الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاستيطان المقارن: الفرنجة ..جنوب إفريقيا..إسرائيل

فاطمة خير

2014 / 9 / 13
القضية الفلسطينية


تهدف هذهِ الدراسة إلى عقد مقارنة للنماذج الثلاثة للاستيطان :فى بلاد الشام أيام الفرنجة؛وفى جنوب إفريقيا تحت الحكم الأبيض العنصرى ؛وفى فلسطين تحت الاحتلال الصهيونى ،وبيان أوجه الشبه والاختلاف بينها ، ذلك أن الحركة الصهيونية استفادت من دراسة نماذج الاستيطان الأخرى ،لتجاوز الأخطاء التى وقعت فيها تلك النماذج :حتى تضمن بقاءها وتعمل على تطوير مشروعها.
أولاً :أهداف الاستيطان :
استهدفت النماذج الاستيطانية الثلاثة،ترسيخ وجود القوى الاستعمارية ، التى تمثلها على الأرض المغتصبة ،بهدف خلق دولة جديدة ،تفرض وجودها بالأمر الواقع ،وإن كان الاختلاف بين هذهِ النماذج بسيطاً .
يقع الاستيطان بالنسبة إلى الحركة الصهيونية فى موقع القلب.وكما هو معروف ،فإن الحركة الصهيونية تهدف إلى تفريغ الأرض من شعبها ، وإحلال المستوطنين اليهود مكانهم ،لذا فإن الاستيطان ساعد فى تقديم المادة البشرية لهذهِ الحركة ،حيث تشكل هذهِ المادة الامتداد الديمغرافى للدولة التى سعت الحركة إلى إقامتها "إسرائيل".وهى ذاتها الخطوة الأولى للاستيلاء على أى جزء جديد من الأرض:فأحد الأسباب الرئيسة لسياسة الاستيطان الصهيوني، لا تزال التوسع على ما يسمونه "أرض الميعاد" ،وتكريس حقهم المزعوم هذا ،بسياسة الأمر الوقع.
تعددت الأهداف التى قصدتها الحركة الصهيونية من انتهاج سياسة الاستيطان فى الأراضى الفلسطينية،ويقف فى مقدمتها رغبة هذهِ الحركة فى توسيع حدود الدولة اليهودية ،إلى أبعد ما يمكن ، بحيث تضم إليها ما تستطيع من الأقاليم العربية ، انطلاقا ًمن المبدأ الإسرائيلى أن حدود إسرائيل تمتد إلى حيث يقيم اليهود:وللسبب ذاته وصفت إسرائيل الأراضى العربية المحتلة فى فلسطين بأنها"أرض إسرائيل المحررة" ،مما يعنى حق الإسرائيليين بالاستيطان فى أى جزء منها .كما استهدفت الحركة الصهيونبة خلق كثافة سكانية يهودية فى الأراضى المحتلة،مما يجعل من المستوطنات الإسرائيلية فى هذهِ الأراضى:عقبة كبيرة أمام إمكان قيام دولة فلسطينية فى المستقبل فوق هذهِ الأراضى.
وهناك هدف فى غاية الأهمية يتعلق بالاعتبارات الأمنية الإسرائيلية،فإقامة مستوطنات فى الأراضى العربية المحتلة،خاصة فى الأجزاء القريبة من الحدود مع الدول العربية ، قد يكون ذا فائدة كبيرة، دفاعياً وأمنياً ، حيث تقوم هذهِ المستوطنات بدور خط لدفاع الأول عن "دولة إسرائيل".لذا عمدت إسرائيل إلى إقامة المستوطنات فى مناطق معينة ،كقمم المرتفعات ،وسفوح الجبال، مما يعزز من قدراتها الدفاعية، فضلاً عن سيطرتها على المحاور الرئيسية للطرق والممرات المؤدية إلى داخل الأراضى المحتلة ،وهو الدور الذى لعبه المستوطنون فى مواجهة الانتفاضة.(1)
لاتتنازل إسرائيل عن حقها المزعوم فى استيطان الأراضى الفلسطينية ،حتى عند توقيع "اتفاقية سلام".وعلى سبيل المثال،فقبل أن يجف المداد الذى وقعت به اتفاقية كامب ديفيد،أعلنت حكومة الليكود بأن الحكم الذاتى ينطبق على السكان وليس على الأرض، وأن الحكومة الإسرائيلية ستستمر فى إقامة المستوطنات فى الأراضى المحتلة.أكد ذلك مناحم بيغن أمام رئيس الوزراء الإسرائيلى الأسبق،حيث قال أمام المؤتمر الصهيونى العالمى، المنعقد فى القدس ،فى كانون الأول/ديسمبر 1982:"أولئك الذين يقولون إن باستطاعتنا التنازل عن حقوقنا فى السلام يعانون من الوهم" (2) وهو تأكيد لما سبق أن أعلنه أرئيل شارون، وزير الدفاع الإسرائيلى، عام 1979، من أن الاستيطان هو جوهر وجودنا ، وأن الأهم من السلام هو أن يكون باستطاعتنا العيش هنا العيش هنا – ينبغى أن يكون هذا مفهوماً للجميع ،وهذهِ هى النقطة الرئيسية – وعلينا أن نوضح للجميع بأن من حقنا أن نعيش فى كل مكان من هذهِ الدولة" وذلك تعليقاً على قرار محكمة العدل الإسرائيلية آنذاك ، والقاضى بأن الاستيطان المدنى جزء من جهاز الأمن الإسرائيليى ،وهو ما يعنى، ضمناً ،بأن جميع الأراضى المحتلة رهن برغبات السلطات الإسرائيلية ،لمجرد إعلانها "هذهِ الأرض ضرورية لحاجة الأمن".(3).
استمراراً لهذهِ السياسة،شرعت إسرائيل ،فى عام 1997،ببناء مستوطنة هارحوما "ديسجان شمول،كما سميت بعد ذلك" فوق جبل أبو غنيم فى القدس، ليس لاعتبارها الاستيطان هدفاً،فى حد ذاته ،بل وسيلة لتحقيق أهداف أخرى،وتؤكد وثيقة صهيونية،بعنوان "استراتيجية إسرائيل فى الشرق الأوسط"،بالنص الصريح ،أن "طرد الفلسطينيين ،وتوزيع السكان هو هدف استراتيجى داخلى،له أهمية فائقة ،ويهودا والسامرة "الضفة الغربية" والجليل هما ضمانتنا الوحيدة لوجود وطنى.
وإذا لم نصبح الأكثرية فى المناطق الجبلية،فإننا لن نحكم البلاد،وسوف نصبح، مثل الصليبيين ،الذين خسروا هذا البلد، لأنهم ظلوا فيه غرباء.إن إعادة موازنة البلاد،سكانياً ، واستراتيجياً،واقتصادياً.هى الهدف الأسمى والأكثر مركزية اليوم". أما إلى أين يذهب الفلسطينيون المطرودون،فالوثيقة تجيب بوضوح "إلى الأردن".(4).
لقد أرادت الحركة الصهيونية بذلك أن تؤمن وجودها فى الأراضى الفلسطينية ،ولا تقع فى الخطأ الذى وقعت فيه حملات الفرنجة،التى بقيت غريبة عن أهل البلاد ،وشكلت كيانات لم تسع إلى توطين جذورها فى الأرض.فلقد ادعت هذهِ الحملات بأنها تهدف إلى إنقاذ القبر المقدس ،إلا أن الحقيقة هى أن الدين كان غطاءً للرغبة فى التخلص من مشاكل كثيرة ،كانت تموج بها أوروبا،فى ذلك الوقت.
كان الدين غطاءً لأطماع النبلاء فى الأرض،والرهبان الكاثوليك فى الانتشار والسيطرة على كنيسة المشرق،والتجار فى الربح والامتيازات،والفلاحين العاديين بالخلاص من الديون والمجاعات والظلم الإقطاعى.لذا،كان فى مقدمة أهداف الفرنجة،منذ وطئت أقدامهم أرض بلاد الشام،الاستيلاء على الأرض وإقامة دويلاتهم.(6).
فنتيجة لسوء الأحوال الاقتصادية فى أوروبا،جاء الفرنجة إلى الشرق جرياً وراء الثروات عن طريق اشتغلال موارد وثروات المنطقة العربية،وذلك لتوجيهها إلى الغرب،بهدف رفع مستويات المعيشة فيه، إضافة إلى أنها متنفس للهروب من ظروف اجتماعية بالغة السوء: كما أن الصراع على النفوذ بين البابوات والملوك والأمراء فى أوروبا وأمرائها،الذين سيتم استنزاف جهودهم فى الصراع مع الشرق العربى،أثناء الحملات الحربية مما يؤدى، أيضاً ،إلى إضعاف نفوذهم،اقتصادياً ،وسياسياً،ذلك فى حين تحتفظ الكنيسة بالقوة الاقتصادية،خاصة،مع زيادة انتقال الأموال إليها عن طريق الدعوة الدينية،ورغبة بعض الملوك والأمراء الأوربيين فى الخلاص من المشاكل الداخلية،بفتح جبهات خارجية،يتم من خلالها إبعاد الفرسان المناوئين لهم(7).
أما إفريقيا،فقد تعرضت، منذ بداية الغزو الاستعمارى الأوروبى الحديث لها ،إلى عمليات استيراد وتصدير بشرى،لم يكن من هدف إلا تحقيق رفاهية الأوربيين،وخدمة الاقتصاد الأوروبى، وأيضاً إثبات سيادة أوروبا وهيبتها(8) . وليس مصادفة أن يكون التقليد التوراتى،الذى خدم الانفصالية الصهيونية،هو ذاته الذى أعطى الأساس الأيديولوجى للقومية الأفريكانية. فالأفريكانيون ، فى نظر الحركة الأفريكانية،مثل أبناء إسرائيل، يسعون إلى"أرض ميعاد"،ومن أجل تدعيم حقه المزعوم بالأرض وإضفاء مزيد من القناعة به،أطلق رائد المستوطنين الهولنديين والهوغنيين على نفسه لقب إفريقى،أو أفريكانى،فالأرض هى ملك له،عن حق،وأصبحت غايته تحويل أهل البلاد الأصليين إلى غرباء فى أرضهم،لذا كان ينبغى انتزاع الأرض منهم،وإرغامهم على التخلى عن وطن آبائهم (9).فقد قام الأوربيون بهجرة استيطانية إلى جنوب إفريقيا، مثلت إحدى حالات الاستعمار الاستيطانى،وهدفت إلى الاستيلاء على الأرض،وإقامة مستوطنة بيضاء ،تعيش على الموارد الطبيعية لهذهِ المنطقة الغنية بالمعادن.

