الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اسْتِبْهَامِ الثورة السودانية !

تيسير حسن إدريس

2014 / 9 / 5
مواضيع وابحاث سياسية


(1)
التراكم المعرفي هو أحد أهم العوامل التي تحدِّدُ سمات وطبيعة العقل الجمعي للشعوب، بالإضافة لعواملَ أخرى، منها: مدى عمق الموروث المدني والحضاري، وانتشار الوعي والتعليم في المجتمع، وفعالية المواعين السياسية والاجتماعية المنظمة لحياة المجتمعات، والعقل الجمعي للمجتمع المستقر الحضري يختلفُ بدرجة كبيرةٍ عن الرعوي الرحال وهو أمر منطقي، ويظهرُ هذا الاختلاف ويتجلى في تباين التركيبة النفسية لأفراد كلا المجتمعين الذي تؤثرُ في إنسانهما جملةُ عواملَ ومؤثرات مختلفة، وتتخلق نتيجة لهذا الاختلاف في النشأة ما يمكن أن نسميها (سيكولوجية "فرض العين") عند المجتمعات الحضرية و(سيكولوجية "فرض الكفاية") عند البدوية منها.
(2)
ووِفْقا لهذا التصنيف يمكن قراءةَ وتحليل كثيرٍ من الظواهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكذا يمكن أن نحددَّ طبيعة أي مجموعة بشرية بمراقبة سلوكها وممارستها؛ لنكتشف بيسر إن كانت حضرية أم بدوية، هذا التصنيفُ على بساطته نستطيعُ عبره مقاربة وتحليل ظواهر تبدو في غاية التعقيد مثل مسألة تعثر الثورة السودانية، رغم توافر ظرفها الموضوعي ويمكن أن نقدم إجابة على السؤال المحير الذي أرَّق النخب الفكرية والسياسية في السودان، وهي ترى شعوب في المنطقة تعيش ظرف اقتصادي وسياسي أفضل تثور وتنتفض، وشعب السودان يرقب تدهور أحوال معاشه في سكون وذهول وكأن على رأسه الطير.
(3)
السمة الملاحظة في المجتمعات الرعوية حديثة الاستقرار هو ضعف الإحساس بالوثاق الوطني، فنجد مغالبة الإرث البدوي لعوامل المدنية يُحِدُّ من عملية الانصهار العرقي، ويعطل بلورت الهوية الوطنية، ويجعل أمر التوافق عليها عسيرًا، ومراحل بنائها بالغة التعقيد، فقوة اللحمة في معادلة صياغة الهوية في تلك المجتمعات البدوية تتمحور حول مركز النواة المجتمعية "الأسرة"، عكس ما عليه الحال في المجتمعات الحضرية التي تتمكن بيسر من التراضي على طبيعة هويتها الوطنية؛ بسبب تلاشي الحميَّة البدائية، وسيادة الوثاق الوطني بمفهومه الحضاري الشامل، وابتعاد مفهوم صياغة الهوية عن مركز النواة المجتمعية.
(4)
فالحمية البدائية في المجتمعات البدوية تظل تراوح عند حدود العشيرة، ومبلغ تقدمها بلوغ تخوم القبيلة، والتي عندها يتعطل تماما الشعور بوجود "الآخر" من غير منسوبي القبيلة، ويغدو معه أمر إيجاد قواسم مشتركة تأسس لبلورة هوية وطنية أمرًا شديد العسر وبالغ التعقيد، يحتاج لجهد خرافي في ظل تجمعات بشرية غير مستقرة أو حديثة الاستقرار، تعاني من الجهل وانتشار الأمية، فالعلاقة بين العقل الجمعي البدوي والهوية الوطنية علاقة "عكسية"، عكس العلاقة "الطردية" التي تميز العقل الجمعي الحضري.
(5)
الإرث البدوي يضعف أواصر اللحمة المجتمعية ويجعل صيرورة تطورها عكس اتجاه تطور وتماسك الهوية الوطنية وينحو بها نحو النواة المجتمعية البدائية الأولى، فنجد الوثاق العائلي أوثق يليه العشائري فالقبلي، بينما يظل الوثاق الوطني العام باهتًا وضعيفًا، وفي مؤخرة اهتمامات الفرد، وبهذا الموروث والفهم نشأت وتأسست معظم المواعين المنظمة لحياة وحركة المجتمع السوداني من أحزاب سياسية وحتى منظمات المجتمع المدني الثقافية والرياضية والمطلبية طالها هذا العوار.
(6)
