الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفكر الإنساني يرفض القومية العربية و يدعو الى الوحدة العربية!

غسان الشوبكي

2014 / 9 / 5
مواضيع وابحاث سياسية


كثر الجدل مؤخرا في قضية القومية العربية، لا سيما بعد سقوط أنظمة عربية كانت تتخذها شعارا، وسارع الكثيرون الى اصدار حكم الاعدام على فكرة القومية العربية وقرينتها الوحدة العربية. واللافت في ذلك هو أن هؤلاء يصدرون اليوم وبنظرة سطحية حكما انفعاليا متسرعا على فكر كان هو نفسه انفعاليا مرتجلا وكأن تاريخنا المعاصر هو سلسلة من الانفعالات ليس أكثر!

فالقومية العربية لم تكن نظرية محكمة البناء بل مجرد شذرات فكرية كانت تنفعل بالسياسة بدلا من أن تكون قاعدة للتغيير السياسي، ولعل من ابرز الامثلة على هذا الارتجال الفكري في القومية البعثية تحديدا تبني حزب البعث فجأة للفكر الاشتراكي نتيجة تحالف سياسي عارض أبرمه بضعة رجال في ليلة ليلاء، وليس نتيجة توفيق فكري بين القومية ذات الجوهر القبلي والاشتراكية ذات الجذور الانسانية. والمأساة أننا لا زلنا الى اليوم نؤمن بالتغييرات السياسية الانفعالية ونعد النظرية ترفا فكريا، مع أن القراءة المتعمقة للتاريخ تدل على أن التغيير السياسي لا ينجح نجاحا حقيقيا مستقرا الا اذا كان مبنيا على قاعدة فكرية تقنع الناس، ذلك لأن عدم وجود القناعة الراسخة لدى غالبية الناس لا بد أن يؤدي الى ظهور تيارات مضادة تدفع الى التغيير بالاتجاه المعاكس.

واذا نظرنا في البناء النظري للفكر القومي العربي وجدنا تناقضا جوهريا قاتلا يكمن في خلطه بين فكرتي القومية والوحدة، أو بتعبير أدق جعله الشعور القومي مسوغا مبدئيا للوحدة. وشتان بين الفكر القومي الذي يحصر انتماء الانسان واهتمامه بمجموعة واحدة من البشر دون سواها والفكر الوحدوي الذي يقوم على وعي الإنسان بضعفه وحاجته للتعاون مع غيره من البشر من أجل المصلحة المشتركة.

ان الفكر الوحدوي هو مرحلة متقدمة من مراحل الوعي الانساني لا تستثني من حيث المبدأ أي مجموعة بشرية من الرغبة التعاونية، ولكنها من حيث التنفيذ تدرك بواقعية أنه لا يمكن تحقيق الوحدة بين مجموعتين بشريتين أو أكثر الا بتوفر ظروف موضوعية أهمها التقارب الجغرافي والثقافي والاقتصادي. أما الفكر القومي فهو وعي ناقص مشوه لذات الحاجة (أي حاجة الانسان للتعاون مع غيره). هو وعي ناقص لأنه يقصر الرغبة التعاونية بالمطلق على مجموعة بشرية واحدة دون سواها، فلا فرق بين القومية والقبلية الا في حجم المجموعة التي يخصها الفرد بالولاء. وهو وعي مشوه لأنه تطغى عليه رغبة الفرد في تحقيق التفوق عن طريق انتمائه لمجموعة بشرية متميزة عن سواها متفردة بالحق والفضيلة. وهذه أسطورة الشعب المختار التي درجنا على أن ننسبها لبني اسرائيل مع أن الحقيقة التاريخية هي أنه ما من شعب الا وزين لنفسه هذه الأسطورة اللذيذة بشكل من الاشكال، فالمعلم الاول أرسطو مثلا يقرر صراحة أن الانسان الكامل هو الرجل اليوناني الحر دون سواه من خلق الله، و المحافظون الجدد الذين كانوا ممسكين بزمام السلطة في البيت الابيض أيام بوش كانوا يتبنون ويمارسون أسطورة التميز واحتكار الحق هذه، وأما النسخة العربية من أسطورة الشعب المختار فهي فكرة الأمة العظيمة التي ينبغي بعثها من رقادها لتسترد مجدها التليد وتسود العالم كما كانت في سالف عهدها!

