الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أثر الفراشة : دراسة في المفهوم والقصيدة

عزالدين بوركة

2014 / 9 / 14
الادب والفن


-أَثر الفراشة لا يُرَى
أَثر الفراشة لا يزولُ- محمود درويش

يبدو (من بعيد) أن كلأ من الشعر والفيزياء، متباعدان وغير قابلين للتلاقي، في أي زاوية من زواياهما.. لكن (وعن قرب) فكل من الشعر والفيزياء، همهما الأول البحث عن الحقيقة (التي تتراءى لهما نسبية في الطرح) عبر معرفيتين/طريقين، مختلفين ومنفصلين، غير متوازيين من حيث المَعْلم العيني. غير أنهما يلتقيان في البعد الماورائي والميتافيزيقي للفلسفة، الحديثة أو القديمة على رأسها أرسطو الذي أعلى من قيمة الشعر كمكمن للحقائق الإنسانية. فالشعر يقدم الحقيقة بطريقة وجدانية وتلقائية وأعمق وأسبر.
تسعى الفيزياء إلى القبض على العالم، فيما يعملُ الشعر على إطلاقه . تسعى الفيزياء إلى تحديد العالم وجعله أسير النظريات، فيما يقومُ الشعرُ بتحريره وبعثرته1 .
وهذا ما تحمل قصائد محمود درويش في عمقها اللغوي والفلسفي والأدبي. في ديوانه/يومياته (أثر الفراشة) الصادر عامه 2008 عن دار النشر رياض الريس اللبنانية، "يأتي درويش هادئا وجافا وباردا وناشفا ورومانسيا للغاية-يطفو ويغوص في اللحظة نفسها. يمكنك دائما، أن تقرأه بروح النكهة الأولى، وعبق النشيد الأول، برائحة الأرض –السراب والطريق الذي- من فرط طوله وروعته- بات غاية في ذاته، يأتيك وامضا بالخوف الدائم على الأشياء الجميلة الذاهبة، ومزيناٌ بغموض ورهبة وجلال ما سوف يأتي من الأشياء".2.
قوة هذه القصيدة لا تتجلى في لغتها وشعريتها فحسب، بل في تقاطعها مع ما هو "فيزيائي" أيضا، إن الرؤيا التي تحمل هذه القصيدة رؤيا فلسفية فيزيائية في المقام الأول حَوَّلها الشاعر -هنا- إلى أبيات شعرية..
في الفيزياء النسبية -وهي فلسفة بالدرجة الأولى- (ما بعد الحرب العالمية الأولى/ وبداية مع اينشتاين وهزينبورغ ) يعدّ تأثير جناح فراشة على الهواء (الضغط) في مدينة هون كونغ، عاملا ، لإحداث عاصفة من الدرجة الأولى (مثلا) في ولاية نيوجيرسي الأميركية.. هذه النظرية (وحين نقول في الفيزياء "نظرية" فنحن نقصد شئاً قائم بذاته ومتصلاً بالعلم ككل، في الآن نفسه) إنها فلسفة بُنيّت على أنقاد الفلسفة الحتمية التي جاءت مع نيوتن، الذي لا يرى بتأثير الجزء على الكل (بل العكس)، بينما الفلسفة الحديثة (ما بعد أينشتاين وبور وهيزنبورغ) وانطلاقا مع هايدغر، والفهم الفيزيائي الحديث، والتكنولوجي، يتضح معه، جليا ومخبريا أن تأثير الجزء (ولو بعيد المدى نسبيا) على الكل، تأثير يُقاس و مؤثر بعمق على بنية الكل..
