الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رحلة في فهم طبيعة العلم - الثانية

مصطفى الصوفي

2014 / 8 / 29
الطب , والعلوم


ان العلم ، والعلم وحدة الذي كان و لايزال مصدر اخراج نوعنا البشري من عصور الظلام و الجهل الى عصور النور و المعرفة ، في حين كان معدل اعمار اجدادنا لا يتجاوز الخامسة والثلاثين عام بات اليوم وبفضل العلوم الطبية يتجاوز المئة .
منهج البحث العلمي وفر لنا وسائل عظيمة للوصول الى المعرفة والحقيقة التي مكنتنا من الانتصار على اخطر الامراض و اجراء ادق العمليات الجراحية لإعادة البصر ،وتقويم التشوهات الولادية ، وزراعة الاعضاء ، تجولنا في مجموعتنا الشمسية ونظرنا الى عمق مجرتنا ، وبفضلة بات من الممكن الاتصال باي شخص في العالم و باي وقت نشاء .

نتطلع اليوم لبناء اعضاء حيوية و استخدام تقنيات النانو لترميم اجسادنا في رحلة الى عصر الآلات الروحية كما اسماها راي كيرزويل حينما تنبأ بعالم ما بعد الانسانية حيث يتلاشى فيه الفارق بين الانسان والآلات ويصبح الخط الفاصل بين الانسانية والتكنولوجيا شبه معدوم باتحاد اجسادنا برقائق الحواسيب ،ليكون الشعور الانساني والذكاء الاصطناعي الخارق مع بعضه و تتقدم البشرية الى عصر جديد و خارق جدا بالنسبة لنا .

قد يبدو العلم غامضا خصوصا حينما يستخدم العامليين فيه الكثير من المصطلحات الغريبة على الانسان غير المتخصص و الذي يلحظ ان التفسيرات العلمية معقدة بسبب كونها مثقلة بالتفاصيل والكلمات الغير معروفة ، تتضح حقيقة العلم بكونه منهج حدي واضح وتفصيلي ودقيق جدا للحرص على حصر هامش نسبه خطأ وجعله ضئيل جدا والى اقصى حد ممكن . ولهذه الميزة فهو الوسيلة الافضل للكشف عن الحقائق وفعل كل شيء ،و سيستخدمه الجميع لفعل كل شيء قد يخطر في بالنا ، بالمقابل تقع مسؤولية كبيرة على المفكرين والفلاسفة لتطوير المنظومات الاخلاقية والفكرية للمجتمعات البشرية خصوصا امام هذا التسارع والقفزات الهائلة في مجال العلوم والمنتوجات التقنية التي لا تقارن مع تقدم بناء المنظومات الفكرية المتأخر للتعامل مع كل هذه القدرات العظيمة التي يمنحها لنا العلم ، صحيح ان هناك محاولات جادة وكبيرة في صناعة وعي علمي اخلاقي لحماية البشر اثناء استخدامهم للتقنيات التي ينتجها العلم .لكن هناك الكثير من المجتمعات التي يعتنق افرادها الافكار القومية ، العقائدية العنصرية ، الشمولية ،و الدكتاتوريات الفكرية ، والتي هي بالأساس سبب الدمار والحروب بين المجاميع البشرية ، اذا ليس من المعقول ان ننسب للعلم جريمة هيروشيما و ناكا زاكي لان العلم ومنهج العلم لم يروج للحرب يوما او للتدمير بل تلك الاعتقادات البدائية والخيارات الاخلاقية التي اتخذها من استخدموا العلم في سبيل عقائدهم الفكرية !.

انه خيار اخلاقي و فكري (ليس خيار علمي) في حال قناعتك في ان تستخدم القوة والبطش لفرض رؤيتك وافكارك وبالتأكيد ستستخدم الوسيلة الافضل لصناعة التقنية التي تجعلك تصنع الدمار والاذى الاكبر تجاه اخيك الانسان الذي تعتقد بانه يستحق القتل لأسباب قد تبدو لك اخلاقية ومنطقية جدا لكنها لن تكون علمية اطلاقا !. ومثلما ميزنا سابقا بين التقنية و العلم سنضيف هنا المنظومة الفكرية التي يستخدم معتنقوها تلك التقنية !.
لكن ما هو العلم يا ترى ؟ وما هو منهج العلم ؟.

يكتب كارل سايغان في كتابة (عالم تسكنة الشياطيين ) "العلم هو احدث وسيلة ابتكرها الانسان من اجل فهم موقعة في هذا الكون والطبيعة والسيطرة عليها " في حين يتمثل العلم باستخدام المنطق و الأسلوب المنهجي التجريبي لبناء المعرفة ، سابقا كانت العلوم شائكة و مليئة بالاعتقادات الخاطئة والتخمينات ، حيث كان الفلاسفة هم اول الرواد هذا التفكير العلمي البدائي الذي تشذب و تأسيس من خلاله المنهج العلمي الحديث بتقادم الزمن و تطور الفكر البشري ، لذا قد لا يصح ان نسمي وسائل البحث والتفكير والاستنتاج السابقة علوما بالمعنى الحديث للعلم فهي اقرب ما تكون الى المعارف العامة و المحاولات الاولية لفهم الظواهر التي حولنا .

