الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشهيد عبد المنعم السامرائي

محمد علي زيني

2014 / 9 / 8
مواضيع وابحاث سياسية


الشهيد عبد المنعم السامرائي
قام مؤخراً الصديق الدكتور ثامر العكيلي بنشر مقالة بعنوان "تصفية المرحوم عبد المنعم السامرائي ألوكيل الاقدم لوزارة النفط" وهو بهذه المقالة حسناً قد فعل. ثم قام الزميل فؤاد الكاظمي بالتعليق على جزء من المقالة، تطور بالرد والرد المقابل الى نوع من الخلاف بين الأثنين. من جانبي كنت قد نشرت - بناءً على طلب أحد الزملاء - رأيي وشيئاً عن علاقتي بالشهيد المرحوم عبد المنعم السامرائي، وذلك بمناسبة صدور كتاب المرحومة زوجة الشهيد باللغة الأنجليزية بعنوان "لم أقل وداعاً" تتكلم فيه عن حياتها مع الشهيد. لقد كان الذي كتبته ونشرته بتاريخ 10 نيسان، 2007، باللغة الأنجليزية، وإليكم أدناه ترجمته باللغة العربية، علماً أنه قد يضفي ضوءاً جديداً على قضية إعدام الشهيد المرحوم. ذلك أن المرحوم منعم، كما سيظهر من الترجمة العربية أدناه، كان يهاجم صدام ونظامه الدكتاتوري وكذلك الحرب العراقية الأيرانية، ما دفع صدام للتربص به حتى حدثت حادثة الأتصال بالسفير الأمريكي بلندن فأعطت صدام السبب الذي كان يتمناه للقضاء على المرحوم.
أيها السادة،
إن كان لأحد أن يتكلم عن منعم فيجب أن يكون أنا، ذلك أنه كان أعز أصدقائي وأفضلهم. لقد تخرج كلانا من جامعة برمنكهام في بريطانيا وقد كان يسبقني بسنة واحدة. هناك بعد رجوعنا الى العراق، أخذ كل منا طريقه لخدمة البلد والعمل كمهندس في إحدى المصالح النفطية التابعة لوزارة النفط، ولكن بعد خدمة نحو ثلاث سنوات تلاقينا مرة أخرى في مصلحة توزيع الغاز. ومن هناك بقينا معاً عدا فترة قصيرة حين ذهب هو ليعمل مع شركة المشاريع النفطية وأنا في مصفى الدورة (مصلحة مصافي النفط). ونظراً لأن هذا المصفى الحيوي كاني يعاني آنذاك من سوء إدارة، وحتى إهمال في الصيانة، فقد تم تعيين منعم – لفرحي الشديد - رئيساً للمصفى في سنة 1970 (أو ربما في سنة 1971) وذلك لكونه مهندساً ممتازاً وإدارياً متميزاً. وبعد مدة، ربما كانت نحو سنتين، تم تريفعه الى مدير عام مصلحة مصافي النفط.
بقيت أشتغل في المصفى لغاية 1975، وفي منتصف تلك السنة غادرت الى الولايات المتحدة الأمريكية للحصول على شهادة الدكتوراه في موضوع "إقتصاديات النفط". وبعد ذلك بوقت قصير تم ترفيع منعم الى وظيفىة وكيل وزارة النفط، وكانت تلك وظيفة استحقها بكل حق وجدارة. بعد تخرجي ونيلي الشهادة المطلوبة في 1980 عدت الى العراق للعمل مع وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، باعتبارها صاحبة البعثة العلمية وراء دراستي بأمريكا. ولكن بعد ضغط وإقناع من منعم عدت الى وزارة النفط، بوظيفة رئيس مهندسين لدى "المديرية العامة للعلاقات الخارجية"، وهي دائرة كانت مسؤولة بصورة رئيسية عن علاقات العراق بمنظمة الأوبك وعن أسواق النفط العالمية. لقد كان مطلوباً في ذلك الوقت من كل عراقي يتم تعيينه في دائرة حكومية أن يملأ إستمارة يجيب فيها عن مختلف الأسئلة الشخصية المتعلقة بأفراد العائلة والأقرباء ومن منهم المسجون والمعدوم والهارب و..و..إلخ. لقد تحتم علي في تلك الفترة الحرجة أن أضع إجابات مغلوطة في استمارة الأسئلة تلك، نظراً لأن ابن أخي (طبيب شاب) قد أُعدِم، وابن أختي (شاب يافع) في الصف الخامس، كلية طب الأسنان، جامعة بغداد، أُعدِم أيضاً، إضافة الى أن العديد من أقربائي وأقرباء زوجتي أما كانوا في المعتقلات أو السجون، وكان منعم، رحمه الله، يعرف ذلك.
