الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عصر الظواهر التلفزيونية

ثائر دوري

2005 / 8 / 15
الصحافة والاعلام


1- التلفزيون صانع الأصنام
إن إنسان العصر الحديث إنسان وثني لا يؤمن إلا بالمحسوس ، فهو لا يصدق أي أمر حتى يلمسه بيديه ، أو يراه على شاشة التلفزيون ، لذلك فالتلفزيون هو صانع آلهة إنسان العصر الحديث ، لكنها آلهة من تمر كأصنام عرب جاهلية ما قبل الإسلام ! يعبدها الإنسان ، ثم يأكلها عندما يجوع ، أو يتركها تتعفن من النسيان ، لذلك فالآلهة التي يصنعها التلفزيون نبوذة ( disposaple ) ، أي تصلح للاستعمال لمرة واحدة ، ثم يستهلكها الإنسان الحديث و يرميها ، فما يعبده إنسان اليوم ، التلفزيوني ، يدوس عليه غداً ، وهكذا يجب أن ننحت مصطلح جديد مشتق من مصطلح (( ظاهرة صوتية ))، فنقول (( ظاهرة تلفزيونية)) ، التي تتميز بأنها سريعة الصعود ، تلمع كنيزك اخترق الغلاف الجوي ، فتلفت أنظار الناس جميعا ، فيعبدونها و يسجدون لها ، ثم يتحول أبطالها إلى نجوم تزين صورهم المكاتب و البيوت و يصيرون حديث المجالس و السهرات ، و فجأة تنطفأ هذه الظاهرة و بنفس السرعة التي اشتعلت بها ، فينساها جميع من عبدوها . فالظاهرة التلفزيونية سريعة الصعود ، سريعة الهبوط ، تدخل في النسيان سريعاً . و هذا يعني أن التلفزيون ، مصنع آلهة العصر الحديث ، بحاجة إلى كمية كبيرة من المواد الأولية ليصنع بها آلهته التي تستعمل لمرة واحدة ، لذا يلجأ للناس العاديين فيحولهم نجوماً لمدة ربع ساعة ، كما قال أحد علماء الاجتماع الأمريكان ، الذي تنبأ بأن كل إنسان سيكون نجما لمدة ربع ساعة بفضل التلفزيون !! كما أن الظاهرة التلفزيونية ، ظاهرة بلا تاريخ ، فلا أحد يسأل من أين أتى فلان ؟ ولا كيف أصبح نجما ؟ لأن ظهوره على التلفزيون كاف بحد ذاته ليصبح مقدساً ، فلا يجوز طرح أسئلة حول المقدس ،لأن ماهيته من الأسرار التي لا يجوز البوح بها فالمعرفة في هذه الحالة تنتقص من الألوهية ، و هو أمر يجعلنا غير قادرين على العبادة . و مثلما تكون الظاهرة التلفزيونية بدون ماض ، فهي أيضاً بدون مستقبل فما إن يختفي أحد الآلهة المصنوعين في التلفزيون عن الشاشة ، حتى يختفي من عقول الناس و لن تجد من يتذكر ليسأل عن مصير هذا الإله . و هكذا يحول التلفزيون حياة ((البشر التلفزيونيين )) ، الوثنيين ، عبدة الأصنام ، التي ينتجها ، إلى حياة أشبه بالسراب ، فكل الأشياء موجودة و غير موجودة في الوقت عينه .
و هناك نسخة تلفزيونية من كل عناصر الحياة اليومية ، قد تكون واقعية ، و قد تكون غير ذلك ، فهناك كتاب و مفكرون تلفزيونيون دون أن يكونوا بالضرورة ،على أرض الواقع ،كذلك . بل ربما كانوا أميين تماماً ، و هناك أحزاب تلفزيونية ، ربما لا تضم على أرض الواقع سوى الشخص الذي ظهر على التلفزيون .....الخ . و هناك ثورات تلفزيونية ، كما شاهدنا في الثورات البرتقالية ، و ثورة القرنفل ....الخ حيث أن ثوار التلفزيون في هذه الثورات ، كانوا يتحركون في الحياة الواقعية و عينهم على الكاميرا ، فهم يصورون فلماً ليبث على التلفزيون و ليوهم البعيدين عن موقع الحدث أن هناك ثورة تجري في ذلك المكان ، و قد استعملت في هذه الثورات كل وسائل الإنتاج السينمائي و التلفزيوني ، من كتابة سيناريو الثورة إلى حشد مجاميع الكومبارس ليساندوا بطل الثورة ، فقد تم استئجار أعداد كبيرة من الشباب ليعسكر بمخيمات في ساحات مختارة لحدوث الثورة ، كما تم إدخال بعض المؤثرات الدرامية كتعرض البطل إلى محاولة قتل أو تسميم .....الخ ، ولأن الإنسان المعاصر ، كما ذكرنا منذ البداية ، إنسان وثني لا يؤمن إلا بما يقدمه له التلفزيون ، فمن الطبيعي أن يوجد أشخاص لا هم لهم إلا الظهور التلفزيوني ، فهم يقضون عمرهم بانتظار ربع الساعة ، التي ستسنح لهم ليكونوا نجوماً ، لأنهم لا يعتبرون ذواتهم موجودة إلا إذا ظهروا على التلفزيون ، و هكذا يصير سؤال التلفزيون ، سؤال أكون أو لا أكون ، فأنا موجود إذا ظهرت على التلفزيون أو بالعكس . لقد أصابت لوثة التلفزيون أغلب الناس ، أفراداً و أحزاباً و جماعات ، إلا ما رحم ربي .
