الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكورد وحماقة أعدائهم

حسين عمر

2014 / 8 / 31
مواضيع وابحاث سياسية


لم يجد المؤلفان هارفي موريس وجون بلوج عنواناً لكتابهما عن مأساة الكورد التاريخية ما هو أكثر تعبيراً من عبارة تكاد تكون حكمةً: " لا أصدقاء سوى الجبال "، لتوصيف هذه المأساة وسكوت العالم عليها وتجاهله لها على مدى عقودٍ من القرن المنصرم، اتّسمت بعقد اتّفاقيات وتوقيع معاهدات في منطقة الشرق الأوسط تجاهلت برمّتها كلّ المواثيق والعهود الدولية التي تنصّ على حقّ الشعوب في تقرير مصيرها، وكان الكورد على الدوام القاسم المشترك بين ضحاياها. لم يكن لأيّ دولة من الدول المتنفّذة في المجتمع الدولي والقادرة على صياغة قراراته الكبيرة موقفٌ مؤيّدٌ لقضية الكورد وحقّهم ليس فقط في تقرير مصيرهم بل وفي الاعتراف بهويّتهم ووجودهم.
طيلة تلك العقود، لم يعدم الكورد صداقة ومساندة بعض الشخصيات الاعلامية والثقافية والعلمية والأكاديمية وحتى السياسية والتي كان بعضها يحظى بمكانة وشهرة عالميتين ، فغامر صحافيون بحياتهم لنقل معاناتهم وايصال صوتهم، وبذل مفكّرون وباحثون الكثير من الجهد والوقت للتعريف بهم وبهويتهم ودافعت شخصياتٌ عديدة في المحافل ومن على المنابر عن حقوقهم، بل وتعاطفت دولٌ عديدة مع معاناتهم وقضيتهم، لكن قواعد لعبة الأمم المفروضة من قبل اللاعبين الكبار منعتهم من تحويل ذلك التعاطف إلى مواقف سياسية تحقّق مكاسب فعلية على صعيد القرار الدولي لصالح الكورد وقضيتهم.
طيلة هذه العقود، كانت محنة الشعب الكوردي تكبر ككرة الثلج المتدحرجة وكانت الكارثة الإنسانية المحيقة به تتعاظم والكِلَف التي يدفعها بشرياً تستفحل وبات أعداؤه يشعرون أنّ لا حساب سيدفعونه على ارتكابهم المجازر والشنائع ضدّهم إلى درجة أنّ نظام صدّام حسين، الأكثر دموية ووحشية وتهوّراً وحماقةً، استخدم ضدّهم في آذار 1986، ابّان الحرب العراقية-الايرانية، الأسلحة الكيماوية ومن ثمّ جرّد عليهم، في أعقاب تلك الحرب، حملات الأنفال، وقد حصدت عملية قصف مدينة حلبجة وأطرافها بالكيماوي وحملات الأنفال ما يقارب مائتي ألف ضحية الأمر الذي أثار موجة عارمة من التعاطف الشعبي في مختلف بقاع الأرض مع محنة الشعب الكوردي الذي بدا واضحاً أنّه يتعرّض لحملة إبادة جماعية.
وإذا كانت موازين القوى الدولية آنذاك والمعادلات السياسية التي كان مطلوباً ترسيخها في المنطقة في أعقاب انتهاء الحرب العراقية-الايرانية لم تكن لتسمح ببلورة موقف دولي مناصر لقضية الشعب الكوردي ومتعاطف مع محنته الإنسانية التي تعاظمت خلال سنوات الحرب الثمانية، فإنّ فداحة المأساة وحجم الضحايا البشرية هزّا ضمير العديد من الشخصيات المؤثّرة في الرأي العام العالمي.
كانت حماقة النظام العراقي الثانية هي اقدامه على غزو دولة الكويت المجاورة في آب 1990 في ظلّ ظروف دولية مغايرة تماماً وغير مواتية لنظامٍ لطالما حظي برعاية مزدوجة من كلا المعسكرين الغربي والشرقي، حيث كان انهيار الاتحاد السوفيتي وتفكّكه وانغماس وريثته روسيا في أزمات ومآزق اقتصادية واجتماعية وسياسية، شلّت قدرتها على مستوى الأدوار الدولية، بمثابة أعظم خللٍ في توازن القوى الدولية التي كانت تقوم إلى تلك اللحظة على مبدأ الثنائية القطبية ومعايير الحرب الباردة، ليتحوّل النظام السياسي العالمي، ولو مرحلياً، إلى نظامٍ أحاديّ القطب تفردّت فيه أمريكا بالدور السياسي والعسكري المسنود بتحالفات، غالباً آنية، ضمّت، أحياناً، نظماً ذات طبيعة مختلفة.