نظرية "أثر الفراشة" أو تأثير الفراشة، هي نظرية رياضية، فلسفية، فيزيائية، منتمية لنظرية chaos أو ما تعرف بنظرية الفوضى (التي ظهرت بفضل عالم الرياضيت الفرنسي بوانكاري POINCARRE) وهي جزء مشتق منها.
ترى نظرية الفوضى، بفوضى العالم، كأول شيء، وكون النظام مجرد فكر يتعايش بها الكائن/الإنسان، غاية منه لفهم الواقع والكون.. ويتضح الأمر في الهندسة الرياضية، فلدراسة شكل غير اعتيادي (غير مُنظم) نحتاج لتقريبه، للأشكال الاعتيادية الأخرى (المثلث، المربع الدائرة...).. يقول هينري آدمز " كانت الفوضى قانون الطبيعة، فيما كان النظام حلم الإنسان"..
وترى النظرية –أيضا- أن الأحداث التي تُرى متفرقة وغير مرتبطة مع بعضها، ولكن عند جمعها مع بعضها البعض، نجدها تجتمع على حقيقة أن كل هذه الفوضى والعشوائيات ترتبط برابط مثير وخفي غامض، يجعلها غير عشوائية في الباطن أما في الظاهر فتظهر كأنها أحداث عشوائية غير منظمة وفي انفصال تام وليست مترابطة.
في قصيدته يكتب محمود درويشعن أثر الفراشة
-هو جاذبيّةُ غامضٍ
يستدرج المعنى، ويرحلُ
حين يتَّضحُ السبيلُ-
قد حاول البعض، اختزال هذه القصيدة وغيرها، عن وعي أو غير وعي، في العمق اللغوي والشعري والفني (للغة)، متجاوزين، العمق الفلسفي والعلمي، المتدرج والمتبني في القصيدة وغير ها من قصائد درويش..
يقول في قصيدة "وجوه الحقيقة" (ص135) من ديوان "أثر الفراشة" (قصائد اليوميات):
-والحقيقة نسبية
حيث يختلط الدم بالدم
في ليلها
[...]
والحقيقة شخصية
(....)-
في الفلسفة النسبية، التي تنتمي إليها فلسفة الفوضى، المنطوية تحثها نظرية تأثير الفراشة.. ننفي وجود مصطلح أو مفهوم "الحقيقة".. بل هي مجموعة أفكار، تنطلق من إيديولوجيا ما، لتأويل الواقع، من زاوية معينة.. وهذه الحقيقة إنما هي إما جماعية أو فردية/"والحقيقة فردية"/ (م. درويش).. وقد تبنى هذا الطرح عدة فلاسفة القرن العشرين، أمثال "م. فوكو"، الذي يقول بكون الحقيقة هي ملك المنتصر، الذي يمتلك السلطة المطلقة، أو الحاكمة.
يقول درويش في قصيدته "في البيت أجلس"
-الإمبراطور السعيد يداعب اليوم الكلاب
ويشرب الشمبانيا في ملتقى نهدين من عاج
ويسبح في الزبد
الإمبراطور الوحيد اليوم
في قيلولة مثلي ومثلك
لا يفكر في القيامة، فهي ملك يمينه
هي والحقيقة والأبد-
هذا الربط بين الإمبراطور (السلطة المطلقة)، والحقيقة، ما هو إلا فهم كبير للعمق الفلسفي اليومي والمعاصر، لا يمكن، أبدا اختصاره في اللغة والجمال الشعري فقط.
عودة إلى تأثير الفراشة (أثر الفراشة)، وقصيدة درويش، التي يقول في مطلعها:

-أَثر الفراشة لا يُرَى
أَثر الفراشة لا يزولُ-

في عام 1961، وخلال دراسته الاعتيادية لأحوال الطقس، قام "لورنز"، العالم الأميركي، الذي كان يحاول آن ذاك الجمع بين الرياضيات التفاضلية Différentiel، والدراسات الجوية، للتدقيق في الحاصل الحراري، للأشهر الفارطة (ما قبل 1961)، ومحاولة منه للتنبؤ بالحال الجوي، في الأشهر والسنوات المقبلة، بعدما كان سائدا، بكون أن الكون تحكمه الحتمية المطلقة، التي ترى مع نيوتن أن أي تغيير بسيط جدا (لدرجة اعتباره مهملاً) لا يؤثر في العملية الحسابية والكونية/العلمية. بإدخاله لدرجات الحرارة، للأشهر التي عاكف على دراستها منذ مدة، "واختصاراً منه للوقت، قام خلال عملية تلقين الحاسوب الرقمي بالبيانات، بإدخال كسر يتألف من ثلاثة أرقام مجتزئاً بالتالي الأرقام الثلاثة الأخرى التي يمكن للحاسوب استيعابها (506. بدل 506127.). هنا سقطت النتيجة المفاجئة فوق رأس لورنز كالصاعقة. فمع تراكم الأشهر التي عكف «لورنز» على دراستها، وجد أن التباين أخذ في الاتساع حتى انحرف الخط البياني للتحليل بالكامل عن ذلك الذي حصل عليه بإدخال الأرقام كاملة قبل تجزئة الكسر المؤلف من ستة أرقام. وظن في البداية أن خللا ما قد أصاب حاسوبه المحدود السرعة والبدائي نسبة للمعايير المعتمدة اليوم، لكن بعد جهد في محاولة الكشف عن الخلل، تبين له أن الحاسوب سليم ولا يعاني من أي عطل، فصبّ تركيزه حينئذ على اكتشاف خطأ ما في عملية إدخال الأرقام إلى أن تمكن من وضع اليد على مكمن المشكلة. فقد أدرك أن ما قام به من حذف لجزء من الأرقام، ظناً منه أنها غير ذي أهمية لاختلافها بنسبة 1 في المائة عن الأرقام الأصلية، قد أثر جوهريا على نتائج تحليله."-2-
مع هذا الحديث، شهد العالم ميلاد فلسفة جديدة، تندرج ضمن الفلسفة النسبية، سُميت بتأثير الفراشة، التي حاول العلماء تبسيطها كما أسلفنا الذكر، بتأثر جناح الفراشة على ضغط الجوي، وإحداثه لعاصفة جوية..
حين يقول درويش " أَثر الفراشة لا يُرَى"، فلا يمكن عزل هذا البيت عن ما أسلفنا قوله ، التأثير بسيط ويمكن إهماله في الجزء، لكنه لا يزال من الكل، بل يؤثر فيه بشكل كبير ومرئي. إن حركة الإلكترون في الذرة تأثر في حركة الكون ككل، وتحرير إلكترون واحد من درته يجعل منه قابل للالتحام بدرة أخرى ، وإحداث تركيبة جديدة في الدرات المجاورة، وهكذا ودواليك، إلى الوصول إلى التركيب الكوني.. ولا يقتصر الأمر على الفيزيائي والرياضي، بل هو إسقاط أيضا، على اليومي والحياتي للإنسان، وهذا ما جسده المخرج الأميركي "إريك بريس" في فيلمه "تأثر الفراشة" the butterfly effect، بطولة "آشتون كوشتر"، الفيلم الذي بدأه بقولة:
-قيل أن شيئا بسيطا كرفرفة جناح فراشة، يمكن أن يسبب دمارا في أنحاء العالم" (نظرية الفوضى)..

في فيلمه، قام "إ. بريس"، بمعالجة الفكرة، بشكل إبداعي، وفني عالٍ، من حيث اختياراته، للتأثيرات البصرية والصوتية، والحوارية.. ويدور الفيلم حول شخص، مصاب بمرض فقدان الذاكرة المؤقتة، التي تسبب له بإغماءات فجائية، وبعد اكتشافه لطريقة لاستدراك الأحداث السابقة، لاحظ تأثير كل ما يقوم به، وهو عائد للماضي في حلم، على واقعه الحالي، حاول تغيير حياته وحياة أقاربه، ولكنه كلما غيّر شيئا، بسيطا في الماضي، طرأ تغيير جذري في حياته ، لدرجة لا يتمكن من تصديقها... في فيلمه ناقش "بريس" نظرية تأثير الفراشة بشكل يومي وبسيط، لحياة شخص واحد، ومدى تأثيرها في حياة جماعة ككل.
في أبيات القصيدة يصطحبنا درويش لهذا المحتمل، قائلا:
- هو خفَّةُ الأبديِّ في اليوميّ-
ناقشة عدة أدباء وشعراء هذه الفكرة الكونية، ولكن بدون، الوصول للإبداع الشعري، والعمق الذي تحمله هذه القصيدة:
أَثر الفراشة لا يُرَى
أَثر الفراشة لا يزولُ
هو جاذبيّةُ غامضٍ
يستدرج المعنى، ويرحلُ
حين يتَّضحُ السبيلُ
هو خفَّةُ الأبديِّ في اليوميّ
أشواقٌ إلى أَعلى
وإشراقٌ جميلُ
هو شامَةٌ في الضوء تومئ
حين يرشدنا الى الكلماتِ
باطننا الدليلُ
هو مثل أُغنية تحاولُ
أن تقول، وتكتفي
بالاقتباس من الظلالِ
ولا تقولُ...
أَثرُ الفراشة لا يُرَى
أُثرُ الفراشة لا يزولُ!

1- الشعر والفيزياء- جودت فخر الدين
2- أثر الفراشة كأثر الغمام-عبد المجيد عبد الرحمن الحبوب
3- كوكب الإنسان بين جناحي فراشة!.. روني عبد النور








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