الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تحولات المجتمع العربي من البداوة إلى العولمة

محمد العليمي

2014 / 9 / 1
الادب والفن


تحولات المجتمع العربي من البداوة إلى العولمة
"قراءة في رواية مدن الملح"

تقدم رواية "مدن الملح" لعبد الرحمن منيف نموذجاً غير مسبوق لتحول المجتمع العربي في زمن البداوة ومن عصر الانغلاق إلى العولمة والانفتاح على الآخر حيث ترصد الرواية بكل دقة تحول هذه المجتمعات باتجاه القرية العالمية الواحدة فيما يعرف بالعولمة والنظام العالم الجديد، وقد وضع عبد الرحمن منيف مدينتي "وادي العيون" و "حران" كنموذجين مصغرين يرصد من خلالهما ديناميكية هذه التحولات التاريخية والتي استتبعت في فلكها تحولات الشخصية العربية كلازمة مهمة لتحولات المكان ضمن خصيصة إنسانية كبرى تربط الإنسان بالمكان روحياً وجسدياً.
لقد غاب عن ذهنية الكاتب وهو يرصد كل التفاصيل الصغيرة والدقيقة عن هذا التحول بخياله الواسع ما تحتويه هذه التحولات من جوانب إيجابية عن طريق التقريب الزمني الذي يستتبع عملية التحول ودخول أدوات التكنولوجيا إلى صحراء العرب وامتداد الجسور بين الأنا والآخر لإضاءة عوالم كل منهما ودراسة خصائص الإنسان المشتركة وتحويل هذا العالم الموحش إلى حفلة غنائية راقصة بتعبير الغفوري عن طريق إمكانيات التكنولوجيا وما أحدثته من قفزة هائلة للإنسانية لتسخير هذا الكون في سبيل رفاهية الإنسان.
لقد قاسى المجتمع العربي معاناة وشظف هذا التحول القسري إلى مستقبل مجهول والانصراف عن مرابع الصبا وذكريات الطفولة وموطن الأجداد، حيث تلعب شخصية "متعب الهذال" في الرواية هذا الدور العربي المتوجس من الآخر والمرتاب من كل جديد حيث يسرد الروائي كيفية وقوفه في وجه الأمريكان الذين جاؤوا بمعداتهم وآلاتهم حتى ينقبوا عن النفط وبتنسيق مع السلطات الرسمية آنذاك، وقد بدا "متعب الهذال" غاضباً ومتوعداً وشاتماً الأمريكان في أول الأمر وسرعان ما تحول حنقه إلى قلق ويأس وصمت إثر تخاذل رجال القرية في وقوفهم ضد هذا القادم الغامض، وقد غادر القرية في ظل صمت رهيب وحزن يكاد ينفطر بقلبه تاركاً خلفه الأهل والأرض دون أن يكون لرحيله وجهة محددة بل هروباً من واقع كان يزداد ألماً وقسوة.
استطاع عبد الرحمن منيف بخياله وعبقريته في رصد التحولات الإنسانية والمتغيرات البيئية – وهو الذي عاش في حياته جزءاً من هذا التحول – أن يخلد مرحلة هامة من مراحل المجتمع العربي بدقة متناهية في رصد جميع التغيرات الفسيولوجية التي تصاحب التغيرات على الأرض والواقع، ففي الحين الذي انتهى منه عبد الرحمن منيف من كتابة روايته أرسلها إلى صديقه الأديب جبرا إبراهيم جبرا الذي رد بدوره عليها بالآتي: لا أظن أن كاتباً عربياً – روائياً أو غير روائي – كتب في الماضي شيئاً يقارب ما كتبت في هذه الرواية وبعد أن كتبتها لا أظن أن كاتباً سيجرؤ على أن يكتب شيئاً مثلها في المستقبل.
في الرواية نفس ملحمي لا أعرف مثله في أي عمل روائي عربي، إنه يذكرني بالروايات الكبرى التي كتبت في الغرب في النصف الأول من هذا القرن.
"التأني، الاسترسال، الاتساع المستمر.. الانتقال الصعب والموجع من البداوة إلى النفط" لم يلتفت إليها جدياً أحد، أو لم يرها بهذا العمق، وهذا الحب، وهذه اللوعة".
لقد كان جبرا عميقاً حين وصف هذه الرواية بهذه الأسطر القليلة، لقد نظر بحدسه الروائي إلى كل مكونات هذه الرواية وقد استخلص أهمية هذه الرواية كونها سجلاً عربياً هاماً في مجال التحول العربي.