كان التحالف الدولي الثلاثيني الذي قادته أمريكا لإخراج القوات العراقية الغازية من الكويت وانهاء احتلالها لهذا البلد، الذي يحظى بمكانة متميّزة بين منتجي النفط ومصدّريه، العلامة الأبرز والأوضح على طريق إعادة بناء النظام العالمي الجديد الفالت من ضوابط الثنائية القطبية والمتجّه سريعاً نحو ترسيخ هيمنة القطب الواحد.
أشاعت الهزيمة النكراء للدكتاتور صدّام في الكويت أجواءً من التململ في صفوف القطعات العسكرية الناجية من المحرقة التي وضعها صدّام فيها وحفّزت هذه الهزيمة التي أضعفت جيش صدّام واستنزفت آلته الحربية أبناء جنوب العراق وجنوب كوردستان على الانتفاضة ضدّ النظام العراقي. وفي غضون أسبوعين استطاع الكورد المنتفضون من جماهير شعبية وقوات بيشمركة أن يحرّروا معظم جنوب كوردستان وتزامن حلول عيد النوروز مع تحرير قوات البيشمركة لمدينة كركوك التي تحظى بمكانة رمزية خاصّة لدى الكورد حيث كان اصرار الأنظمة العراقية المتعاقبة على سلخها عن كوردستان العقبة التي حالت دون نجاح أيّ اتفّاقٍ بين تلك الحكومات والحركة التحررية في جنوب كوردستان.
أراد النظام العراقي أن يستعيض عن هزيمته المذلّة في الكويت والسريعة في كوردستان بتحقيق (انتصارٍ) داخلي يمحي به ما لحق به من عارٍ ومهانة، فاستخدم ما تبقّى من ترسانته التدميرية وطائراته المروحية (التي استُثنيت من حظر التحليق بموجب اتفاقية الاستسلام الشهيرة باتفاقية خيمة صفوان) بوحشية ضدّ الكورد، فكانت الهجرة المليونية لشعب جنوب كوردستان في ظلّ ظروفٍ مناخية قاسية والتي هزّت صور مآسيها الضمير العالمي من جهة وأثارت موجاتها نحو شمال كوردستان مخاوف تركيا وحلفائها الدوليين، الأمر الذي أرغم أصحاب القرار في العالم على التحرّك الذي سرّع من وتيرته تدخّل شخصيات عالمية مرموقة ومؤثّرة صديقة للشعب الكوردي وفي مقدّمتها دانييل ميتيران قرينة الرئيس الفرنسي آنذاك الاشتراكي فرانسوا ميتيران الذي أبلغ حليفيه الرئيسين آنذاك الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب ورئيس الوزراء البريطاني جون ميجور بأنّ قواته في طريقها إلى حماية الكورد حتى وان لم تتحرّك بلداهما إلى جانب فرنسا.
كان القرار الدولي 688 الصادر عن مجلس الأمن الدولي للأمم المتحدة في 5 أبريل/ نيسان 1991 والذي "أدان القمع الذي تعرض له الكورد واعتبر نتائج هذا القمع تهديداً للسلم والأمن الدوليين في المنطقة وطالب بأن يقوم العراق على الفور كإسهام منه في إزالة الخطر الذي يتهدد السلم والأمن الدوليين في المنطقة بوقف هذا القمع، وأعرب عن الأمل في السياق نفسه في إقامة حوار مفتوح لكفالة احترام حقوق الإنسان والحقوق السياسية لجميع المواطنين العراقيين"، كان هذا القرار المنعطف التاريخي في مسار تطوّر القضية الكوردية على الصعيد العالمي والتحوّل الحاسم في هذا المسار لجهة اتّخاذ القضية الكوردية بعدها الدولي رسميّاً بموجب القرار المذكور. وقد أعقب اتّخاذ هذا القرار البدء بتنفيذ (عملية توفير الراحة) Provide Comfort في يوم 6 أبريل/نيسان حيث تم تقديم المساعدات الإنسانية إلى الكورد بعد أن انشأت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا منطقة حظر طيران شمال خط العرض 36 كملاذ آمن Safe Haven"" شملت أيضاً حماية الكورد من جانب القوات البرية للحلفاء المتمركزة في تركيا.
