هناك متواليات مكونة من تعليقات على التعليق، مما سيخلق مناخا مزعجا ومشتتا للعرض، وفي سياقات عروض بعينها، قد يتطلب الأمر عدم إتاحة الفرصة للتعليقات في أن تقود إستقبال المشاهدين للعرض تجاه فهم أو تفسير غير مطلوب أو غير مرغوب فيه.
3- الإقتحام والتداخل:
في الحكاية الثالثة، (عرض الحديقة) دخل بعض الصبية فجأة مساحة التمثيل، وبدأوا في الرقص، وإرتبك الممثلون أكثر واستغرق الأمر برهة من الوقت قبل أن يقوم بعضهم بإزاحة الصبية برفق إلى حافة دائرة المشاهدة. هذا التداخل ليس من الأمور النادر حدوثها أثناء عروض مسرح الشارع، ولكه يظل حالة فريدة تستحق التحليل.
وخلافا لظواهر المقاطعة والتعليق بوصفهما أفعال لفظية تقطع زمن العرض، فإن وقائع الإقتحام والتداخل هي أفعال جسدية تنازع العرض في مكانه و حوله، بداية من محاولة إقتسامه وإحتلال جزء منه للحظات قد تطول أو تقصر، مرورا بمنازعته في شرعية تواجده هنا والآن، وصولا إلى نفي شرعية وجوده أصلا، ومحاولة إلغاء علاقته بالمكان تماما.
وبما أن الصراع كله يدور هنا حول مكان العرض، أو مساحة التمثيل تحديدا، فكلما صغرت هذه المساحة كان الصراع أكثر قدرة على إحداث ضرر مؤثر، ولذلك ففي الحالات التي يتوقع فيها المنظمون ظهور وقائع الإقتحام والتداخل فعليهم المبادرة –أثناء تجهيز العرض- بتعيين أكبر مساحة ممكنة لمنطقة التمثيل طبقا للحلول التي توفرها المعادلة الخاصة بتحديد مساحة العرض، مع استثمار أي قدر يمكن توفيره من هذه المساحة لإنشاء "حرم" لها، أي تلك المساحة الفارغة التي تفصل بين محيط دائرة التمثيل ومحيط دائرة المشاهدة، وبالطبع فهذا الإجراء الاحترازي لن يلغي الصراع، ولكنه قد يجعل اضراره أقل حسما وأبطأ تأثيرا.
الإقتحام: تمثل إحتمالية الاقتحام –وعلى نحو أقل التداخل- الضريبة التي يتعين على مسرح الشارع أن يدفعها، أو الإختبار الذي ينبغي إجتيازه من أجل إثبات الحق في الوجود والقدرة على السيطرة على المكان الذي اقتطعه لنفسه من أجل تأسيس حالة العرض. وكلا من واقعة الإقتحام، أو إحتماليتها القائمة يمثلان أسوء كوابيس ممارسي مسرح الشارع، وينتجان أشد الضغوط النفسية. وسواء كان الإقتحام فرديا أو جماعيا، عشوائي، أو مخطط له، مصاحب بإعتراض إنفعالي، أو دعوة أيديولوجية، فهو قادر في كل الأحوال على إحداث ضرر محقق بالعرض على نحو يمثل تحديا لمنظمي العرض للتعاطي معه بهدوء وذكاء، والتقليل من حجمه، وتخفيف آثاره، مثلما يمثل تحديا آخر لمهارات وخبرة الفريق بأكمله على رأب ما تفتق من مسار العرض، وإستعادة حالته وحضوره، والنجاح في مواجهة هذه التحديات سيشكل دفعة معنوية كبيرة للعرض تعوض ما أصابه من أذى.