ان زيف الفكر القومي نابع من نظره للقومية على أنها ثابت أزلي أبدي، رغم أننا لا نحتاج الى الكثير من التفكير لندرك أن القوميات والثقافات واللغات والأعراق كلها متغيرات تاريخية بحكم الاختلاط والتفاعل الدائم بين الشعوب، ومن هنا كان الفكر القومي فكرا جامدا عاجزا عن استيعاب ديناميكية التاريخ، في حين أن الفكر الوحدوي لا يرى في التقارب الثقافي والجغرافي والاقتصادي الا شروطا واقعية مرحلية لتحقيق الوحدة. فالحديث عن وحدة بلاد الشام مثلا أكثر واقعية في الوقت الحاضر من الحديث عن الوحدة العربية، والحديث عن الوحدة العربية أكثر واقعية في المستقبل القريب من الحديث عن الوحدة الانسانية التي هي من حيث المبدأ الهدف الأسمى للفكر الوحدوي الانساني الخالي من الشوائب القومية والطائفية والعرقية. فالواقعية في الفكر الوحدوي الانساني هي التي تفضى الى الايمان بالتدرج والمرحلية في تحقيق الوحدة.

وأما خطورة الفكر القومي فتكمن في عدوانيته النابعة من أنه فكر ذاتي ممعن في الذاتية بعيد كل البعد عن الموضوعية، فالقومي يعد قوميته فكرة سامية بينما يرى في قومية الآخرين عنصرية وفاشية وامبريالية، وهو يعد ضربه للآخرين بطولة ونضالا في سبيل الحق بينما يرى ضرب الآخرين له أو لغيره بغيا وعدوانا. والحقيقة التي يعمي الكبر قلوب القوميين عن ادراكها هي أن هذه العقلية العدوانية المتسلطة بالذات هي التي تؤدي دائما الى اضعاف ثم انهيار الكيان القومي العظيم الذي يخاله القوميون خالدا، فهكذا انهارت كل الامبراطوريات العظمى في التاريخ، لأن الدخول في مواجهات عسكرية لابد أن يفضي الى تراجع اقتصادي.

وفي المقابل فإن الفكر الوحدوي الناضج لا يتبنى أي سياسة عدوانية لأنه لا يرى نفسه مميزا محتكرا للحق ولا ينظر للآخرين على أنهم أعداء بل ينظر اليهم على أنهم اخوة في الانسانية يتوق الى التعاون معهم (لا الى اخضاعهم) عندما تتحقق الشروط الموضوعية الملائمة. والتوجهات الوحدوية الواعية هي مكسب للبشرية جمعاء لأنها لا تحقق حياة أفضل للمتحدين وحسب بل هي كذلك تحد من اراقة الدماء البشرية بدمجها للكيانات السياسية الهزيلة التي تسيل لعاب القوى الاستبدادية في تكتلات قوية يهابها المستبدون والعدوانيون، فأميركا مثلا لم تتجرأ على غزو العراق الا بعد اضعافه بحصار خانق، وهي لم تكن لتفعل ذلك لو كان العراق جزءا من تكتل قوي كوطن عربي موحد أو حتى هلال خصيب موحد، والدليل على ذلك أن أمريكا لم تجرؤ حتى على التفكير في غزو كوريا الشمالية رغم امتلاك الأخيرة للسلاح النووي وامعانها في استفزاز أمريكا.

وخلاصة القول أن الفكر القومي متناقض في جوهره مع الفكر الوحدوي لأن القومي يظن نفسه خارقا متميزا عن الآخرين، أما الوحدوي فيعي ضعفه وقلة حيلته وحاجته للتعاون مع الآخرين وهو لا يضع حدودا مطلقة لرغباته التعاونية. وعلى هذا فإن الفكر الذي يدعو الى الوحدة على أساس قومي هو فكر متناقض لا يجلب الا الدمار على نفسه وعلى الآخرين.


غسان الشوبكي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الإمارات وروسيا.. تجارة في غفلة من الغرب؟ | المسائية


.. جندي إسرائيلي سابق: نتعمد قتل الأطفال وجيشنا يستهتر بحياة ال




.. قراءة عسكرية.. كتائب القسام توثق إطلاق صواريخ من جنوب لبنان


.. عضو الكونغرس الأمريكي جمال باومان يدين اعتداءات الشرطة على ا




.. أزمة دبلوماسية متصاعدة بين برلين وموسكو بسبب مجموعة هاكرز رو