ثانياً: أساليب الاستيطان :
من أجل تحقيق الأهداف السابقة ،استعانت النماذج الاستيطانية الثلاثة بعدة وسائل،أهمها الاستيلاء ،بالقوة، على الأرض والثروات الطبيعية والبشرية فى المناطق المحتلة،مع إعطاء بعد قانونى،أحياناً، يحاول تسويغ اغتصاب الحقوق،ويرجع الاختلاف بين أساليب النماذج الثلاثة إلى اختلاف الفترات الزمنية،والأمكنة.
استهدفت السلطات الإسرائيلية مصادرة جميع أنواع الأراضى،سواء المملوكة ملكية،أو الأراضى الحكومية: أما الأراضى الخاصة فصادرتها بدعوى الأمن ،وأما الحكومية فى الضفة الغربية فقد صادرتها بدعوى أنها ملك لحكومة إسرائيل ،حيث تعتبر نفسها وريثاً شرعياً للسلطة السابقة .ولأن إسرائيل تعتبرها ملكاً خاصاً لها (10).
وقد استعانت فى ذلك بالمادة 125 من "قانون الطوارىء" ، الذى وضعه الانتداب البريطانى،عام 1945، وبناءً عليه فقد صادرت أراض ٍكثيرة، وأعلنتها مناطق مغلقة لأسباب أمنية،لابد من وجود تصريح من الحاكم العسكرى لدخولها.ولا تناقش المحالكم المنازعات حول هذه المناطق.بالإضافة إلى ذلك سنت الكنيست بعض القوانين التى تسوغ مصادرة الأراضى ، بشكل قانونى(11) :
(1) إجراءات استغلال الأراضى (1949) :
وفقاً لهذه الإجراءات يحق للحكام العسكريين إعلان أية منطقة مغلقة لأسباب أمنية ،وبذا تصبح غير صالحة للزراعة،بعد منع أصحابها من دخولها ،مما يؤدى إلى إتلاف الأرض، حتى يقوم وزير الزراعة بتسليمها إلى مستوطن يهودى، لتأمين زراعتها،
(2) قانون تنظيم الاستيلاء على عقارات فى أوقات الطوارىء عام 1949:
أعطى الحكومة الإسرائيلية الحق فى إصدار أوامر الاستيلاء والإسكان فى حالات:
أ‌- حماية البلاد.
ب‌- المحافظة على الأمن العام.
ج – استيعاب العائدين (اليهود).
(3) قانون أملاك الغائبين 1950:
أى اللاجئين الفلسطينيين ،وبناءً عليه تم هدم 374 قرية فلسطينية،وتسليمها للمستوطنين على أن تكون ملكيتها للصندوق القومى اليهودى أو للدولة.
(4) قانون استملاك الأراضى 1953:
يعطى السلطات الإسرائيلية صلاحية إدارة واستغلال الأراضى دون نقل ملكيتها.
(5) قانون الاستيطان الزراعى:
سنته الكنيست ،بعد حرب 1967،وبموجبه تم منع اليهود من تأجير أراضيهم للفلسطينيين، أو أن يبيعوا لهم حقوقاً فى مياه الرى.
فى بداية عام 1948،كتب ديفيد بن غوريون يقول:"عندما نقوم بهجوم،يجب أن نكون مستعدين لتوجيه الضربة القاضية،أى تدمير الموقع السكانى، أو طرد سكانه ، لكى نأخذ مكانهم".معروف بأن غوريون هو "الأب الروحى" لدولة الاحتلال الصهيونى،وهو ليس من أنصار فكرة "الترانسفير" دفعة واحدة ،وفى وقت واحد ،وله نظرياته الخاصة التى تعبر،بدقة،عن جوهر الصهيونية وأهدافها ،وتتمثلل بـ"الطرد على مراحل وبالتدريج".
والتزاماً بهذهِ السياسة ،كان يضع تحت زجاج مكتبه سطوراً من التوراة ،تقول :"لاتطردهم من أمامك فى سنة واحدة،لئلا تصير الأرض خربة ،فتكثر عليك وحوش البرية،قليلاً قليلاً أطردهم من أمامك ،إلى أن تثمر وتمتلك الأرض"(12).
بعد حرب 1967،قامت السلطات الإسرائيلية بالاستيلاء على الأراضى العربية،ونهجها فى ذلك واضح،حيث أنها ترى بأن أى جزء من أرض فلسطين ،هو جزء من أرض "إسرائيل". مما يعد سبباً لضمه إلى حدود "إسرائيل".وفى كل مكان من الضفة الغربية وقطاع غزة،شرعت سلطات الاحتلال فى إقامة مشروعات استيطانية، بعد استيلائهل على أموال الغئبين،واستفادت فى ذلك من بعض نواحى التضارب فى قانون الأراضى العثمانى لعام 1858،الذى ظل معمولاً به فى الضفة القطاع،حيث يعرف هذا القانون خمس فئات من ملكية الأراضى :(1) أراضى الملك :يمتلكها المواطنون الأفراد ؛ (2) الأراضى الميرى : من الناحية الفنية احتفظت الدولة بملكية الأراضى الميرى ولكنها فتحت حقوق البيع والميراث بالتملك للمواطنين الأفراد؛ (3) الأراضى المتروكة؛سحبت من الاستعمال الخاص لأغراض عامة؛ (4) الموات : تقع كلها ضمن أملاك الدولة ؛ (5) أراضى الوقف: فئة فرعية من أراضى الملك أو الميرى ، وقد عملت إسرائيل على إقامة مستوطناتها على الأراضى الميرى أو الموات ،رغم أن القانون الأردنى – وهو امتداد لقانون الأراضى العثمانى- يعترف بالأراضى الميرى ،بشكل واضح،على أنها أراضى خاصة.