في الفترات الماضية نجد ان هناك الكثير من (المعلمين) مهتمين بعدد هائل من المعارف في وقت واحد ، ولم يكن من الغريب في وقتها ان يكون الطبيب فيلسوفا وفي نفس الوقت رياضيا ولغويا ومهتم بالشعر و مهندس ويجيد ما يسمى بالخيمياء ! ، ومع تعددية المعارف نجد ان هناك الكثير من الاعتقادات المبنية على الايمان وليس على التجريب والملاحظة التي سنأتي على شرحها لاحقا .

لكن هذا لم يدوم ويستمر خصوصا امام تراكم المعرفة و وجود كم هائل من الظواهر في الطبيعة و التي تستدعي الدراسة بدقة وفق منهج رصين وليس بطريقة بدائية مليئة بالأخطاء والمغالطات والاعتقادات التخمينية رغم منطقية اسلوب التفكير في حينها . اليوم بات هناك علماء متخصصون في مجالات محددة حتى ان بعضهم متخصص بظاهرة واحده يبقى معتكفا طول عمرة على دراستها ، فهمها و تفسيراها ! .
يرى جون بروكمان في كتابة(الانسانيون الجدد ، العلم عند الحافة ) بعدم وجود مانع اطلاقا بان يوجد مثقفين متعددين الاهتمامات و يسهب في كتابه في توضيح هذا عن طريق تحريره لمقالات الكثير من العلماء في قضايا مختلفة ليست بالضرورة ضمن اختصاصهم الاكاديمي العلمي .
وفي مقدمة كتابه يستشهد باراء (سي. بي. سنو ) الذي اطلق رؤية تتحدث عن وجود ثقافتين ، ثقافة المشتغلين بالفنون و الآداب في مقابل معسكر ثقافة العلوم الطبيعية مثل الكيمياء و البيولوجيا ، حيث وصف الحال بالثقافتين بالانفصام وبهذا رفض مفهوم الثقافة الواحدة .
فمن النادر ان يمتلك احد افراد الثقافتين اي معلومات او دراية كافية بما يجري في الثقافة الاخرى من ابحاث ونظريات. ويشرح بروكمان ان المقصود هنا هو ليس ان يتأهل العلماء للاشتغال بالفن او يتأهل الادباء والفانون للاشتغال بالعلم ولكن المقصود ان ينال افراد كل جانب قسطا من المعلومات عن الاخر تجعله ملما بما يحوي المعسكر الاخر من افكار ونظريات بحيث تكون له القدرة على تبني رأي والتقييم او النقد ، وهكذا يسود اتفاق على التقريب بين الثقافيتين العلمية والادبية وظهر مفكرون في كلا الفريقين يدعون لما يسمى بالثقافة الثالثة والتي لقب اصحابها بالموسوعيين او (الانسانيون الجدد) .

ان نقاش المعسكرين يذكرني بالجدل الدائر حول تقسيم العلوم ، فنحن نعلم وبسبب تعدد الظواهر الموجودة ان هناك تخصصات عديدة للعلوم و رغم ان التقسيم التقليدي يقسمها الى مجالين اساسين وهي العلوم الطبيعية و العلوم الانسانية الا ان الكثير من متخصصين العلوم التطورية يرفضون هذا ويعتبرون ان العلوم الانسانية يجب ان تكون مرتبطة بالعلوم الاحيائية.
فالإنسان هو كائن احيائي وفصله عن الكائنات الاخرى هو امر غير منطقي علميا ، حجة الاجتماعيين التقليدين بكون ان الانسان كائن فريد من نوعه مع الاستمرار بالتعامل معه ودراسته وفق مبدأ الانفصال التام عن كونه كائن مرتبط بالحيوانات الباقية تصل بالاجتماعيين دوما الى تفسيرات المتناقضة وتسقطهم في مغالطات كثيرة لأنها تتجاهل ارتباط الانسان بالأحياء الباقية واتفاق الكثير من سلوكياته ودوافعها من اسس احيائية ، لا ينكر التطوريون كون الانسان فريد من نوعه لكن كل الانواع فريدة من نوعها في نفس الوقت .
يقول عالم الاجتماع الاحيائي (بيتر فاندين بيرغ) "البشر ليسوا فريدين في فرادتهم فكل نوع فريد من نوعه ، اذا لو لم يكن كذلك، لما كان نوعا منفصلا اصلا !. ان كانت فرادة النوع تتطلب منهجا علميا منفصلا ،فيتعين اذن ان تكون هناك تخصصات علمية بعدد الانواع الموجودة التي نعرفها ، كعلم الكلب ، وعلم الزرافة الخ "
علم الاحياء هي دراسة لجميع الكائنات الحية بدون استثناء ، تركيبها ، سلوكها ونظمها الاجتماعية ، و الانسان ايضا ضمن الكائنات حية التي تدرسها الاحياء !
اذا لن تكون العلوم الانسانية والاجتماعية من ضمنها خارج اطر العلوم الاحيائية و حتى لا تكون النظريات الاجتماعية غير متسقه مع المبادئ الاساسية للأحياء مما يجعلها حاوية على المغالطات والاخطاء التفسيرية ، ان تخلف علم الاجتماع و كثافة الضبابية فيه مقارنة بالعلوم الباقية يعزى الى هذا الموضوع و لكون غالبية علماء الاجتماع التقليديين لايزالون مصرين على طريقة التفكير القديمة القائمة على استثناء الانسان و رفض اسس الاحياء الاخرى و مقارنتها مع الانسان والتعامل معه بانه كائن فريد لا تنطبق عليه اي قوانين من قوانين الاحياء الاخرى .

يرى التطورين ان الادعاء القائل بان العلوم الاجتماعية ليست جزء من علم الاحياء وان البشر مختلفين مع الكائنات الحية الاخرى ، هو غريب وغير ضروري اطلاقا بقدر انشاء علم الهيدروجين لدراسة الهيدروجين بغض النظر عن علم الفيزياء والكيمياء مع وضع تفسيرات ونظريات تتعارض مع اسس تلك العلوم( قوانين الفيزياء والكيمياء) ، بحجة (كونه العنصر الاكثر وفرة ، العنصر الذي تحتوي نواته على نيترونات، ولديه اقل عدد من النظائر في الطبيعة ولديه سرعة اعلى من اي غاز اخر في اي درجة حرارة و القائمة تطول) .

ينبه مؤسسا علم النفس التطوري( ليدا كوسميدس وجون توبي ) على ذلك ايضا حيث ينوهان ان قبل غاليليو و نيوتن كان العلم السماوي ( حول حركات الاجرام السماوية ) والعلم الارضي (حول حركات الاشياء على الارض) ينظر اليها كعلوم منفصلة عن بعضها البعض حيث يعتقد انها محكومة بقوانين منفصلة وقد كانت خطوة كبيرة الى الامام في تاريخ العلوم ان ازيل بينهما هذا الفصل ، حيث اقر غاليليو ونيوتن بان نفس المجموعة من القوانين والمبادئ تنطبق على كل الاجسام السماوية والارضية .
و هنا تتضح حاجة الاحتواء العلمي و دمج اسس علم الاحياء مع علم الاجتماع ولابأس بالتخصص بعدها والتعمق اكثر في دراسة الانسان لكن ستبقى من منطلقات احيائية حتى تكون التفسيرات والنظريات الاجتماعية والسلوكية اكثر دقة .
صحيح ان هناك اختلاف في مادة الدراسة اذ لا يمكن ان يكون هناك تشابه بين دراسة الانسان ودراسة ذرة الهيدروجين فمن الممكن التجريب ودراسة ذرة الهيدروجين بدون القلق من المشاكل الاخلاقية في حين ان هناك مشاكل اخلاقية في التجارب البشرية ، فالقيام بتجربة كيميائية ومزج بعض العناصر لا يسبب اي مشكلة مثل اجراء التجارب على مجموعة من البشر و ما تقع عليه من اعباء وحذر ومشاكل في خصوصية من تقام عليهم التجارب ، عموما من الصعب دراسة الفرد البشري وتعميم تلك الدراسة بسبب عدد العوامل الذي تؤثر به و المؤدية الى تغيرات سلوكية بين فرد واخر وهذا ما لا ينكره التطوريون لكنهم بنفس الوقت يعتقدون بإمكانية رسم خطوط عامة لتفسير الكثير السلوكيات البشرية ولا يتوقف الامر على السلوك هنا بل يصل الى دراسة الكثير من المجالات الانسانية عن طريق استخدام مبادئ علم الاحياء و قوانينه . وعلى كل حال هناك حركة نشطة في مجالات العلوم التطورية الانسانية تنافس العلوم الاجتماعية التقليدية والتي بدأت بالاندثار والتراجع بسبب هذا الاصرار على الفصل ..

يتبع ....

ملاحظة ، المقال السابق والمقال الحالي مكتوب بالاعتماد على مصادر سيتم ذكرها في نهاية السلسلة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأقمار الصناعية تكشف ثكنات عسكرية للحوثيين تحت الأرض


.. مقابلة خاصة مع مؤسس شركة مايكروسوفت بيل غيتس




.. الأقمار الصناعية تكشف ثكنات عسكرية للحوثيين تحت الأرض


.. معهد العلوم السياسية بباريس يرفض مراجعة علاقاته مع الجامعات




.. قبَّل يد رجل الأعمال محمد أبو العينين.. الطبيب الشهير حسام م