الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البريد يطيح بالبرلمان

عبدالله المدني

2005 / 8 / 15
مواضيع وابحاث سياسية


أن يتسبب البريد في الإطاحة بالبرلمان المنتخب، فهذا شيء قد لا يصدقه الإنسان العربي، وله العذر في ذلك. فتاريخ أوطانه الحافل بالأحداث الكارثية يكاد يخلو من حادثة يتيمة تحمل فيها مسئول تبعات قرار خاطيء فقدم استقالته، دعك من اعتراف الحكومة بأن عجزها عن تمرير مشروع ما هو بمثابة فقدانها للثقة و بالتالي ضرورة تخليها عن السلطة. غير أن هذا حدث بالفعل في الأسبوع الماضي في اليابان حينما صوت مجلس الشيوخ بأغلبية 125 صوتا مقابل 108 أصوات ضد مشروع حكومي لخصخصة قطاع البريد، الأمر الذي اعتبره رئيس الحكومة جونيتشيرو كويزومي دليلا على خسارته للثقة و بالتالي مدعاة لحل البرلمان و إجراء انتخابات عامة خلال 40 يوما كما ينص الدستور.

وتعتبر خصخصة البريد الياباني حجر الزاوية في حزمة من الإصلاحات الطموحة التي نادى بها كويزومي منذ وصوله إلى السلطة لأول مرة في ابريل 2001 خلفا لزميله في الحزب الليبرالي الحر الحاكم يوشيرو موري، و يريد الآن تفعيلها وسط رفض أحزاب المعارضة بل و اختلاف الحزب الحاكم نفسه حولها. وليس أدل على الشق الأخير من لجؤ احد نواب الحزب مؤخرا إلى الانتحار وتصويت 22 من رفاقه ضد المشروع في مجلس الشيوخ وذلك في ما يشبه التمرد على زعيمهم كويزومي. هذا فضلا عن أن المشروع لم يمرر في الخامس من يوليو الماضي في مجلس النواب، حيث يحتفظ الحزب الليبرالي الحر بأغلبية واضحة، إلا بفارق خمسة أصوات.

ويرى البعض في خطوة كويزومي مغامرة غير محسوبة بل انتحارا سياسيا قد تقبر مشروعه الإصلاحي إلى الأبد وتضع نهاية لمسيرته السياسية، هو الذي وصف يوم مجيئه إلى الحكم بالهواء المنعش و حقق بشخصيته الكاريزمية المختلفة عن شخصية كل أسلافه شعبية كبيرة و استطاع أن يبقى زمنا قياسيا في السلطة في بلد عرف بكثرة تغيير حكوماته و قادته ولم ينافسه في ذلك سوى ايطاليا. بل يتنبأ هذا البعض أيضا أن تؤدي الانتخابات العامة التي دعا إليها كويزومي إلى تكرار سيناريو العام 1993 فيخرج الحزب الليبرالي الحر من السلطة للمرة الثانية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وتأسيس اليابان الجديدة. ففي العام المذكور تمرد نحو 37 نائبا من نواب الحزب الحاكم في تصويت برلماني ضد حكومة كيشي ميازاوا ، مما سمح للمعارضة بتحقيق النصر في الانتخابات التالية واستلام دفة الحكم لفترة قصيرة. واليوم تمرد عدد مماثل تقريبا ضد كويزومي، وقد ينشقون لتأسيس حزب جديد أو الانضمام لزملاء لهم انشقوا في فترة سابقة و كونوا حزبا معارضا باسم الحزب الديمقراطي، خاصة إذا ما عوقبوا بعدم تزكية الحزب الحاكم لهم كمرشحين في دوائرهم الانتخابية التقليدية. و المعروف أن الحزب الديمقراطي المعارض الذي تشكل من مجموعة بيروقراطيين شباب عزز مواقعه في الساحة السياسية اليابانية بحصده عددا من المقاعد أكثر من الحزب الحاكم في انتخابات مجلس الشيوخ الجزئية في عام 2004 - وان ظلت الأغلبية في المجلس للأخير بفضل تحالفه مع أحزاب أخرى - وهو يبدو اليوم في نظر البعض منافسا قويا على قيادة اليابان في المرحلة المقبلة.

أما كويزومي الذي تقول استطلاعات الرأي أن شعبيته تراجعت من 70 بالمئة قبل عام إلى 40 بالمئة حاليا فيبدو انه لا يلقي بالا لكل هذه التحليلات و ما سبقها من تحذيرات ساقها زملائه الكبار في قيادة الحزب الليبرالي الحر، ولا يهمه خسارة موقعه القيادي بقدر ما يهمه محاولة إصلاح أوضاع طال السكوت عليها من اجل يابان أقوى و أكثر صحة. وهو لئن اعد حزمة تغييرات تشمل إصلاح نظام التقاعد و النظام الضريبي و علاقة الحكومة المركزية بالحكومات المحلية، فانه آثر البدء بإصلاح البريد أو القطاع الذي يعرفه جيدا و له مكانة خاصة في قلبه على اعتبار أن احد أوائل مناصبه الحكومية الهامة كانت حقيبة البريد و الاتصالات في عام 1992 .