بعد هذه التدابير الدولية، بدأت رحلة العودة والتحرير ليتشكّل نواة الاقليم الفيدرالي من خلال العملية السياسية والقانونية التي بدأت عام 1992 بانتخاب برلمان اقليمي وتشكيل حكومة اقليمية مشرْعَنة من البرلمان المنتخَب.
شكلّ الاقليم الجنوبي من كوردستان حالة أمر واقع لغياب أي علاقة دستورية مع دولة العراق ولكنّ غياب هذه العلاقة الدستورية مثّل من جهة أخرى حالة انفصال فعلية عن العراق، فانطلقت اليد الكوردية للعمل السياسي في الداخل والدبلوماسي في الخارج. وإذا كانت فترة الاقتتال الداخلي المريرة قد أساءت لتجربة الحياة السياسية والإدارية في الإقليم، فإنّ نجاح الجهود الأمريكية (بعد فشل جهود فرنسية) في التغلّب على الصراع الداخلي وتوقيع اتفاقية واشنطن بين الطرفين المتقاتلين قد أعاد عجلة العملية السياسية إلى الحياة ونشّط الجهد الدبلوماسي الدولي لكسب تأييد العالم لعدالة القضية الكوردية، لكنّ بقاء جنوب كوردستان (رسمياً) كجزء من العراق، أعاق إمكانية التعامل الدولي اقتصادياً مع جنوب كوردستان والاستثمار الاقتصادي فيه والتواجد الديبلوماسي الرسمي والعلني لديه.
مثّل التدخّل الدولي ضدّ نظام صدّام واسقاطه ومن ثمّ انطلاق العملية السياسية والدستورية في عراق ما بعد صدّام التي شكّل الكورد فيها عنصراً مؤسّساً أساسياً تحوّلاً كبيراً في وضعية اقليم كوردستان الذي اكتسب الشرعية الدستورية في إطار الدولة العراقية الاتحادية الأمر الذي فتح الباب واسعاً أمام تدفّق التمثيل الديبلوماسي من جهة والاستثمارات من جهة أخرى وقد ساهم المجهود الديبلوماسي الذي كانت القيادة السياسية الكوردستانية قد بذلته على مدى سنوات طويلة على الصعيد الدولي في تسريع وتيرة هذا التدفّق. ساهم تواسع التمثيل الديبلوماسي وتزايد حجم الاستثمارات في تعزيز مكانة الاقليم الدولية من جهة وتنميته وازدهاره اقتصادياً من جهة أخرى، الأمر الذي مكّنه من القدرة على الصمود والثبات في مواجهة الضغوط التي حاولت الجهات المتفرّدة في حكومة بغداد من خلالها إخضاع الإقليم لمشيئتها السياسية ووصايتها الاقتصادية، بل وابداء الحزم في اعتماد خيارات بديلة أبرزها التوجّه نحو فتح أبواب صناديق الاقتراع أمام أبناء الجنوب الكوردستاني للاستفتاء على مصيرهم خاصّة بعد الانهيار السريع والمفاجئ للقوات العراقية في المحافظات السنيّة أمام تنظيم داعش وحلفائه الذين كادوا أن يفصلوا بالكامل بين جنوب كوردستان وما تبقّى من العراق ويشكّلوا حاجزاً بينهما.
لم يكن التحوّل المفاجئ في وجهة داعش من بغداد نحو هولير بعيداً عن دور محورٍ اقليمي جاهر ليس فقط بمعاداته للتوجّه الاستقلالي الذي تنامى وسط القيادة السياسية الكوردستانية بل وتوعّده بالعواقب أيضاً.
وبالتالي، إذا كانت الحماقتان الأولى والثانية قد إرتكبهما نظام صدّام وساهمتا في دفع القضية الكوردية صُعداً على سلّم الاهتمام الدولي، فإنّ هذه الحماقة الثالثة والأخيرة قد ارتكبها محورٌ اقليمي يتكوّن من دول محيطة بالعراق وأطراف من سلطة الحكم في العراق استخدم تنظيم داعش الذي يبدو وأنّه في أضعف الاحتمالات مخترقٌ بتيارٍ على ارتباطٍ بهذا المحور وكانت الغاية الأساسية من هذا التحوّل في وجهة الهجوم احراج القيادة الكوردستانية الساعية إلى إعادة صياغة المعادلة السياسية في العراق بناءً على ما استجدّ من معطيات بعد العاشر من حزيران 2014 واضعافها بل والعبث بتوازن القوى السياسية داخل الاقليم الكوردستاني بما يعتقد المحور الذي يقف خلفه بأنّه سيحقّق رؤيته ليس بشأن الوضع في العراق بل وفي سوريا ومحيطهما أيضاً.