بالنظر للأحزاب السياسية السودانية -خاصة التقليدية منها- نجد أن ثقلها الجماهيري يعتمد بصورة مطلقة على هذا الفهم، فالأعضاء فيها غير معنيين ببرنامج الحزب ولا سياساته، والولاء يحكمه الانتماء للطائفة وزعيمها الذي أسبقت عليه الصدفة نوعا من القداسة، والعجيب أن هذا النهج قد تسرب وانتقل بصورة ما لأحزاب الحداثة في اليمين واليسار، مما يدل على شمولية الأزمة، وعمق الموروث البدوي المتجذر حتى في عقل النخب التي نكصت عن لعب الدور التنويري في المجتمع، واختارت طوعا الخضوع لشبكة التقاليد والأعراف السائدة، ناقضة غزلها بيديها؛ خشية الاتهام بالصبأ، وانعكس هذا السلوك الخالي من الثورية سلبا على رؤى وبرامج الأحزاب الحديثة، وأصاب أطروحاتها بالعشى المبدئي، فغدت مثلها مثل غيرها من الأحزاب التقليدية مواعين طائفية بدثار وهياكل حداثوية.
(7)
هذه الأحزاب المشبعة بالثقافة البدوية والتوجهات غير المستقرة مبدئيا تسقط عادة في امتحان الوطنية، بسبب ضعف فعاليتها التي تظلُّ رهينةَ حدود العقل العشائري، ممَّا يعوق عملية نضجها وبلوغها مرحلة الرشد السياسي، ويحدُّ من تطلعات أفرادها وقدرتهم على الانعتاق من ضيق الأفق "التقليدي" المتشكك بفطرة البادية في جدوى البرامج والأطروحات الحزبية النابعة أصلا من سيكولوجية "فرض الكفاية" المتماهية مع الاعراف البدوية السائدة؛ الغارقة في "الأنا"، غير المعنية بقضاء حوائج الشأن العام.
(8)
سيكولوجية "فرض الكفاية" التي ترى أن النضال السياسي شأن نخبوي إذا ما قام به البعض سقط عن العامة، الكامنة في العقل الجمعي هي التي تشرح أسباب (اسْتِبْهَامِ) الثورة السودانية، فارتباك حراك التغيير يعود لهذا السبب، والدليل على ذلك نجده فيما حدث من تفريطٍ وتراخٍ أثناء وبعد الانتفاضتين الشعبتين في أكتوبر 1964م وإبريل 1985م، وقاد لإجهاضهما من قبل قوى الثورة المضادة، حين أفرغ جوهر الحراك الثوري من مضمونه الثوري العام كامل الدسم، فلم تحقق الثورتان من أهدافهما سوى هدف يتيم تمثل في إسقاط نظم الفساد الدكتاتورية الحاكمة، وهذا الهدف بدوره سرعان ما تم الالتفاف عليه وإجهاضه بإنتاج نظم ديمقراطية كسيحة، لم تستطع إحداث التحولات الجذرية المطلوبة.
(9)
لا مخرج للسودان من وحل هذه "الحلقة الشريرة" دون تحديث المواعين التنظيمية القائمة، أو إعادة إنتاج مواعين جديدة إذا ما تعذر التحديث؛ شرط أن تكون مواكبةً لروح العصر، ولها القدرة على التعاطي الايجابي مع الشأن العام وفق سيكولوجية "فرض العين"، التي تؤمن بأن النضال من أجل الشأن الوطني العام فرض عين على كل فرد قادر راشد.
(10)
إن الأحزاب السياسية التي ينبثق فكرها من الواقع المدني، في توافقٍ مع معايير العصر التي تبلورت في العقل الجمعي للأجيال الحديثة، هي الأجدر بالبقاء وتصدر المشهد السياسي السوداني اليوم لانها الأقدر على التعبير عن آمال وطموحات هذه الأجيال الشابة التي تخلصت بقانون التراكم من شوائب وأدران مجتمع البداوة، وجمعت من الوعي والمعارف الإنسانية ما يؤهلها للانتقال من حلقة تاريخية الى حلقة أخرى أكثر تقدماً في درج الرقي والحضارة بعد أن نفضت يدها من شوائب الموروث القديم وسلبياته.
اسْتِبْهَامِ الأمرِ يعني ارْتِباكِهِ (القاموس المحيط).
** الديمقراطية قادمة وراشدة لا محال ولو كره المنافقون.
تيسير حسن إدريس 4/9/2014م








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. متضامنون مع غزة في أمريكا يتصدون لمحاولة الشرطة فض الاعتصام


.. وسط خلافات متصاعدة.. بن غفير وسموتريتش يهاجمان وزير الدفاع ا




.. احتجاجات الطلاب تغلق جامعة للعلوم السياسية بفرنسا


.. الأمن اللبناني يوقف 7 أشخاص بتهمة اختطاف والاعتداء -المروع-




.. طلاب مؤيدون للفلسطينيين ينصبون خياما أمام أكبر جامعة في الم