لكنها وبأسلوب آخر من أساليب المراوغة القانونية،تعللت إسرائيل،أيضاً، بأن القرويين لم يستطيعوا تقديم حجج ملكية خاصة بهم، عندما طالبوا بأن تكون هذهِ الأراضى خاصة بهم،وإلى جانب المراوغة القانونية،قامت إسرائيل بالسيطرة التامة على مصادر المياه، لإحكام حصارها للمزارعين العرب ،حيث حظر عليهم حفر آبار ارتوازية فى المناطق المتاخمة للحدود "الإسرائيلية – الأردنية"عام 1967،وأيضاً، فى أية مناطق أخرى، دوون موافقة مسبقة من السلطات الإسرائيلية،أضف إلى ذلك، عدم السماح للفلسطينيين بضخ المياه،إلا بنسب معينة ، من الآبار الموجودة،فى الوقت الذى قامت فيه إسرائيل بحفر كثير من الآبار فى الضفة الغربية،لاستخدام المستوطنات ،وحدها.فى حالات عدة،حفر الإسرائيليون آبارهم بشكل أقرب إلى مصادر المياه من آبار العرب،مما تسبب فى جفاف الأخيرة، تماماً :و ترتب على ذلك انخفاض الإنتاج الزراعى العربى، مما أجبر المزراعين على ترك الأرض(13).
لقد تعلممت الصهيونية فى ذلك من تجربة الفرنجة فى الاستيطان،فوفرت لاستيطانها الأدوات اللازمة له،وتجنبت الأخطاء التى وقع فيها الفرنجة ،حيث لم يعطوا الاستعمار الاستيطانى العناية الكفاية ،ولم يعتبروا تنفيذه وسيلة وهدفاً:لذا فعندما ضعفت أسباب انطلاق الحملات،وتقلص المد بالرجال والسلاح،وجد الفرنجة أنفسهم أمام المصير الذى لاقوه،إذ ظنوا بأن الوجود العسكرى والمؤسسات المدنية تكفى لإقامة دويلات تحكم وتستمر فى الحكم،على أن يبقى الشرايين بين أوروبا وهذه الدويلات مفتوحة،لنقل الإمدادات،وهذا ما وعته الصهيونية،التى أدركت بأن الاستعمار الاستيطانى،أى الاستيلاء على الأرض ، يبقى هو الوسيلة إلى إقامة الدولة، وليست الدولة إلا منطلقاً للاستيطان،وإن كانت أيضاً الوسيلة اللاحقة لاستكمال مشروع الاستعمار الاستيطانى.فقد قام الفرنجة، منذ أولى حملاتهم ، بالاستيلاء على الساحل السورى،لتأمين خطوط المواصلات مع الغرب، بالإضافة إلى أراضى فى الداخل، وتألفت قوات الفرنجة من القوات الإقطاعية،وقوات التعبئة العامة،وفرق الأخويات الرهبانية الفرسانية العسكرية،وجماعات الحجيج،والمتطوعين،والمرتزقة،وهى فئات مؤهلة للستعمار الاستيطانى، والقيام بوظائفه،إلا أنها غير كافية لترسيخ أسس هذا الاستيطان ومؤسساته.
وعلى سبيل المثال:تألفت الحملة الأولى من ستين ألف إلى مائة ألف شخص،إلا أنها أشبه بهجرة شعبية،عزمت على الاحتلال والاستيطان،بقوة السلاح،وذلك كجاليات مستعمرة فى فلسطين والبلاد المجاورة،وتكونت الطبقة الفرنجية الحاكمة من الارستقراطية العسكرية، واعتمدت فى حكمها على شبكة القلاع التى استولت عليها،أو أقامتها، وكانت هذه القلاع تؤمن الدفاع عن الحدود والوجود الفرنجى: فى الوقت نفسه ،كانت قواعد للهجوم، ومراكز لترسيخ السيطرة على مناطق الإمارة،وللاستعمار، والتطوير الاقتصادى ، ومساكن للإقامة، والعيش ومقار السلطة، والقيادة، ومراكز إدارية ، وثكنات للجنود، ومخافر للشرطة.
وقد وجد الفرنجة فى الحرب الأداة المناسبة للغزو وترسيخ كيان دويلاتهم، لذا مثلت الحرب جزءاً لا يتجزأ من الحياة العامة فى البلاد.وبرغم ذلك ، لم يشكل الفرنجة سوى أقلية ضئيلة فى المناطق التى احتلوه (14).
وعت الصهيونية هذا الدرس جيداً،حيث لاحظت المصادر الإسرائيلية بأن التفوق البشرى العربى على وجود الفرنجة جعل الآخرين يعيشون تحت السلاح،بشكل مستمر. ولنا أن نقارن بين هذا والوعى الصهيونى(15). كما وعت الصهيونية، أيضاً، فشل الاستيطان الفرنجى فى بلاد الشام،واستوعبت أسبابه ، لتتلافاها عند الإعداد لمشروعها،فاستندت إلى بعض المبادىء ، لترسى استيطانها ، على أسس راسخة،منها:
(1) القوة فى الحق.
(2) القوة ضرورة حتمية لبلوغ أهداف الصهيونية،إضافة إلى العمل السياسى لتعبئة الطاقات للحركة الصهيونية وتجنيد الهيئات والمنظمات الصديقة من أجل المساعدة لبلوغ الأهداف.
(3) الاستعمار الاستيطانى الوسيلة للاستيلاء على الأرض.
(4) الحركة الصهيونية حليف عضوى للإمبريالية.
(5) العمل العسكرى ضرورة لفتح الباب أمام الاستعمار الاستيطانى، ليستولى على الأرض،وليحمى وجوده وإنجازاته (16).

