الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خـــط الهـــاتـف - قصة قصيرة

موفق الطاهر

2005 / 8 / 14
الادب والفن


خرجت في الظهيرة إلى جرف النهر القريب جداً من بيتنا، ومعي بعض الخبز أطعم به البط الذي تعوّد على رؤيتي، فعلاقتي به تمتد إلى أكثر من خمسة أعوام. أحياناً أشتري له خبزاً كي أكون قريباً منه... بالرغم من لقائي شبه اليومي معه تقريباً، ولكني حقاً كثيراً ما أشتاقه، فهو الوحيد الذي على علم بكل أسراري... ولكن... من جديد تتفرق صويحباتي مبتعدة عني بعد أن نفذ ما عندي من الخبز لتتركني لوحدتي مرة أخرى.
جلست على المصطبة القريبة مني، ووضعت رأسي بين ركبتيّ بمرونة لم أعدها بجسمي من قبل، خارج أرادتي بدأت بالنحيب، وأجهشت ببكاء ليس بصامت...
كيف جرت بي الأمور إلى هذا المكان الحقير منتظراً مصيراً قاسياً، وما هي إلا ساعات معدودة، وليلة ستكون بألف ليلة بلا شك هي الفاصل بيني وبين حياة جديدة.. لابد من ذلك، طبيعي أن تكون هناك حياة جديدة...
ربّت على كتفي أحد الذين قادهم حظهم التعيس معي، وحجزوا بهذه الغرفة اللعينة لا حول لنا ولا قوة:
- وحّد الله يا أخي! كلنا على هذا الدرب، كلنا معك، نفس حالتك، وكلنا ننتظر نفس المصير الذي ينتظرك. ليس بيدنا
شيء إلا الدعاء لله أن يتلطف بقضاءه، ويعطينا الصبر على بلوانا.
مرة أخرى الصبر.. كثيراً ما يأتيني هذا المصطلح بوقت أكره كثيراً فيه أن أسمعه. بل أكره هذه المفردة.. التي تقودنا دون أن ندري إلى الرضوخ والإنصياع، والأستسلام خانعين حتى لمصير مشوه...
تذكرت أمي.. كيف أعترضتني هذا الصباح بأن لا أخرج من البيت، ولكني وكما تعودت أضحك خوفها عليّ وكأني طفل صغير تخاف عليه من عبور الشارع... طمأنتها، وخرجت لموعدي مع حبيبتي، بعد أن لبست أحلى ما لدي من ملابس، ولمّعت حذائي وشعري...
منذ أسبوع وأنا أذهب إلى حبيبتي بشكل منتظم، أبقى معها منذ الصباح وحتى العصر حين يتصل والدها سائلاً إياها عما تحتاجه من السوق قبل أن يقفل محله في الجهة الأخرى من مدينتنا. والدها كان رائعاً، ولطالما أنتابتني حالة هستيرية من تأنيب الضمير عندما أرى صورته معلقة فوق سريرها الدافئ.. وأطمأن نفسي بأن هذه الحبيبة ستصبح يوما، آمل أن يكون قريباً، زوجتي... أودعها على أمل أن ألتقي بها في الصباح من اليوم التالي... الذي لن يأتي أبداً...
لم يكن لديّ عمل أرتزق منه.. وكانت الشوارع ملغومة بسيطرات الأجهزة الأمنية والحزبية بحثاً عن الهاربين من الجيش، الذين لم يعد يهمهم أو يخيفهم تهديد النظام بإعدامهم... فتخترع زمرة الجنرال مجدداً نظاماً لم يعرف التاريخ عقاباً أكثر تشويهاً منه، للضغط على العسكريين كي ينتظموا بدوامهم...
ولكن هل ظنّ هؤلاء أنهم سيحدون من تكاثر الهاربين المتزايد؟ ربما! ولكن لفترة قصيرة على الأغلب... فالهوّة تكبر يومياً بين النظام والشعب، ولم يعد الأعدام ينفع، أو يخيف أحد. فقد أصبح هذا العقاب سمجاً بعدما صار لكل مخالفة، حتى لو كانت تلك تتمثل في شتم مجنون لشخص الجنرال... لذا فقد أبتدع هذا نظاماً أكثر تشويها منه ببتر الأذن ووصم الجبين بعلامة ناقص أو علامة الضرب...
أي تشويه هذا الذي يتحكم بمصائرنا؟ مصائر هؤلاء الشباب؟ وأي مستقبل ينتظرني..؟ كنت أحلم دائماً بالسفر ورؤية العالم المتحضر، ثم العمل بشركة معروفة كشركة فيليبس مثلاً... فهذه الشركة لطالما أثارت فضولنا عندما كنا طلاباً في كلية الهندسة...