عانت أسرة "متعب الهذال" بعد رحيله المفاجئ أتعاب هذا الغياب الطويل والغامض بجانب ما تضيفه الحياة من قسوة في العيش فقد قرروا الرحيل المفاجئ عن "وادي العيون" مما ضاعف من آلام هذه الأسرة التي ترك غياب عائلهم فجوة كبيرة لا تملؤها السنين، في حين شكلت شخصية "شعلان" أكثر قبولاً وتماشياً مع هذه التحولات والتأقلم مع الوضع الجديد.
دون أسباب واضحة تستدعي شخصية "متعب الهذال" من التاريخ العربي شخصية زرقاء اليمامة التي يكشف لها البعيد لتحذر قومها من خطر قادم في المستقبل، وتكاد تتطابق شخصية "متعب الهذال" بشخصية زرقاء اليمامة في مصير كل منهما فها هي زرقاء اليمامة تلقى مصيرها باقتلاع عينيها إثر رفض قومها الإصغاء لحديثها كما يواجه "متعب الهذال" إثر رفض قومه الإصغاء لتنبؤاته فيواجه قرار الاختفاء بطريقة غامضة لا يعرف حقيقتها أحد في القرية.
بجانب تنبؤات "متعب الهذال" ظهرت في القرية امرأة أخرى وهي "نجمة المثقال" بهذيانها الغريب حول مستقبل مجهول يتسق مع ارتفاع حالة القلق من مستقبل مجهول يسيطر على الرواية حيث تمثلت وظيفتها الروائية في كسر حالة الرضا والاطمئنان التي تسود أهل القرية لتتمكن من تحويل جو الرواية إلى هاجس من الآتي ومخاوف من المستقبل.
رغم واقعية الرواية أسلوباً وموضوعاً إلا أن هاتان الشخصيتان قد شكلتا بؤرة هامة للخروج عن هذه الواقعية وحالة رفض وممانعة غريبة أمام هذه التحولات التي ابتهج لها أهل القرية وكأنهما تلعبان دور نبي يكشف له المستقبل ليرى أهوال ما سيحدث، كما تمثل شخصية "متعب الهذال" البذرة العربية الدفينة التي تقاوم كل محاولات الآخر للاختراق والهيمنة والسطوة وفرض الوصاية، وكحجر عثرة أمام الخوض في الآخر والإبحار فيه.
يستمر أهل القرية في التعرف تدريجياً على أدوات التكنولوجيا من آلات ومعدات وحفارات ورافعات وفي كل هذا يرافقنا الروائي في تعريف كل آلة بدقة متناهية تواكب انبهار الإنسان العربي آنذاك بهذه الآلات الناطقة والمتحركة.
في هذه الجزئية تتجلى عبقرية منيف الروائية وهو يشرح اللحظات الأولى لرؤية المنظار ثم المذياع ويرصد طريقة تعامل الإنسان العربي مع هذين الجهازين وما يتبعه من أسئلة بدائية تجسد عمق هذا التأخر والغياب عن ركب الحضارة البشرية، فقد سأل أحد الحاضرين في مجلس الأمير حين وصول المذياع ورؤيته لأول مرة: ماذا يأكل هذا المذياع وأين يجلس هذا الذي يتكلم بداخله وقيام الأمير ورجاله بحركات غريبة وفزعة إثر اندلاع صوت المذياع وكأن كارثة ما ستحدث غير أن تعامل حسن رضائي مع المذياع بشكل هادئ وآمن جعل الأمير ورجاله يقتربون ببطء من هذا الصندوق الذي يصدر كل هذه الأصوات.
لقد دفعت المجتمعات العربية ثمن هذا التأخر الحضاري في أسئلة الصدمة الحضارية الساذجة في منظار طفولي حين سألوا عن موعد نوم هذا الذي يتكلم داخل الصندوق إلى آخر هذه الأسئلة التي تشي باندهاش كبير بمفردات هذه الحياة الجديدة.
لقد حملت الرواية في طياتها الجانب الآخر غير المعروف من جماليات حضارة الآخر وما يشوبها حول تمايز الطبقات وانقسام للمجتمعات الحديثة وتسلط الطبقة الرأسمالية وتركيز السلطة والثروة لخنق المجتمع تدريجياً وتقرير حقيقة "دعه يعمل .. دعه يمر"، إذ استطاع منيف أن ينفذ إلى عمق هذه الإشكالية الحضارية من خلال السائقين "راجي وآكوب" فهو يصور بمصيرهما صراع الطبقات واستيلاء الرأس مالية والتهامها للطبقات الأقل والأضعف في السلم الاجتماعي وتحويلها إلى هامش وأداة استخدام، وقد وضع "راجي" أحد شخوص هذه الرواية تعبيراً يشف عن هذه الحقيقة المرة التي لم يتنبه لها أهل حران حيث يشبه هذه العملية بأسماك صغيرة تبتلعها أسماك كبيرة.