أما فى جنوب أفريقيا،فقد أرسى الأساس الأول لملكية الأراضى من قبل البيض،عن طريق الاحتلال بالقوة ،بالإضافة إلى صفقات تمت بأثمان بخسة، ورغم ذلك، لم يدخل القسم الأكبر من الأراضى الإفريقية تحت سيطرة البيض ، إلا من خلال سلسلة المعارك، التى سميت "حروب الكفار" التى بدأت عام 1779، وامتدت لقرن كامل، إذ رأت السلطات البريطانية فى رأس الرجاء الصالح ،منذ منتصف القرن التاسع عشر :حلاً بديلاً يزيح أهل البلاد ويستعبدهم ، وفى الوقت ذاته ، يبقيهم تحت السيطرة ، بالإضافة إلى أن نهم الرجل الأبيض إلى المزيد من الأراضى لم يعد ملحاً،خاصةً وأن اليد العاملة فى التعدين والصناعة اكتسبت مزيداً من الأهمية بتشجيع من الحكم البريطانى ، وكان الحل الوحيد أن يحافظ الإفريقيون على ملكية جزء من الأراضى ،التى كانت ستخضع،من جديد،للاحتلال، فى الوقت الذى ترسل فيه الحكومة عدداً من مندوبيها لتحمل بعض المسؤوليات الإدارية المطلوبة،وقد أعطى هذا البديل الأساس لمناطق الحزام المخصصة لأهل البلاد ،الأصليين،فالقانون الخاص بتملك أهل البلاد،الصادر سنة 1913، والذى احتج عليه الزعماء الزنوج،بشدة،يخصص بموجبه 7% من أراضى الاتحاد للإفريقيين ،الذين حظر عليهم تملك أراضى خارج تلك المحميات .وفى عام 1936 رفع قانون الملكية،وصندوق الأهالى الأصليين مساحة الأراضى المتاحة إلى 3% ، لكن توضع فى تصرف ثلاثة أرباع شعب البلاد،وكانت تلك الأراضى الأكثر قحطاً،والأقل إنتاجية،أى أن البيض،كى يحافظوا على بقائهم فى جنوب إفريقيا:قاموا بتوجيه التشريعات والقرارات الضابطة نحو: إرغام الأفارقة على التخلى عن الأرض وملازمة سوق العمل، بما يضمن نمو جنوب إفريقيا،والوقت نفسه يحول دون قيام أية معارضة،أو مقاومة لدى هذا الشعب (17).