لكنّ سرعة التحرّك الدولي، الذي ربّما لم يكن مفاجئاً فحسب بل ومحبطاً أيضاً لهذا المحور, في دعم وحماية جنوب كوردستان وتواسع حجم هذا الدعم وانضمام أعداد متزايدة من الدول التي تتمتّع بإمكانات سياسية وعسكرية واقتصادية هائلة إلى حملة الدعم الدولية قلّب الحسابات وغيّر المعادلة، إذ يتشكّل الآن ما يمكن تسميته بتحالفٍ دوليٍّ متواسع يضمّ اقليم كوردستان – وكأنّه دولة مستقلّ- وتشكّل حماية الإقليم أحد أهدافه الرئيسية.
إنّ أبرز ما يميّز هذا التحرّك الدولي هو حجم التوافق بين دوله من جهة ومدى الاتفاق بين مختلف التيارات السياسية داخل كلّ دولة من دوله من جهة أخرى. فعلى مدى العقدين الماضين، لم يشهد المجتمع الدولي توافقاً سياسياً على قضيّة تخصّ التدخّل العسكري مثلما نشاهده الآن بما يتعلّق بشأن جنوب كوردستان. ففي عام 2003، انقسم الحلفاء الغربيون بشأن التدخّل العسكري للإطاحة بنظام صدّم، إذ حدث شرخٌ كبير بين أمريكا وفرنسا الشيراكية التي رفضت الانضمام إلى التحالف الساعي لإسقاط صدّام الأمر الذي ألحق أضرار بليغة بالعلاقات بين البلدين بل وبالعلاقات بين أمريكا وأوروبا كما حدث تباينٌ مشابه في المواقف الدولية ابّان التدخّل العسكري في ليبيا.
لكنّ الملفت بشأن قرار التدخّل العسكري ضدّ داعش وحماية اقليم كوردستان أنّ ليس هناك أيّ طرفٍ دوليّ يعترض على هذا التدخّل، بما فيها روسيا التي لطالما عارضت أيّ تدخّل عسكري من جهة الغرب حيث لم يصدر عنها اعتراضٌ جدّي في هذه الحالة الأخيرة. كما أنّ الأطراف السياسية والرأي العام داخل البلد الواحد كانت غالباً ما تنقسم على نفسها بشأن قضايا التدخّل العسكري في الخارج، ونتذكّر جيّداً المظاهرات والاحتجاجات الشعبية وحملات معارضة الحرب على نظام صدّام في بريطانيا، في حين أنّ هناك ما يشبه الاجماع من قبل مختلف التيارات السياسية بل وحتى الاتجاهات الاعلامية في البلد الواحد من بلدان هذا التحالف الدولي الذي يتشكّل في مواجهة خطر الإرهاب الذي يمثّله تنظيم داعش.
كلّ هذا يدفعنا إلى الاعتقاد بأنّه إذا كانت الحماقتان الأولى والثانية قد ساهمتا إلى حدّ كبير في تدويل القضية الكوردية، فإنّ حماقة أعداء الكورد الثالثة هذه قد ساهمت فعلاً في تدويل (التجربة الكوردية في بناء الكيان الذاتي) حيث بات العالم المقرِّر يتعامل مباشرة مع الإقليم وكأنّه دولة مستقلة وهذا يمثّل خطوة هائلة على طريق كسر احتكار القوى الاقليمية للملف الكوردي، اذ لم تعد القوى الدولية تمنح القوى الاقليمية المساحة السابقة من التعاطي مع القضية الكوردية، وهذا ما يجعلنا نقول أنّ هذه الحماقة الثالثة ستضع الأثفية الثالثة لتستقر أركان الدولة الكوردستانية المستقلّة في جنوب كوردستان.
لقد شاء قدر الكورد، وربّما شاء تدبيرهم السياسي، أن يدفعوا كِلَفاً باهظة جدّا على كلّ الصعد ثمناً لوقوفهم على أبواب حريتهم، لكنّ الأمّة التي تنال حريّتها بأثمانٍ عظيمة، ستكون أمّة عظيمة!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لماذا لم تتراجع شعبية ترامب رغم الإدانة؟| #أميركا_اليوم


.. 10 شهداء بينهم أطفال وعدد من الإصابات في قصف استهدف منطقة رم




.. بن غفير: الصفقة تعني التخلي عن تدمير حماس فإذا ذهب نتنياهو ب


.. تشويه لوحة فرنسية شهيرة بسبب التقاعس بمواجهة التغير المناخي




.. تظاهرة في مدينة بينغول التركية دعماً لفلسطين وغزة