لكن هل البريد الياباني بذلك التأثير القوي حتى يستفتح الإصلاح به و يتسبب في كل هذا الجدل و الانشقاق السياسي؟ الإجابة تتضح حينما نعلم انه ليس مجرد قطاع خدمي ثانوي مسئول عن إيصال الرسائل و الطرود كما في الدول الأخرى، وإنما مؤسسة عملاقة تمتلك 25 ألف فرع و يعمل بها نحو 260 ألف مواطن. بيد أن الأهم من ذلك هو أصوله التي تصل قيمتها إلى نحو 3.5 تريليون دولار، و أنشطته التي تتجاوز خدمات البريد التقليدية إلى أعمال التأمين و الاحتفاظ بمدخرات اليابانيين و توظيفها في السندات والأسهم، وبما جعله اكبر مؤسسة مالية في اليابان و العالم. ومن هنا فهو لعب خلال العقود الماضية دور الذراع المالي للحكومة من خلال شرائه للسندات الحكومية وبالتالي توفير الأموال اللازمة لمشاريع الطرق و المواني و الأنفاق و الأشغال العامة. كما انه لعب عن طريق عشرات الآلاف من سعاة البريد من ذوي العلاقة اليومية بالمواطنين وعن طريق مدراء فروعه المتنفذين في الأرياف دور الماكنة الدعائية السرية في الحملات الانتخابية و بما ساهم في رفد تطلعات بعض المرشحين للمقاعد الانتخابية وتوسيع القاعدة الانتخابية للحزب الحاكم.

وهكذا لو استبعدنا معارضة موظفي البريد لمشروع الخصخصة و الناجمة بطبيعة الحال عن مخاوفهم من احتمال فقدانهم لوظائفهم و امتيازاتهم، فان معارضة بعض ساسة الحزب الحاكم قد تكون نابعة من خوفهم على مصالحهم الانتخابية و نفوذهم الجهوي، وان برروا مواقفهم بأمور أخرى مثل حرمان الدولة من ملكية كنز كبير و التسبب في زعزعة حزب البلاد الرائد و عدم جاهزية قطاعي المصارف و التأمين للحلول مكان البريد كوعاء ادخاري و استثماري ضخم و مأمون.

وتتضمن خطة كويزومي لخصخصة قطاع البريد تقسيم الأخير بحلول عام 2007 إلى أربعة وحدات منفصلة هي وحدة المكاتب البريدية و وحدة توزيع الرسائل و وحدة الأعمال المصرفية و وحدة التأمين ، ثم بيع الوحدتين الأخيرتين للقطاع الخاص في موعد أقصاه عام 2017 . وهذا بحسب مؤيدي الخطة ينهي عقودا طويلة من احتكار الدولة للخدمات البريدية و يشجع على التنافس المفضي إلى تحسين تلك الخدمات. لكن الأهم من هذا انه سيحرر أموالا طائلة من قبضة الدولة و تحكمها ويجعلها متاحة للشركات الاستثمارية الخاصة وفق صيغ تنافسية وبما يشكل حافزا للنمو الاقتصادي. وهذا أيضا يلبي مطالب القطاع المصرفي الذي لطالما اشتكى من هيمنة قطاع البريد على مدخرات المواطنين (85 بالمئة من اليابانيين يضعون مدخراتهم لدى البريد) ومن اشتغاله في المجال المصرفي دون خضوعه للأحكام و الاشتراطات المطبقة على البنوك اليابانية بما في ذلك أسعار الفائدة على الودائع، وغير ذلك من الحجج التي قيل أنها ساهمت في تعثر بعض المصارف المحلية وإفلاسها أو منعت المصارف الأخرى من التوسع. و يكفي في هذا السياق الإشارة إلى أن إجمالي عدد فروع اكبر سبعة مصارف في البلاد هو 2600 فرع مقابل 25 ألف فرع لمؤسسة البريد، كلها تزاول ضمن مهام أخرى استقبال المدخرات وتوظيفها.

د. عبدالله المدني
*باحث و محاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية
تاريخ المادة: 14 أغسطس 2005
البريد الالكتروني: [email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجيش الإسرائيلي يأمر بإخلاء خان يونس


.. ياسين اليحياوي: -المجازفة قد تكون الطريق للريادة..-




.. الانتخابات التشريعية في بريطانيا.. هل باتت أيام ريشي سوناك م


.. نحو ذكاء اصطناعي من نوع جديد؟ باحثون صينيون يبتكرون روبوت بج




.. رياضيو تونس.. تركيز وتدريب وتوتر استعدادا لألعاب باريس الأول