لم أرجع لوالدتي وأهلي، ولم أر حبيبتي في ذلك اليوم ولم ألتق بها منذ ذلك اليوم الأخير من شهر تموز وللآن... ياااااه.. أي قدر قاس، وأي زمن أغبر هذا الذي نعيشه؟
أنزلتني من السيارة التي كانت تقّلني إلى من فتنتني في يوم ما، ولا زالت ذكراها تعصر قلبي كليمونة حامضة، مفرزة حزبية مسلحة، لعدم أقتناعها بالأوراق التي كنت أحملها. ونقلتني مع ثلاثة عشر آخرين إلى مبنى لإحدى الفرق الحزبية، ووضعتنا بغرفة صغيرة مقيدي الأيدي، وتركوا باب الغرفة مفتوحاً. وظلّ الحزبيين المارقين مقابل ذلك الباب ينظرون إلينا على أننا خائنون، جبناء، يبصقون في الهواء، ونحن المعنيين طبعاً، فنحن لا نستحق الحياة..!
أحس أن رأسي يربطه حزام جلدي بصخور ثقيلة، محملاً بهموم أثقل من تلك الأحجار.. كانت إضاءة الغرفة رديئة بكل تأكيد، وقد غمر الظلام سماء وأنهر بلادي الجميلة. تذكرت شط العرب القريب من حيّنا، أي منظر رائع لشمسنا الجميلة وهي تختبئ خلفك يا بحر... وحل الظلام الذي هو الأجمل لأنه يحتضنك ياوطني... عذراً لك يا شاعري الرقيق وأنا أستعير بعضاً من كلماتك...
وأنا أرفع رأسي رأيت ما كنت لم أحلم به، شبح مرق مسرعاً من أمام الباب، ملتفت نحونا طبعاً، رجع ذلك الشبح الذي تغطي عيناه الصغيرتين عدستان كبيرتان، نظر إتجاهي مندهشاً:
- ولكْ إنت عليْوي.!؟
إنسابت الأحرف متخثرة، وبدت وكأنها تنصب من فمي كقطرات زيت متقطع:
- أي نعم يا أبو حسن.. هل رأيت أية كارثة تلك التي تنتظرني؟ وستحل بعائلتي؟
- قم يا رجل قم.. تباً لهذه الشغلة اللعينة...
أبو حسن رجل في الخمسين من عمره، صديق حميم لوالدي، لم يكن مقتنعاً البتة بعمله في الحزب، ولكنه كان مجبراً كالمئات غيره ممن أجبروا أو تورطوا بإنتمائهم إلى ذلك الحزب التعيس.. كان رجلاً مرحاً، شفافاً، رومانسياً، قارئاً نهماً، وذلك مما لا يتناسب تماماً مع عينيه الضعيفتين... لم أعرف كيف رآني ذلك الرجل بعينيه الهزيلتين، ففي الظلام تصبح عنده الرؤية أشبه بالعمى.. فكيف رآني!؟ هل أعزي ذلك إلى أنها ضربة حظ؟ أم ماذا أسمي ذلك غير أنه فعلاً الحظ.. ولكن الحمد لله بكل تأكيد.
رجعت لبكائي الذي أصبح ملازماً لي كلما تذكرت الأيام الخوالي حلوة كانت أم مرّة:
- wat is er meneer? gaat het goed?
رفعت رأسي الثقيل من بين ركبتيّ، رأيتها عجوز مع كلبها.. طمأنت تلك المرأة الكبيرة الطيبة بأني لا زلت بخير.. تنفست الصعداء، فلا زلت ببلد شركة فيليبس، بلد رامبرانت، والحرية و... الغربة اللعينة.
فكرت بأن أنهي تلك الكآبة التي تخيم علي منذ أيام، لابد لي من زيارة أحد الأصدقاء، يجب علي أن لا أستسلم لهذا الضعف... ولكن ما أنا فعلاً بحاجته هو والدتي وحبيبتي...
رجعت إلى بيتي الذي أصبح خالياً من كل دفئ كان يغمرني في السابق. مسكت سماعة الهاتف، محاولاً من جديد الإتصال بأمي، عساني أسمع صوتها، فيدخل شيئاً من الدفئ إلى روحي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت


.. عاجل.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة غداً




.. سكرين شوت | إنتاج العربية| الذكاء الاصطناعي يهدد التراث المو


.. في عيد ميلاد عادل إمام الـ 84 فيلم -زهايمر- يعود إلى دور الس




.. مفاجآت في محاكمة ترمب بقضية شراء صمت الممثلة السابقة ستورمي