في اللحظة التي التقينا فيها بعد رجوعي في صيف 1980، بدأ الواحد منا يبوح للآخر مدى كراهيته الشديدة للنظام الدكتاتوري الدموي القمعي الذي أسس له صدام، وبعد استعار الحرب مع إيران في غضون أسابيع قليلة من رجوعي لبغداد أصبح منعم أشد مني غضباً وكرهاً للنظام لمعرفته اليومية – والآنية في بعض الحالات بحكم وظيفته – لما يحدث من دمار واسع للبنية التحتية النفطية. لقد تكونت لدينا القناعة التامة بأن هذه الحرب الجنونية والتي لا جدوى منها على الأطلاق، ستكون بداية خراب العراق، خصوصاً إذا استمرت لمدة طويلة. وبمرور الوقت وتصعيد الحرب لدرجات أشد هولا وأكثر بشاعة بدأ اليأس يتغلب على أفكارنا والكآبة تدب تدريجياً لنفوسنا. في مرة من المرات لاحظت بقعة صغيرة خالية من الشعر في مؤخرة رأس منعم، وعندما سألته عنها أجاب بأن ذلك بدأ يحدث له فجأة، ثم سحب خصلة صغيرة أخرى من شعره فانتهت بيده، وهي دالّة على وطأة الضغوط النفسية التي بدأ يتعرض لها.
كنا في ذلك الوقت شلّة من الأصدقاء وكانت تدور بيننا حفلة في كل مساء خميس تقريباً وفي بعض العطل الرسمية أيضاً كالأعياد، وهي لا تتجاوز كونها أمسيات تلاقي وسمر عائلية بين أصدقاء. وفي أماسي أخرى كنا نذهب ونزور أصدقاء آخرين في النوادي أو المنازل. في كل الأوقات تقريباً التي كنا نجتمع بها كان منعم هو الأشد بيننا جهراً في الكلام عن الحرب المريرة واستنكار الدمار الهائل الذي كانت تتعرض له البلاد والصناعة النفطية بالأخص. كما كان يلعن المتسببين في تلك المأساة ويهاجم القمع والدكتاتورية التي كنا، نحن العراقيين، نعيش تحت وطأتها. وعلى الرغم أنني كنت أفعل نفس الشيئ، ولكن منعم كان أقل حذراً مني رغم طلبي منه، في غالب الأحيان، أن يتخذ حالة الهدوء خصوصاً بحضور أناس لسنا متأكدين منهم.
في يوم من أيام العمل، وبينما كنت في اجتماع مع بعض الموظفين بغرفتي، جاءنا ضابط أمن الوزارة وسلّم كل واحد منا ورقة مطبوعة يتخلل بعض أسطرها فراغات يتعين على الموظف ملئها وتوقيعها وإعادتها إليه. لقد احتوت الورقة على نداء يطلب التطوع للفداء في قادسية صدام. تملكني الشك بداية بأن الموظفين سيرفضون توقيع هكذا طلب باعتباره انتهاكاً لآدمية الفرد، ولكن يبدوأنني كنت على خطأ. إذ، لاستغرابي الشديد، أسرع كل واحد منهم لالتقاط قلمه وملئ الورقة وتوقيعها دون أدنى تفكير بالأمر ولو لثانية واحدة. أما أنا فقد بقيت مشدوهاً لا أعرف ماذا يمكن أن أعمل وضابط الوزارة، الجلف، يحدّق بي منتظراً، فيما كنت أنا محدّقاً بالورقة اللعينة. كان ذلك يوم خميس، رفعت رأسي من الورقة وقلت للضابط سأسلمك إياها يوم السبت، فلملم أوراق الآخرين وشكرني وخرج. في مساء ذلك اليوم إلتقيت بمنعم وناولته الورقة ليطّلع عليها وقلت إنني لن أوقع على مثل هذه الورقة، لكونها إهانة مضافة الى جُرح. فأجابني بأنك ستقترف خطأً إن لم توقعها لأنك بذلك ستكشف عن توجهاتك، وستكون قد سلّمت لهم نفسك، وهم سيربحون بكلا الحالتين، ثم قال، بنبرة آمرة، وقعها! قمت بتوقيع الورقة وسلمتها الى ضابط الأمن، ولكني اتخذت قراراً منذ اللحضة التي سلمت الورقة الى ذلك الجلف الكريه بمغادرة العراق بأي كلفة، وهي فكرة لم تمر بذهني من قبل أبداً.
بعد مرور بضعة أشهر على تلك الحادثة بدأت صحة إبنتي تتدهور بسرعة لسبب غامض، وبعد فحوصات طبية ومختبرية تبين أن مرضها هو "سكر الأطفال". إن هذا يعني أن جسمها توقف عن صنع الأنسولين وعليها أن تأخذ جرعات الأنسولين بواسطة الأبرة لبقية حياتها – كان عمرها 12 سنة آنذاك. لقد أخبرت زوجتي بأن ما حدث لأبنتنا هو سبب إضافي لترك العراق، لأن بلداً تعرض لهكذا دمار، ينقطع فيه الكهرباء مراراً في اليوم الواحد ولا يمكن فيه تأمين الدواء، لن يكون حاضناً رحيماً للمرضى الكبار ناهيك عن المرضى الصغار. وبتراكم تلك الأسباب، وبناءً على طلبي، غادرت زوجتي العراق في صيف 1982 الى إنكلترا، تنتظرني هناك. وعندما حل شهر تشرين الأول (أكتوبر) في تلك السنة سنحت لي الفرصة أن أذهب الى فينا (النمسا) مع أحد زملاء العمل لتمثيل العراق في أحد مؤتمرات منظمة أوبك. بنفس ليلة سفري، وقبل بضعة ساعات من إقلاع الطائرة، جاءني منعم للبيت برفقة زوجته. كان جارنا في حي المهندسين. سألني وعلامات القلق بادية على وجهه: محمد علي أنت لست عازماً على الرجوع الى العراق، أليس كذلك؟ بقيت ساكتاً ولم أُجب. فقال: أنصت إلي، إن شعوري حول النظام العراقي هو نفس شعورك أنت، ونحن كلانا نقاسي نفس الآلام، وبودي أن أفعل مثلما أنت فاعل الآن، ولكن عليك أن تفعلها بصورة قانونية. سأعمل على إرسالك للعمل لدى منظمة أوابك في الكويت. كلا بل سأفعل أفضل من ذلك وأُرسلك الى فينا للعمل مع منظمة أوبك وبوظيفة عالية هناك، ولكن عليك أن ترجع الى العراق بعد رحلتك هذه. أجبته بأن الحل الأفضل هو أن ترحل أنت عن العراق، خذ زوجتك وأطفالك وغادر، وإن فُرص حصولك على عمل مجزي بالخارج هي أفضل من فُرصي أنا. أجابني إن وضعي مختلف عن وضعك، أنا الآن رهينة، عائلتي رهينة، أهلي رهينة، وسألحق أذىً بالكثير من الناس إن أنا غادرت العراق، ولا يمكنني أن أفعل ذلك! فهل سترجع، أرجوك!! أجبته نعم. ولكني كذبت، وهو عرف أنني كذبت – من قراءته لعيني.
نعم، لقد أعدموا منعم بإحدى تهمهم الجاهزة...والزائفة. يا لها من نكتة عديمة الذوق. لقد كان هو الأفضل وطنيةً والأعظم نزاهة، ولم يكن بالأمكان إفساده على الأطلاق! لقد كان ديمقراطياً حقيقياً ومؤمناً صلباً بحقوق الأنسان! إن خطيئته الوحيدة بعين نظام صدام الدكتاتوري كانت كرهه لذلك النظام. ولكن الكراهية تلك تحسب مدالية شرف له ولكل العراقيين الذين استشهدوا لنفس الأسباب! أنا أؤيد بكل قوة أن تقوم وزارة النفط ببناء متحف للنفط والغاز. وفي هذا المتحف تخصص غرفة كبيرة لكافة العاملين في هذه الصناعة الذين استشهدوا لهذا السبب أو ذاك، منذ قيام الصناعة النفطية بالعراق ولهذا اليوم، وأن يوضع في تلك الغرفة تمثالاً للشهيد البطل عبد المنعم حسن السامرائي. إنه يستحق ذلك.
في آذار 2003 دُعيت من قبل مجلس إعادة إعمار وتطوير العراق مع مجاميع من الخبراء العراقيين بالخارج للمشاركة في جهود إعادة الأعمار. كانت المجموعة التي قدتها تخص إعادة بناء الصناعة النفطية التي تعرضت للخراب والأندثار وسوء الأدارة والأستغلال خلال سنوات الحصار، وتعرضت للقصف والنهب والتخريب خلال عمليات الأحتلال. إن من أولى الأمور التي قمت بها هي زيارة بيت منعم. كان البيت محتلاً بصورة غير قانونية من قبل عائلة، وعندما تكلمت معهم أخبروني بأنهم على وشك إخلاء البيت. بعد شهرين من العمل بدأت أشعر بخيبة أمل كبيرة نتيجة عدم رضاي بإداء الفرق الأمريكية من جهة والأخطاء الجسيمة التي ارتكبها الأمريكان والتي قادت، بين أمور أخرى، الى تدهور سريع في الحالة الأمنية وفشلهم في إعادة الخدمات الأساسية الى الشعب العراقي من جهة أخرى. في صيف تلك السنة اشتركت بورشة عمل أقيمت في المركز الثقافي النفطي، وكان هدف الورشة تحظير "خطة الترميم" لاستعادة السعة الأنتاجية التي كانت قبل الأحتلال نحو 2,8 مليون برميل يومياً. ونظراً لعدم زيارتي لهذا المكان منذ أكثر من 20 سنة حين غادرت العراق في 1982، وكان يسمى آنذاك "نادي النفطً"، بدأت أتجول بين أطلال المركز الذي تعرض للنهب والتخريب خلال الأحتلال، شأنه بذلك شأن أغلب البنايات الحكومية التي تمكنت الغوغاء من الوصول لها. دخلت منطقة حوض السباحة الذي كنا نتردد عليه في الأيام الخالية. كان المكان مهجوراً وحوض السباحة مليئاً بالصخور والأزبال والوحل الجاف. ولوهلة توقفت لأسترجع في ذهني صورة المسبح كما عرفتها من قبل. تذكرت حوض السباحة النظيف المغري، مليئاً بالماء العذب ومحاطاً بالعشب المشذب بعناية وبالشجيرات الجميلة والورود بألوان مختلفة. تخيلت منعم وأنا نسبح بذلك الماء الصافي مع مجموعة من الأصدقاء، كما كنا نفعل خلال أيام الصيف. ولكني، عندما استفقت من عالم الخيال واستعدت الواقع الذي يلفّني بكل مآسيه، هجمت علي فجأة نوبة من الكآبة الشديدة جعلتنب أبكي بصوت عال كالطفل. سمع بكائي أحد المترجمين العراقيين الذي كان يرافقني عن بعد، وقد اقترب مني صائحاً مالخطب، دكتور! مسحت دموعي ولكني شعرت بحاجة ملحّة أن أخبر أحداً قصتي، فبدأ يجهش بالبكاء هو الآخر.
لم أعد أحتمل الحالة الرهيبة التي وصل إليها العراق، فقدمت استقالتي وعدت الى لندن بعد أن عملت لأربعة أشهر فقط ببغداد. ولكن قبل أن أغادر شعرت بالحاجة الى زيارة بيت منعم لمرة أخرى. لم يكن هناك في البيت أحد وكانت البوابة الخارجية الحديدية مقيدة بسلسلة. ولم أفكر بأن أحداً من عائلة منعم سيملك المهجة للمجيئ والعيش بهذا المكان. كان الجو بذلك اليوم مغبراً والرياح عالية، وكنت أشعر بمرارة وكآبة شديدتين. تذكرت أيامنا التي كانت مليئة مرحاً في ستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي. وقد خالجني، بصورة ما، وأنا واقف أمام الباب المقيدة بالسلاسل، شعور بالحسد تجاه منعم وقد مات ولم يعد يحس بشيئ. تمنيت بتلك اللحظة لو كنت ميتاً أنا أيضاً ولست حياً في هول الظلمة القاسية لهذه الأيام، أشاهد فيها تدهور بلدي العراق الى هذا المستوى المخيف. وأنا في هواجس ذلك الشعور هبّت ريح قوية كنست ما تراكم في حديقة البيت الجرداء من غبار وأوراق يابسة أخذت تدور مع الريح صاعدة الى الأعلى بشكل لولبي، محدثة بنفس الوقت هسيساً خافتا موحشاً كأنه يكلمني قائلاً "إذهب فلم يعد هنا بالبيت من ينتظرك". إغرورقت عيناي فحرّكت مقلتاي بسرعة لأحبس دموعاً كادت تسيل، ثم ولّيت مسرعاً لا ألوي على شيئ.
د. محمد علي زيني
7/9/2014









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حرب غزة..احتجاجات جامعات أميركية | #غرفة_الأخبار


.. مساعدات بمليار يورو.. هل تدفع أوروبا لتوطين السوريين في لبنا




.. طيران الاحتلال يقصف عددا من المنازل في رفح بقطاع غزة


.. مشاهد لفض الشرطة الأمريكية اعتصاما تضامنيا مع غزة في جامعة و




.. جامعة فوردهام تعلق دراسة طلاب مؤيدين لفلسطين في أمريكا