2- عندما يكون العالم مقلوباً
إن وظيفة الصورة في الأصل أن تسجل الواقع لتحفظه من الزوال . بمعنى أن الموضوع الواقعي هو الأساس ، فالصورة هي تسجيل للموضوع الواقعي ، لكن في المجتمعات الرأسمالية المعاصرة كل شيء يمكن أن ينقلب رأساً على عقب !!
يقول القانون الرأسمالي التقليدي إن العرض يتبع الطلب ، بمعنى أن رغبات المستهلك هي التي تحدد المعروض من البضائع و سعرها ، فالمصانع تنتج ما يحتاجه المستهلك ، لكن الرأسمالية المعاصرة عكست هذا القانون ، لقد صار الطلب يتبع العرض بجهود المعلنين و سيل الإعلانات و هجمات التسويق و المسوقين ، فأنت مجبر على أن تستهلك ما ينتجه المصنع دون أن تكون بحاجة إلى تلك السلع ، و ربما لم تفكر يوماً باستهلاكها . لكن الإلحاح الإعلامي يجعلك تقتنع أنك بحاجة إليها ، لا بل إن استمرار حياتك متوقف على ذلك ، و بعد أن تمتلكها و تستهلكها تنظر إلى ماضيك ، حين لم تكن بين يديك ، فتشعر بالرعب ، و تستغرب كيف احتملت الحياة الماضية بدونها ، فتبعد عنك بسرعة ذكريات تلك المرحلة البدائية من حياتك ، حينما كنت متوحشا ، قبل أن تتحضر و تمتلك هذه السلعة !!
و مثل هذا الأمر يحدث مع الصورة التلفزيونية ، فهي لم تعد تابعة للواقع فتقوم بوظيفة تسجيله ، بل هي تصنع عالماً موازياً للعالم الحقيقي ، لقد دخلنا إلى عصر صناعة العالم الافتراضي ، عبر اختراع صور لا وجود لها في الواقع أصلاً ، أو عبر التركيز على زوايا معينة في الواقع قد لا يكون لها أية أهمية ، و عبر تجاهل المسائل المهمة ، مما ينتج عنه تصغير الكبير و تكبير الصغير ، وصولاً إلى اختراع عالم غير موجود قط ، و تقديمه للناس على أن هذا العالم الافتراضي هو العالم الحقيقي .
و دخل التلفزيون صناعة الحروب ، كطرف أساسي ، فالحروب الإمبريالية الحديثة ، أصبحت صناعة مثلها مثل صناعة السينما ، فهناك سيناريو جاهز لكل حرب ، و قد باتت عناصره معروفة ، فهي تبدأ بشيطنة الخصم و إلقاء شتى النعوت السلبية عليه ، و في هذه المرحلة يكون للتلفزيون دورا هاما، فهو الذي سيبث التقارير التي تتحدث عن انتهاكات حقوق الإنسان و عن المجازر و المقابر ....الخ ، و هو الذي سيصطاد المضطهدين من هذا النظام و يقدمهم ساعات طويلة للمشاهدين ليتحدثوا عن عذاباتهم الحقيقية أو المتخيلة ، و سيستضيف قادة الأحزاب المعارضة ليعرف الناس بهم ، و يقدمهم على أنهم من يستحق الحكم لو كان البلد المستهدف ديمقراطياً ، لأن الجماهير لا ترغب بغيرهم ، و عندما تحين ساعة الصفر ينطلق التلفزيون ليشيد بدقة الأسلحة فيصور شاشة الرادار أمام الملاح و هو يطلق صاروخاً يصيب هدفه بدقة بالغة ، فننسى نحن المشاهدين أن المبنى الذي أصابه الصاروخ يضم حياة بشرية ، من أطفال و من نساء . بل نتوقف مبهورين أمام التكنلوجيا ، و يستعرض التلفزيون بهاء القوة العسكرية المعتدية ، فيصور الطائرات و هي تنطلق من حاملاتها في البحر ، و الجنود و هم في معسكراتهم يحملون العتاد و الذخيرة ، ثم يبدأ ببناء حربه الخاصة كما رأينا خلال العدوان على العراق . إذ انتشر تزييف الصور على نطاق واسع ، و لعل أشهرها صور الجنود ، الذين قيل إنهم عراقيون ، و هم يصطفون برتل طويل منتظم واضعين أيديهم خلف رؤوسهم دلالة الاستسلام ، ثم تبين لاحقاً أنها صور مجهزة بعيداً عن أرض المعركة ، وصولاً إلى مشهد إسقاط التمثال في ساحة الفردوس ، الذي مثلته هوليوود كأي فيلم سينمائي دون ان تنسى إدخال بعض المؤثرات البصرية و الصوتية ...الخ .
إذا بقيت البشرية تسير بهذا النهج فليس بعيداً ذاك اليوم ، الذي سيضطر الإنسان فيه أن يتحسس أعضائه كل حين ليتأكد من انه كائن حقيقي و ليس افتراضياً








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نتنياهو: فكرة وقف دائم لإطلاق النار في قطاع غزة غير مطروحة ق


.. استقبال حجاج بيت الله الحرام في مكة المكرمة




.. أسرى غزة يقتلون في سجون الاحتلال وانتهاكات غير مسبوقة بحقهم


.. سرايا القدس تبث مشاهد لإعداد وتجهيز قذائف صاروخية




.. الرئيس الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد يترشح لانتخابات الرئ