لنبدأ أولا بمناقشة الإحتمالات النظرية لحدوث واقعة إقتحام من النوع الأشد عنفا، أي ذلك السلوك العدواني السافر، المفعم بالرغبة والتصميم في إيذاء العرض ونفيه وإلغاءه، ففي حالة وجود أشخاص –أو مجموعات- مهيئين للقيام بهذا الأمر فهم سيظهرون أنفسهم وسيمارسون سلوكياتهم تلك منذ اللحظة الأولى لاصطدامهم بالعرض وفريقه أثناء مرحلة لفت الانتباه، ولن ينتظروا حتى بداية العرض، وبالتالي فالدخول في مرحلة العرض معناه أن مثل هذه العقبة قد تم تخطيها على نحو ما، سواء بتحييد هؤلاء الأشخاص وكسر عدوانيتهم تجاه العرض، أو باستمالتهم نحوه، أوحتى باستخدام المتعاطفين من أهل المكان كحاجز بينهم وبين العرض.
وبرغم أنه من الصعب ظهور تجمع كبير على نحو فجائي دون أن تكون هناك مقدمات واضحة يمكن ملاحظتها والتعامل معها في مرحلة تهيئة العرض، إضافة إلى أنه كلما تقدم مسار العرض والجمهور مستقر حوله ويحيط به شكل ذلز بذاته حائلا يحول يحد من إحتمالات حدوث عمليات إقتحام عنيفة، إلا أن نقص خبرة المنظمين أو خطأهم في قراءة معطيات المكان، أو أي عوامل أخرى لا يمكن حسابها، قد يؤدي في النهاية إلى وقوع إقتحام مباغت أثناء العرض.
وفي حالة ما إذا كان عدد المقتحمين كبير نسبيا، والجمهور الحاضر سلبي في رد فعله ضدهم، أو حتى متعاطف معهم لسبب أو لاخر، فقد لا يكون هناك مفر من إلغاء العرض والانسحاب من المكان.
أما خلاف ذلك، أي إذا كان عدد المقتحمين قليلا والجمهور لا زال محتفظا بتعاطفه مع العرض، فيجب إحاطة وعزل هؤلاء المقتحمين بهدوء وإبعادهم إلى خارج مجال العرض تماما ويفضل أن يستعان بالأشخاص الأكثر تعاطفا ونفوذا من أهل المكان لأداء هذه المهمة، أما عقب ذلك فيجب أن يتم ترميم مسار العرض سريعا واستعادة حالته، مع ملاحظة أنه إذا كان المقتحمون قد رفعوا غطاء أيديولوجي (بإعتبار أنهم ضد المسرح، أو تمثيل النساء، أو الفن بصفة عامة، أو ضد ما قدمه العرض بصدد أمر ما أو قضية بعينها، أو حتى ضد احتلال شارعهم أو منطقتهم من قبل اشخاص غرباء ...الخ)، ففي هذه الحالة يتعين على منظمي العرض –قبل العودة لاستكماله- وضع هذا الخطاب المعلن بين قوسين (بوصفه لا يمثل الراي الأوحد في موضوعه، ولا الأصح بالضرورة) وذلك عبر جمل مقتضبة وذكية وتحمل نبرة الهدوء والثقة، دون التورط في شن هجوم أو إدانة أو إثارة نقاش قد لا ينتهي ولكنه سيطيح بأي فرصة باقية لإستكمال العرض (من المفضل بل والمفيد أحيانا أن يثار هذا النقاش بعد العرض إن سمحت الظروف)، وينبغي أن ينتهي هذا الإجراء بالإحالة إلى العرض وإعادته إلى بؤرة التركيز والاهتمام.
التداخل: هناك أسباب مختلفة قد ينتج عنها التداخل بوصفه اقتحام عابر، ومؤقت بطبيعته، لمساحة التمثيل، أولها وأبسطها وأكثرها تكرارا (خاصة عندما يكون هناك تزاحم لمشاهدة العرض) هو التدافع للحصول على رؤية أوضح، أو وقفة مريحة، وهذا التداخل ارتدادي بحكم طبيعته، فالشخص نفسه سيحاول البحث عن موضع مناسب يعود إليه، وكل ما ينبغي فعله هنا هو عدم استقبال هذه الواقعة بانزعاج (خاصة إذا تخللت أوضاع الممثلين أو أعاقت حركتهم للحظات)، وكذلك عدم السماح لها بالاستمرار بحيث تصبح مصدر إزعاج مستمر، بالإضافة إلى حصر وضبط عملية التدافع حتى لا ينتج عنها اي مشاحنات، وكلها مهام يمكن للمنظمين ومعاونيهم أداءها بهدوء وبشكل لا يشتت الانتباه بعيدا عن العرض.
