الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صمويل بيكيت بلا حدود

صبحي حديدي

2005 / 8 / 16
الادب والفن


وصلتني قبل أيام النشرة الدورية التي تصدرها "حلقة أبحاث صمويل بيكيت" في اليابان (نعم! وليس في إيرلندا!)، تتضمّن تفاصيل الأنشطة الثقافية التي تزمع الجمعية إقامتها السنة القادمة في جامعة واسيدا، طوكيو، احتفاء بالمئوية الأولى للمسرحيّ والروائي الإيرلندي الكبير صمويل بيكيت (1906 ـ 1989). وليس دون فلسفة متكاملة، رفيعة تماماً وإنسانية ومدهشة بعض الشيء في آن، أنّ الأصدقاء اليابانيين يرون في أدب بيكيت الكثير من عناصر المأساة والملهاة والألم والأمل التي تمسّ الوجدان الياباني في الصميم، بل تمثّل روح اليابان بالمعنى الوثيق الدقيق!
وهم يرون، كما يرى معظم عشّاق فنّ بيكيت ودارسيه، أنّ عمله يتجاوز أيّ وكلّ حدود تقيمها المفاهيم المسبقة، القارّة الراسخة خصوصاً، حول "الشرق" و"الغرب" بادىء ذي بدء، ثمّ في ما يخصّ قضايا الفنّ والأدب والرواية والمسرح والفلسفة ولغة الكتابة والمقاومة والحياة والموت... ليس غريباً، بالتالي، أن يطلقوا على احتفالات المئوية اسم "بيكيت بلا حدود" من جهة أولى؛ وأن يتعمدوا، من جهة ثانية، دعوة باحثين من آسيا والشرق عموماً، أكثر من أوروبا والغرب؛ وأن يكرّسوا محوراً أساسياً بعنوان "بيكيت وآسيا"، يتلمّس حقلاً بحثياً جديداً تماماً، وبالغ الخصوبة والجدوى والأهمية.
ولا يتردد إسم بيكيت في ذهني (ولست أخفي أنني شخصياً أعتبره الكاتب الأعظم في القرن العشرين) إلا وتعود إليّ تلك العبارة الصاعقة الصادقة التي أطلقها مسرحيّ كبير آخر هو البريطاني هارولد بنتر: "لا أريد منه [بيكيت] الفلسفات، والمنشورات، والدوغما، والعقائد، والمخارج، والحقائق، والإجابات... إنه الكاتب الأكثر شجاعة، وكلّما سحق أنفي في البراز أكثر، ازداد امتناني له أكثر فأكثر"! كذلك تعود إليّ حكايته الطريفة مع جائزة نوبل للآداب، التي نالها سنة 1969: لقد تصادف وجوده في تونس حين أبرق له صديقه جيروم ليندون يعلمه بالخبر، فتوارى فوراً عن الأنظار، وفرّ إلى فندق مغمور في قرية تونسية نائية، وامتنع بالطبع عن السفر إلى ستوكهولم لاستلام الجائزة!
ثمة، أيضاً، تلك العلاقة الوطيدة التي نشأت بين بيكيت واللغة الفرنسية، أو فرنسا عموماً في الواقع. ذلك لأنه جاء إلى باريس سنة 1928 لإكمال دراسته الجامعية، وناقش أطروحة متميّزة عن الروائي مارسيل بروست، وانضمّ إلى حلقة مواطنه الروائي الكبير جيمس جويس (ولم يكن سكرتيره الخاصّ، كما يتردد في بعض المراجع)، وأخذ يكتب بالفرنسية أو يترجم إليها. وحين وقعت باريس تحت الإحتلال النازي أثناء الحرب العالمية الثانية، ورغم أنّه كان يحمل جنسية بلد محايد في الحرب ومن حقّه استطراداً أن يقيم بلا منغصات في باريس، فقد انضمّ بيكيت إلى حركة المقاومة الفرنسية، واضطرّ إلى التخفّي والدخول في الحياة السرّية حين اكتشف النازيون أمر الخلية التي كان منضوياً فيها.
قبل ذلك كانت قد وقعت الحادثة التي ستجعله يقيم في فرنسا مرّة وإلى الأبد. ففي مساء السابع من كانون الثاني (يناير) 1938 كان يسير في جادة أورليان في باريس، صحبة ألن وبلندا دنكن، حين اعترض طريقه متشرّد مخمور، طعنه بخنجر اخترق صدره وكاد أن ينفذ إلى القلب لولا المعطف السميك الذي كان بيكيت يرتديه. وإزاء ذهول مرافقَيْه وارتباكهما التامّ، سارعت سوزان ديشفو ـ دومنيل، طالبة الموسيقى التي تصادف مرورها، إلى إجراء الإسعافات الأوّلية، ونجحت في وقف النزيف الشديد الذي كان سيودي بحياته. إنها السيدة التي ستصبح رفيقة عمره، وسينخرطان معاً في المقاومة الفرنسية، وستشرف على إصدار وإدارة أعماله في فرنسا والخارج، وسيتزوجان رسمياً سنة 1961. إنها، أيضاً، صاحبة التعليق الشهير حين بلغها خبر فوز بيكيت بجائزة نوبل: "يا لها من كارثة"!
ثمة امرأة اخرى لعبت دوراً حاسماً في حياته الأدبية، هي الكاتبة المسرحية كيت اوبريان (1897 ـ 1974). وكانت رواية بيكيت "مرفي" قد صدرت سنة 1938، وقوبلت بفتور بالغ من معظم النقّاد، كما أنّ شاعراً واسع السطوة آنذاك، هو ديلان توماس، كتب عنها بقسوة وتهكم واستهجان. الدفاع الوحيد عن العمل جاء من أوبريان، التي كتبت تقول: "إنّ المتعة الكبرى التي تركتها في نفسي قراءة هذا العمل لن تتوقف بالتاكيد عند حقيقة أنني سأتابع قراءته مرّة بعد أخرى حتى يطويني التراب"!
وبين مأثورات بيكيت التي تسير على ألسنة أبطاله، ما يقوله مالون: "الليل طويل بلا ريب، وفقير تماماً في السلوى"، وكذلك: "إذْ تأتيك ساعة لا يقع فيها أمر أكثر أو يأتي شخص أكثر وينتهي كلّ شيء ما خلا الإنتظار الذي يعرف ذاته بلا طائل". أو ما تعلنه مسرحية "في انتظار غودو": "دموع العالم كمّ ثابت. مقابل كلّ مَن ينخرط في البكاء في مكان ما، ثمة مَن يتوقف عنه. الأمر صحيح أيضاً بالنسبة إلى الضحك". أو مورفي: "أشرقت الشمس لأنه لم يكن من بديل على ما هو لا جديد تحتها". أو وايلي: "الإنسانية بئر ذات دَلْوَين: الأوّل يهبط كي يُملأ، والثاني يصعد كي يُفرّغ"! والأرجح أنّ الأصدقاء اليابانيين اهتدوا بمثل هذه الروحية حين ارتأوا تحرير بيكيت من كلّ الحدود.











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ضحية جديدة لحرب التجويع في غزة.. استشهاد الطفل -عزام الشاعر-


.. الناقد الفني أسامة ألفا: العلاقات بين النجوم والمشاهير قد تف




.. الناقد الفني أسامة ألفا يفسر وجود الشائعات حول علاقة بيلنغها


.. الناقد الفني أسامة ألفا: السوشيال ميديا أظهرت نوع جديد من ال




.. استشهاد الطفل عزام الشاعر بسبب سوء التغذية جراء سياسة التجوي