هكذا نرى بأن كلاً من سياستى إسرائيل وجنوب إفريقيا قد تشابهتا فى أن الطابع المميز لكل منهما تحدده،فى النهاية، الإجراءات التى تتخذ بشكل غير طبيعى،للاستيلاء والحصول على الأراضى، والمحافظة على السلطة فيها،عن طريق الشراء، أو التشريع،والاجتهاد القضائى،أو بالقوة،إضافة إلى الاعتماد على احتلال الأراضى والاستيلاء عليها،بشكل شبه مستمر،وأيضاً،انتزاع الملكية من المواطنين الأصليين(18).
كما أن كلاً من إسرائيل وجنوب إفريقيا استخدمتا وسائل،مباشرة وغير مباشرة،لتحقيق السيطرة السياسية على أهل البلاد الأصليين، بعضها سلبى،مثل المنع والحرمان من الحقوق والحريات السياسية ،والآخر إيجابى ،مثل منح بعض الحريات والحقوق الشكلية (19).
لكن ماذا عن أشكال الاستيطان فى النماذج الاستيطانية الثلاث؟

ثالثاً :أشكال الاستيطان :
تحكم سياسة الدول الاستيطانية إزاء أهل البلاد الأصليين ،بصفة عامة ،اعتبارات كثيرة،أولها عنصرى، يأتى من شعور المستوطنين بالتفوق نحو الأهالى،ولكن الوجه العملى لهذا الاعتبار يظل يكمن فى الرغبة الجامحة لدى المستوطنين فى أن تكون علاقتهم مع الأهالى فى أدنى ما تكون العلاقة: أما الاعتبار الثانى فهو اقتصادى، ينبثق من شعور المستوطنين بقدرتهم على استغلال المواطنين،يداً عاملة رخيصة: ويتمثل الوجه العملى لهذا الاعتبار فى تشغيل الشعب الأصلى عمالاً وخدماً لدى المستوطنين،والغريب أن هذين الاعتبارين ليسا دائماً،منسجمين،ففى حين لا يريد المستوطنون أن يتعاملوا مع المواطنين الأصليين، من منطلق "الطهارة العنصرية"،إلا أنهم مجبرون على التعامل معهم ،سعياً إلى المنفعة الاقتصادية.
إضافة إلى أن سياسات الدولة الاستيطانية إزاء المواطنين – والتى تقع ضمن نطاق هذين الاعتبارين – تختلف فى ما بينها ، حيث ثمة ميل إلى أحدهما دون الآخر،وتتراوح من فترة إلى أخرى،من اعتبار إلى آخر، على أن الثابت فى هذه السياسات،أساس التمييز،المتمثل فى أنها لا تعامل المواطنين معاملة متساوية مع المستوطنين ،فأهالى البلاد الأصليين مواطنون من الدرجة الثانية (20).
اشتركت النماذج الاستيطانية الثلاث فى التمييز العنصرى، على المستويات الاقتصادية،والقانونية،والحقوق الاجتماعية ، التى ترى فى المستوطنين،مواطنين من الدرجة الأولى،أما أهل البلاد الأصليين،أصحاب الأرض،فمواطنون من الدرجة الثانية ،فى أفضل الأحوال.
لقد اتخذ الاستيطان الصهيونى ثلاثة أشكال أولها:الضم؛عن طريق تقسيم المدن العربية بالمستوطنات،وإحاطتها بها،لخلق واقع جديد،وثانيها:التمييز العنصرى،وطرد العرب، بمد المستوطنات اليهودية إلى الأراضى العربية ،وتطبيق إدارة عسكرية إسرائيلية،غاية فى القسوة ،بالمناطق المحتلة.والتى تعمل على تحطيم المؤسسات المدنية الفلسطينية؛أما ثالثهما فهو الاستغلال الاقتصادى:فنتيجة لسياسات ضم الأراضى ،وقوانين استخدام المياه التى تحكم العرب،تدهور قطاع الزراعة،وأصبح المزارعون يمثلون قوة عاملة كبيرة،تدخل إسرائيل نهاراً للعمل،ولا تبيت فيها،ويسافر عدد كبير منهم إلى الخارج ،للعمل، كما تحولت الضفة والقطاع إلى سوق كبير للمنتجات الإسرائيلية،نتيجة لضعف المقدرات الصناعية أمام كل هذا العنت الإسرائيلى ،أضف إلى ذلك أن أجر العامل الفلسطينى لا يصل إلى قرابة ثلث أجر مثيله الإسرائيلى (21).
لقد عمدت إسرائيل إلى ممارسة عمليات القمع،من عقاب وإذلال جماعى،بغلق المنازل،وطرد سكانها،وإيقاف المعتقلين،صفاً واحداً،وصفعهم على وجوههم،ومطاردة القيادات الوطنية الفلسطينية،ومحاولة إزالتها من الضفة والقطاع،بشتى الطرق،فضلاً عن العنف الرسمى،الذى يمارسه المستوطنون من عنف وتخريب،يمران دون مساءلة قانونية (22).

يختلف الاستيطان الصهيونى فى ذلك عن حملات الفرنجة،حيث كان الكيان البشرى للفرنجة محدوداً، من حيث الكم ،ولم يستطع ،من حيث الكيف، تقمص روح الشرق العربى الإسلامى،فلقد كان لهذا الكيان المرتبط بالغرب – رغم بعد المسافةوطول الفترة التى بقى فيها فى الشرق (200 عام – صلات قوية،ولم يستطع ، بل لم يحاول ،التفاعل مع الطقوس المعيشية للشرق العربى الإسلامى ،من حيث المأكل والملبس والسلوك ، لذا ساءت حالة هذا الكيان كلما انقطعت صلاته بالغرب ،بشرياً ومادياً ،وذلك ما دفع الحركة الصهيونية إلى العمل على خلق هوية إسرائيلية،قومية، وشخصية ثقافية خاصة،حتى لو كان ذلك بانتحال تراث الشرق العربى والفلسطينى، وذلك تحسباً لانقطاع المدد البشرى بالمجتمع الغربى الأصل (23) ،أما الدويلات التى أقامتها حملات الفرنجة،والتى اتخذت من الحرب وسيلة لترسيخ كيانها الاستعمارى،فقد تميزت مستعمراتها بعنصرية المستعمر فى أى مكان ،وكان للقادمين الأوربيين قضاء مستقل،هيمن فيه النظام الإقطاعى السائد فى أوروبا.

اشترك الاستيطان – الذى اتصف بالإبادة الكاملة والطرد الجماعى للمواطنين العرب – مع النظام العنصرى فى جنوب أفريقيا، باتباع سياسة الفصل والتمييز العنصرى. فقد أعلن القوميون الأفريكان، منذ توليهم مقاليد السلطة ،عام 1948، عن عزمهم على تنفيذ سياسة "الفصل الجغرافى ،والتنمية المنفصلة" ،وهو ما يعنى المزيد من الشدة فى تطبيق آلاف من قوانين التمييز العنصرى ، وعزم السلطات على السير حتى النهاية فى سياسة الانفصال الجغرافى،التى ترتكز على مبدأ المناطق الحرام المخصصة للمواطنين الأصليين،وهو ما تم فى نهاية الخمسينيات.
تقوم فرضية "الأبارتهيد" فى جنوب أفريقيا على فكرة سمو الجنس الأبيض على الأفارقة،والملونين،والهنود،وذلك لترسيخ السيادة البيضاء إلى الأبد،وهو ما دعمته الكنيسة الإصلاحية الهولندية،بتعزيزه بالأساس العقائدى القائم على أسطورة أن الأفريكانيين هم شعب المختار، وأن السود شعب تابع، وهو ذاته المبرر الذى تسوقه الحركة الصهيونية للاستيلاء على أرض فلسطين (25) وقد عزز البيض هذه الفرضية (البارتهيد) بعدة قوانين:
ففى عام 1950 صدر قانون تصنيف الأعراق الذى يصنف المواطنين على أساس عرقى، وبناء عليه يتم تحديد أمكنة إقامتهم وعملهم، وأين يجوز لهم قضاء العطلة،ومع من يستطيعون إقامة علاقات جنسية .ورغم أن حكومة جنوب أفريقيا ألغت،فى عام 1985،قانون العيب والزيجات المختلطة ، إلا أنها استمرت تعمل بقانون تصنيف الأعراق.فى عام 1950 ،أيضاً صدر قانون مناطق المجموعات،والذى يحدد مناطق بعينها كى تعيش وتعمل فيها أعراق بعينها .وبناءً عليه تم نقل 126,176 عائلة من منازلها، منهم 66%ملون،و32% هندى ، و2% من العائلات البيضاء، ذلك بالإضافة إلى قوانين العبور،التى تحتم على كل إفريقى حمل وثيقة ترخص له التواجد فى المنطقة المحددة له على أساس عرقى .وقد أدى هذا القانون إلى تشتيت عائلات كثيرة.ويشترط القانون الإقامة فى المنطقة المعينة منذ الولادة أو العمل فيها دون انقطاع،لمدة عشر سنوات..بالإضافة إلى الترحيل الجماعى،بالقوة ، للسود،من المناطق المخصصة للبيض.كذلك عانى المواطنون السود من تدنى المستويات التعليمية،بشكل كبير، وانخفاض نسبة الأجور عن نظرائهم البيض (1 – 16) بالنسبة لبعض المهن، أما الأعمال اليدوية فيقوم بها العمال السود،بأجور زهيدة جداً (16).
يلاحظ بأن وضع العمال الفلسطينيين تحت الحكم الإسرائيلى، لا يختلف عن نظرائهم الأفارقة تحت الحكم العنصرى ،فكل منهما ، يعمل فى الطوائف الحرفية الدنيا، اليدوية ،التى لا تتطلب مهارة عالية، أو متوسطة ، إضافة إلى أنه ليس هناك تكافؤ فى مستوى الأجور ،حيث يحصل المواطنون على أجور ضئيلة عن العمل نفسه بالنسبة للمستوطنين، مما ينتج عنه تغيير التركيب الاقتصادى لأهل البلاد الأصليين !.

محاولة للإجابة

لأن تجارب الاستيطان الحديث، فى عمومها ، محاولة لفرض السيطرة الرأسمالية الغربية على العالم ،وبسبب حالة العزلة والمقاطعة وظاهرة الانفصال الحضارى والدينى والتاريخى والتكنولوجى ، فقد دافع ذلك كله اسرائيل ،وجنوب إفريقيا ،معاً ، إلى الارتباط بشعب آخر،أو بمنطقة جغرافية أخرى ،أو بإحدى الدول،لتكون بمثابة الوطن الأم. لقد كانت الدويلات التى أقامها الفرنجة تتمتع بوجود واقعى من الناحية الإمبريقية فحسب، ولم تصبح أبداً ، جزءاً عضوياً من تاريخ المنطقة، فلقد كانت هذه الدول تعبيراً عن ظواهر فى التاريخ الأوروبى ، فى العصور الوسطى، حيث كان ظهور الدويلات الفرنجية ،مرتبطاً بمسار هذا التاريخ ،وظهر بعد ذلك تاريخ المنطقة العربية، عنصراً مضاداً ،حاول وقف مسار هذه الحرية الغربية ،والقضاء على هذا الجسم الدخيل. وقد نجح فى ذلك ، فقد كانت دويلات الفرنجة، على علاقة "عضوية " بالتاريخ الأوروبى ،و"ميكانيكية" بالتاريخ العربى ،وبالطريقة ذاتها وقفت كل من جنوب أفريقيا وإسرائيل ضد التاريخ ، فكل منهما "أمر واقع" وليس "واقعاً تاريخياً" ، حيث لم تكن جنوب أفريقيا ،أبداً دولة أفريقية ، رغم وجودها الفعلى فى أفريقيا ، كما أن إسرائيل دولة أنتجتها ظروف اليهود الاقتصادية والحضارية فى أوروبا و وتمت فى ظل الإمبريالية العالمية ،ذات المصالح فى المنطقة العربية .و برغم وجودها الفعلى فى تلك المنطقة، إلا أنها لا تزال تمثل _ إلى حد كبير – امتداداً عضوياً لتناقضات ومصالح الامبريالية العالمية فى المنطقة.وحتى بعد أن بدأت إسرائيل فى تحقيق بعض الاستقلال عن هذه الامبريالية ،إلا أنها لا تزال تصر على الحفاظ على وجودها "الميكانيكى" "المنفصل" ،حتى يمكن لها الحفاظ على هويتها الفريدة المقدسة ،وهى فى ذلك ترفض الاعتراف بمعنى التطور الاجتماعى، لذا فهى تضفى صبغة صهيونية – كالأفريكانية التى أضفاها المستوطنون فى جنوب أفريقيا على أنفسهم – على الأجيال الجديدة ، باستمرار، لتكون صورة من جيل المهاجرين الأوائل ، بكل رواسبه ،عن ظروف القرن التاسع عشر ، لذا فإن هذه الأجيال ترتبط ،ارتباطاً مصيرياً بالدولة، وتتشبع بالتعصب ،مما يؤكد لديها ولاءً أعمى للدولة، وتصبح "الأجيال" غير قادرة على رؤية المشكلات المعقدة ،فى أبعادها المختلفة مما يساعدها على تبرير الوضع القائم ،وتصبح هذه الأجيال أقل قدرة على تفهم وجهة نظر الشعب الفلسطينى من الأجيال المهاجرة، ذلك بأن هؤلاء يعرفون فى أنفسهم بأن لهم وطناً آخر ،وأن مجيئهم إلى فلسطين يعنى حرمان شعب آخر من أرضه، أما الأجيال الجديدة ،فلا تعى ذلك،أبداً ،حيث أنهم بحكم الميلاد ،ينتمون للأرض التى ولدوا عليها،ولأن المواجهة لم تحدث أمامهم ،فهم يرون بأنهم غير مسئولين عما حدث ،وليس من الممكن إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء (27).
لكن فى ضوء نهاية كل من الاستيطان الفرنجى الأبيض العنصرى،ماذا سيكون مصير الاستيطان الصهيونى فى فلسطين؟
إن إسرائيل لكى تتلافى المصير الذى تعرضت له حملات الفرنجة، فإنها تقوم بدراسة عوامل الرفض العربى للكيان الصهيونى، ومقابلة هذا الرفض بالردع العسكرى(الحروب)، والمعنوى (الغارات الانتقامية)، تصاحبها حرب نفسية، موجهة بهدف الدعاية للدولة الصهيونية ،لتحطيم الإرادة العربية الرافضة ،بالإضافة إلى سعيها للتوسع الاستراتيجى (العدوانى)، فى الوقت الذى تهدف فيه إلى منع تحقق وحدة عربية ،تؤدى إلى قيام اتفاق دفاعى فعال بين الدول العربية المحيطة بإسرائيل، بينما تحاول اختراق هذا السياج المعادى المحيط بها ، بالحديث عن السلام، والسعى إلى عقد اتفاقيات سلام مع الدول العربية ، بينما تحافظ هى على تفوقها العسكرى والتكنولوجى، ولكى تتلافى إسرائيل المصير الذى لاقاه الفرجة ،بعد انقطاع المدد الخارجى، فإنها تعمل على تأمين انتظام الدعم المالى الخارجى ، بالحصول على المعونات الكبيرة من الدول الصديقة ( ذلك أنها تعانى من الفقر الطبيعى فى الموارد والثروات)، ولا تتوانى إسرائيل فى الحفاظ على تدفق الهجرة إليها بشتى الطرق حتى تضمن توافر العنصر البشرى باعتبارها مجتمعاً استعمارياً استيطانياً ،يعتمد على الهجرة فى المقام الأول، وفى حين أنها تسعى إلى الحصول على القبول والشرعية السياسية ، فإنها تبذل كل ما فى وسعها لتصفية الوجود الفلسطينى واحتوائه (28).
برغم ذلك فإن أسباب نهاية الكيان الاستيطانى الصهيونى،يمكن أن تتشابه مع أسباب فشل الحملات الفرنجية، ذلك أنه، مهما حاولت إسرائيل أن تتلافى أسباب نهاية هذه الحملات،إلا أنها ستظل كائناً غريباً فى المنطقة العربية، يحاصره محيط عربى ، يستطيع حال اتحاده أن يتخلص من هذا الجسم الغريب، وليس لذلك بديلاً، فالمنطقة العربية لن تستطيع أن تهضم ذلك الكيان الغريب، أو أن يذوب فى نسيجها ، عكس الحال فى جنوب أفريقيا،ذلك أن الصراع العربى – الصهيونى صراع بين ثقافتين، تقوم كل منهما على نفى وجود الآخر، ولا تعترف به ، ورغم شراسة الكيان الاستيطانى الصهيونى، الذى يفرز أجيالاً أكثر تعصباً وولاءً للدولة الصهيونية، إلا أن هذه الأجيال لا تتفق إلا فى ذلك ، فى حين أن الصراعات الداخلية التى حملها المهاجرون الأول لا تزال موجودة خاصة مع اشتداد الأزمات الاقتصادية ،والنفسية، والأمنية ،التى دفعت كثيراً من المهاجرين الجدد إلى العودة من حيث أتوا ، لذا فإن الكيان الصهيونى يحمل فى طياته أسباب عدم قدرته على الاستمرار إلا أن نهايته لن تكون بالأمر السهل، بسبب دعم الإمبريالية العالمية له، ولن تكون نهايته إلا باتحاد قوى الرفض العربى المستمر له.