أما النوع الثاني من أنواع التداخل فيقع في منطقة تكمن بين الرغبة في إثبات الذات، و إختبار العلاقة مع حالة العرض، ومرة أخرى، فإن التفعيل الناجع لتقنيات لفت الانتباه وتهيئة العرض سيقلل كثيرا من فرص ظهور هذا النوع من التداخلات، فمجرد استجابة الجمهور للاصطفاف في شكل منتظم حول مساحة التمثيل يعني أنه قد تقبل هذا العنصر من قواعد التفاعل مع العرض، ومع مرور الوقت يتحول هذا الأمر إلى حالة من الوعي الجمعي المشترك الذي يستلزم قدرا من الطاقة والتصميم لإكتساب القدرة على إختراقه، ولنلاحظ أن المتداخل هنا، خلافا للمقتحم، ليس ضد العرض، ولا هو فاقد الاهتمام به، لأنه لو كان كذلك لإنصرف مباشرة، بل على العكس فهو بتداخله يريد أن يصبح جزءا من حالة العرض على نحو ما، وأن يختبر بنفسه حدود هذه التجربة الجديدة على وعيه، ولذلك ففي أغلب هذه الحالات فإن الشخص الذي سيتداخل في مساحة التمثيل سيكون مهيئا ذاتيا للارتداد عن هذا المكان الذي يشعر فيه بأنه غريب يخترق قانونا ما تحت أنظار الجميع، ولذلك فإن مجرد إيماءة بسيطة، أو دفعة لطيفة من أحد منظمي العرض أو معاونيهم ستعود به إلى موضعه الأول.
أما النوع الثالث من التداخل فينشأ عن إرتباك مجال العرض على نحو يؤدي إلى إنهيار غطاءه الجمالي مما قد يثير ردود أفعال مفاجئة وغير متوقعة من الجمهور ومنها التداخل، وإذا عدنا إلى عرض الحديقة ،"الحكاية الثانية"، فقد كان عدد الممثلين كبيرا نسبيا مقارنة بالمساحة المتاحة للتمثيل، وعبر عدة مشاهد تمكن الممثلين من تكييف حركتهم معا على نحو وفر لهم الحد الأدنى من سلاسة الانتقال في المكان، غير أن هذا انقلب تماما عندما بدأوا مشهدا استعراضيا يعتمد في تصميمه على حركة سريعة ومنتشرة، فقد بدا وكأن كل ممثل لا يهتم سوى بتحاشي الاصطدام بزميله حتى ولو أدى هذا إلى قطع الحركة أو بترها، أو تخفيض ايقاعها فجأة، وبالنسبة لبعض الصبية من المشاهدين لاح هذا المنظر وكأنه يتطابق مع الصورة المنطبعة في ذهنهم عن الرقص "المتزاحم" في الأفراح الشعبية، لذلك اندفعوا فجأة دون تفكير أو إتفاق مسبق فيما بينهم لفعل ما يفعلونه عادة في مثل هذه المناسبات، وما زاد الأمر فداحة هو أن الممثلين –المنشغلين بمشكلتهم- إزدادوا ارتباكا في حركتهم بعد أصبح لديهم المزيد من الأجساد التي يحاولون تفادي الاصطدام بها، وفي النهاية إستفاق البعض وأزاحوا الصبية إلى حافة محيط المشاهدة، ولكن ما عاناه هؤلاء من حالة ارتباك للوعي جعلهم يغادرون المكان نهائيا.