لم تكن الأسماك الصغيرة غير السائقين "رجائي وآكوب" ولم تكن الأسماك الكبيرة غير رضائي الذي استورد مجموعة باصات كبيرة ومريحة وفتح شركات تنقل وبأسعار زهيدة مما جعل أهل المدينة يتخلون عن راجي وآكوب وسياراتهما المهترئة مما ضيق على فرص عيش هذين السائقين القديمين وركنهما إلى الشوارد والذهول ثم إلى سلة المهملات ليواجها المصير المحتوم بعد سنين التحول الطويلة وما تبعهما من تنكر الإنسان والطبيعة.
ولا يتوقف الصراع المادي عند نقطة واحدة فلا زالت الأسماك الكبيرة تلتهم الأسماك الصغيرة ولا تزال تدور هذه الماكنة الديناميكية لتستمر جدلية الصراع الطبقي، فقد فتح ابن النقيب شركة كبرى للنقل كان أحد آثارها تحويل سوق رضائي إلى كساد هو الآخر وواجه رضائي المصير ذاته الذي واجه "راجي وآكوب" وقد حزن الكثيرون آنذاك لمصير "راجي وآكوب" إلا أنه لا مجال للوقوف في وجه هذه الحيتان الكبيرة.
لقد كان العامل الزمني المتسارع عاملاً مهماً في تشتيت الذاكرة الجمعية لأهل قرية "وادي العيون" ونسيان تاريخ الأجداد إذ بدأت تتفكك عرى الارتباط بالماضي أمام هذه الماكنة التكنولوجية التي اختزلت الزمن والمسافات وحولت الماضي من مادة تشكل الحاضر إلى مادة للذكرى والحنين.. الذكرى وحدها العجلة التي تعرف طريق العودة نحو الماضي بتعبير الناقد حاتم الصكر.
شيئاً فشيئاً تذوب المجتمعات في ثقافة الآخر فما هو مسكوت عنه بالأمس متحدث فيه اليوم، إذ نقلت الرواية مشهداً آخر لهذا التحول تجلى في خصوصية المجتمع العربي حول ثيمة "الجنس" وارتباط الرجولة بهذه المفردة وتشكيلها ليوتوبيا الإنسان العربي حيث تحرج أهل حران في حديثهم إلى الطبيب صبحي عن مشاكلهم الجنسية بادئ الأمر ثم ما لبثوا أن تحدثوا في هذه الموضوعات بشفافية بعد أن كانت تدور سراً في المجالس الخاصة.
ورغم هذا الذوبان في الآخر الذي رافق تحول هذه المجتمعات نتيجة الفروق الجوهرية والنفسية بين الأنا والآخر إلا أنك تلحظ شعوراً بالندية عند بعض شخوص الرواية فمحمد عيد كان يستخدم مصطلح الشرق الأدنى والشرق الأوسط وكان يصر عليه خاصة في مجال المباهاة والندية ليكون بمثابة المقاومة الأخيرة لطريقة ذوبان الأنا في الآخر.
يسيطر على الرواية سؤال الوجود المستقبلي، إذ تجد فيها أجزاء من التوتر والقلق من المجهول الذي يحشد له الروائي من ظواهر الطبيعة الغريبة ومظاهر التحول الاجتماعي الذي يلقي بظلاله على المشهد الروائي برمته.
كما نلحظ فروقاً أساسية بين الأنا والآخر استطاع منيف رصدها في ارتفاع حساسية أهل حران تجاه مميزات الأمريكان في المسكن والملبس والمركب والخدمات والرفاهية، وتمثل مميزات الآخر على حساب الأنا مشهداً متكاملاً لنشوء سؤال الخصوصية العربية في ظل الذوبان والامتزاج الحاد بين الأنا والآخر.
يعود متعب الهذال كمنقذ وحيد يبعث سؤال الهوية ويثير تساؤل العربي حول الذات والآخر ويضيف إلى الرواية جواً من الواقعية السحرية.
تتوقف الرواية عند رصد التحول المادي إلى زمن النفط غير أن مسلسل تحولات المجتمع العربي نحو العولمة تأخذ أشكالاً كثيرة بالنظر إلى التزايد الكبير الذي أحدثته سرعة انتشار المعلومات ونشوء أدوات الإعلام الحديث ومواقع التواصل الاجتماعي كالفيس بوك والتويتر وغيرهما.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قصيدة الشاعر عمر غصاب راشد بعنوان - يا قومي غزة لن تركع - بص


.. هل الأدب الشعبي اليمني مهدد بسبب الحرب؟




.. الشباب الإيراني يطالب بمعالجة القضايا الاقتصادية والثقافية و


.. كاظم الساهر يفتتح حفله الغنائي بالقاهرة الجديدة بأغنية عيد ا




.. حفل خطوبة هايا كتكت بنت الفنانة أمل رزق علي أدم العربي في ف