الهوامش :
1. حسن السيد نافعة(محرراً) ،المجتمع الدولى والقضية الفلسطينية، معهد البحوث والدراسات العربية،القاهرة،1993،ص87.
2. الحسن بن طلال وآخرون،المستوطنات الإسرائيلية فى الأراضى العربية المحتلة،الأمانة العامة لجامعة الدول العربية،تونس 1986،انظر:م.س أغوانى،أهداف ووسائل وأنماط المستوطنات الإسرائيلية فى الأراضى العربية المحتلة، ص 113.
3. د.نافذ نزال،الاستيطان الإسرائيلى فى فلسطين والمناطق العربية المحتلة،فكر(القاهرة)،العدد الرابع،فبراير/شباط، 1985 ، ص 148.
4. د.صالح زهر الدين،دور الميزان الديمغرافى:سياسة التهجير فى مخطط صهينة فلسطين،الوحدة،الرباط،العدد 93،السنة الثامنة،آيار/مايو 1992 ،ص 54.
5. جيفرى أرونسون،مستقبل المستعمرات الإسرائيلية فى الضفة والقطاع،قضايا المرحلة الأخيرة من المفاوضات (1)بيروت، مؤسسة الدراسات الفلسطينية،حزيران/يونيه 1996،ص 6.
6. د.شاكر مصطفى،من الغزو الصليبى إلى الغزو الصهيونى وبالعكس، شؤؤن عربية (تونس)،العدد 52، كانون أول/ديسمير 1987،ص 18-23.
7. كمال محمد محمد الاسطل، مستقبل إسرائيل بين الاستئصال والتذويب (دراسة حول المشابهة التاريخية بين الغزوة الصليبية والغزوة الصهيونية) ، القاهرة، دار الموقف العربى ،1980، ص 43- 71.
8. مجدى حماد،النظام السياسى الاستيطانى:إسرائيل وجنوب أفريقيا،رسالة دكتوراه،مخطوط،القاهرة،كلية الاقتصاد والعلوم السياسية،جامعة القاهرة،يوليو/تموز 1980،ص 14.
9. الصهيونية والعنصرية – أبحاث المؤتمر الفكرى حول الصهيونية – المجلد الثانى،المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت،الطبعة الأولى، تشرين الثانى/نوفمبر 1977. (انظر:ريتشارد ستيفنز،إسرائيل وجنوب أفريقيا:دراسة مقارنة حول العنصرية والاستعمار الاستيطانى،ص 97.
10. إحسان نزار عطية (معداً)، مصادرة الأراضى فى المناطق المحتلة 1967- 1980،القدس جمعية الدراسات العربية،1980، ص 49.
11. المرجع نفسه، ص 42-45.
12. زهر الدين، مصدر سبق ذكره، ص 51-52.
13. بن طلال وآخرون، مرجع سبق ذكره،(انظر: م.س. اغوانى،سبق ذكره)، ص 114-117.
14. د.هيثم كيلانى،الصليبية والصهيونية:دراسة مقارنة،شؤون عربية (تونس)، العدد 52،كانون أول/ديسمير 1987،ص 38،39،40.
15. محمد خالد الأزعر،النموذج الصهيونى لإدارة الصراع السكانى، شؤون فلسطينية (نيقوسيا)،العدد 196، تموز يوليه 1989، ص 33.
16. كيلانى،مصدر سبق ذكره،ص 42.
17. ستيفنز،،مصدر سبق ذكره،ص 103،104،108.
18. المرجع نفسه، ص 94.
19. حماد، ،مصدر سبق ذكره، ص 240.
20. المرجع نفسه، ص 218-219.
21. بن طلال وآخرون،،مصدر سبق ذكره، (انظر:م.س.أغوانى،سبق ذكره)، ص 120-123.
22. المصدر نفسه، ص 117-119.
23. الأزعر، ،مصدر سبق ذكره، ص 33.
24. ستيفنز،،مصدر سبق ذكره،ص 104-105.
25. نيلسون مانديلا، مسيرة طويلة نحو الحرية/السيرة الذاتية لنيلسون، كتاب الهلال،القاهرة،العدد 534، حزيران يونيه 1995، ص 73.
26. نبيل عبد الحميد حسن ، جمهورية جنوب أفريقيا "ما بعد الأبارتهيد" والتأثيرات المحتملة على سياسة مصر الأفريقية، رسالة ماجستير ، مخطوط، القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 1996، ص 207 – 209.
27. حماد، مصدر سبق ذكره، ص 321- 325.
28. الأسطل ، مصدر سبق ذكره، ص 219 – 255.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. خبراء عسكريون أميركيون: ضغوط واشنطن ضد هجوم إسرائيلي واسع بر


.. غزة رمز العزة.. وقفات ليلية تضامنا مع غزة في فاس بالمغرب




.. مسيرة إسرائيلية تستهدف سيارة مدنية شمال غرب مدينة رفح جنوب ق


.. مدير مكتب الجزيرة في فلسطين يرصد تطورات المعارك في قطاع غزة




.. بايدن يصف ترمب بـ -الخاسر-