4- هامش/ مواجهة الـ "ميدوزا":
كان "فالتر بنيامين" ينعى غياب ما أطلق عليه الهالة (أو العبير) التي كانت تصاحب العمل الفني وهو في مكانه أو بيئته الأصلية (المتحف مثلا) ثم فقدها مع عملية استنساخه، وبمعنى آخر كان بنيامين يتحدث عن انفصام العلاقة بين هذه النسخ وبين الغطاء، أو المجال الجمالي الذي كان يصاحب العمل الفني الأصلي، ويضفي عليه تلك الهالة أو العبير، فاللوحة -مثلا- تفقد هذه الهالة عندما تخرج من المعرض وتتحول إلى ملصق، ولكنها برغم ذلك ستظل محتفظة بحضور وتماسك أغلب علاقاتها الداخلية، والحال ليس كذلك على الإطلاق بالنسبة لمسرح الشارع، فعندما سيفقد غطاءه الجمالي لن يبقى منه شيء تقريبا، وسيتبدد التماسك بين مكوناته حتى تنفجر وتستعاد بالكامل إلى حالة تبعثر ما هو يومي.
في المباني المسرحية المجهزة عندما نشاهد عرضا سيئا، فأول ما سنشعر به هو أننا لا ننتمي إلى هذا المكان، وهو ما يترجم إلى رغبة في مغادرته، والأمر عكس ذلك أحيانا في مسرح الشارع، فعندما يفشل العرض في خلق حالة التواصل "الجمالي" قد نشعر كمشاهدين أن العرض نفسه لا ينتمي إلى عالم الشارع "الواقعي" وعليه مغادرته.
وعلى ضوء هاتين الملاحظتين سنتعرض هنا لأشد الحالات خطرا على مسرح الشارع، ليس على مستوى العرض فحسب، وإنما على مستوى المشروع ككل، فعرض مسرح الشارع يجب أن يحضر أمام جمهوره منذ بداية مراحل التحضير والتجهيز عبر غطاء جمالي، إلى أن يقدم نفسه بوصفه فعلا جماليا خالصا، وأن يظل كذلك حتى النهاية، وهو ما سيمنحه القدرة على أن ينحي جانبا، طوال زمن العرض، الوعي المباشر والسياقات النفعية والخبرات اليومية الواقعية والجامدة التي يتعاطي عبرها مشاهدوه مع عالمهم، هذه النقلة في الوعي والشعور هي جوهر التجربة الجمالية التي ينبغي أن يحافظ عليها العرض بأي ثمن، وأيا كانت التكلفة، فهذا الغطاء الجمالي هو ما يمنح العرض حضوره الخاص والفريد وغير الواقعي، وإذا ما تهتك هذا الغطاء نتيجة تفسخ الايقاع مثلا، أو ضعف التواصل الحسي، أو سقوط مسار العرض في مناطق مبهمة أكثر مما ينبغي، فعندئذ ستأتي اللحظة التي ينظر فيها المشاهد إلى العرض بعين "ميدوزا" القادرة على إحالة كل ما هو حي إلى حجر ساكن، ليرى ما يحدث في واقعيته الفجة المباشرة والفاضحة، مجموعة من الأغراب يحتلون مكانا لا يخصهم، ويقومون بأفعال تافهة لا هدف لها، ولا نفع منها.
صحيح أن عين ميدوزا تترصد دائما كل ما هو جمالي أيا كان نوعه أو سياقه أو مكانه، إلا أن فعاليتها تخفت أو تتأخر بعض الشيء في البيئة المجهزة مسبقا للتواصل الجمالي بجمهورها المصقول والمدرب، أما في الشارع، ومع جمهور تجمع بصورة عشوائية، فالأمر مختلف تماما، وعموما فإن أفضل السبل لمواجهة "الميدوزا" هو تجنب هذه المواجهة اصلا، فعدة تجارب متتالية من هذا النوع كفيلة بقتل روح أعضاء الفريق واحدا تلو الآخر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا