الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تناقضات النفس البشريّة – قراءة في رواية -الإنسان الصرصار- للكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي

كلكامش نبيل

2014 / 9 / 16
الادب والفن


يبرز الكاتب الروسي الشهير مقدرته الفذّة وميزته الأهم في تشريح الشخصيّة الإنسانيّة من خلال رواية مذكرات شخص في منتصف العمر، فعلى الرغم من أنّ رواية الإنسان الصرصار أو رسائل من أعماق الأرض تعتبر رواية قصيرة إلاّ أنّ كل خصائص كاتبنا الكبير بارزة بوضوح وأهمّها بالتأكيد مناقشة أعماق النفس البشريّة، إبراز تناقضاتها وتحليل دوافعها ومشاعرها بدقّة تكاد تكون صادمة في كثير من المواضع. دوستويفسكي بحقّ من أعمدة الأدب العالمي، فهو يخاطبك ويجعلك تنغمس مع ما يكتب، تغوص في سطوره، لتختبر كلّ المشاعر عبر صفحات كتبه، فتارة تضحك، ويصدمك ليتنبّأ بأنّك تضحك الآن، وتارة يغرقك في البؤس والأسى والحيرة. هو يخاطبنا ويجعلنا نقتنع بما يقول ليعود ويطرح فكرة أخرى ويقول بأنّه كان يكذب علينا. في هذه الرواية بالذات تشعر بأنّه يلعب معنا لنصل إلى فكرتنا الخاصّة من خلال تفكيرنا الذاتي في النهاية.

يستعرض الكاتب من خلال هذا الكتاب شخصيّة متناقضة، ربّما كحال كلّ الناس، لا تعرف إن كانت حقودة أم طيّبة، لدرجة نعتقد معها بانّ كل مشاعرنا مصطنعة ولا يوجد شيء حقيقي في هذا العالم، كما أنّ حنق الشخصيّة على المجتمع في القرن التاسع عشر يعمّق فينا الإحساس بأنّ الإنسان المدرك لن يرضى ابدا على عصره، لأنّ كل العصور سيئة كما يبدو وما شوقنا إلى ما مضى أو حلمنا بمستقبل أفضل إلاّ تعبير عن حنقنا الشديد على الحاضر ولكانّ هذا الأمر أزلي كما يبدو ولن يتغيّر أبدا. يناقش الكاتب في الفصل الأول موضوع الحقد والكراهية ويصدمنا إذ يفسّر أغلب ما نقوم به على انّه نابع من حقد وكراهيّة، حتّى أنين وجع الاسنان بل وحتّى الحب المفرط الذي يشبه الكراهيّة في مظاهره، يجعلنا نشعر لوهلة بأنّنا جميعا ساديّون وإن بدرجات متفاوتة. كما يناقش موضوعات تتعلّق بالحضارة الإنسانيّة، ويدين القتل والوحشيّة ولكنّه لا يرى أملا في أن يختفي كلّ ذلك، ولكأنّه يلمّح إلى طبيعة الإنسان الشرّيرة، وهذه الفكرة بحد ذاتها تجعل العديدين منّا يرفضون ما يقول، ولكنّه يبيّن انّ الحضارة لم تجعل الإنسان اقل ميلا للفتك بالآخرين. يغرق الفصل الأوّل بمناقشة موضوع الإدراك والإرادة الحرّة ودوافع الإنسان، وفيما يخصّ الأخيرة يعتقد بأنّ تصنيف العلماء للمصلحة الإنسانيّة وانّ كل شخص لا بدّ أن يفعل ما فيه مصلحته "الخيّرة" دائما غير صحيح، ويعتقد باّن عزوهم لقيام البعض بما يخالف مصالحهم على انّه نقص في الإدراك بأنّه خاطيء هو الآخر، ويقدّم لنا فرضيّة أخرى مفادها أنّ البعض يقوم بما هو ضد مصالحه من أجل التمرّد والحريّة، ولكنّه يعود في النهاية ليقول بأنّ هذه الحالة - هي الأخرى - مصلحة من نوع آخر لا يمكن تصنيفه.

لقد شعرت بأنّ الكتاب يصف شخصيّة لا يمكن للجميع أن يتخيّلها، فهي شخصيّة ناقمة لأسباب كثيرة منها أوضاعها الإقتصادّية وفقدانها للثقة بالنفس فيما يخص مظهره الشخصي، وتميل للإنتقام دائما أو القيام بما يلفت النظر إليها، ويتجلّى ذلك في رغبة الرجل الذي يقصّ علينا المذكرات في ان يصطدم بكتف الضابط في شارع نيفسكي لكي يدلّ على مساواته به، خصوصا بعد أن تجاهله الأخير كالحشرة في إحدى الحانات، فقام بشراء الكثير من الملابس لتحسين صورته وطارد الضابط في شارع نيفسكي في سان بيترسبيرغ حتّى حقّق المرام بأن صدم الضابط بكتفه. وفي موقف آخر، يتجلّى عمق الرغبة في إذلال الآخرين نتيجة شعوره الذاتي بالذل، عندما أقحم نفسه في حفل وداعي لمجموعة من الاصدقاء – ممّن لا يكنّون له التقدير – وأصرّوا على إهانته وردّ هو الإهانة بدوره ولكنّه حاول أن يعتذر فيما بعد لأنّه لا يقدر على تركهم والإبتعاد عنهم، فقام بالإعتذار ليفاجأ بأنّهم لا يعتبرونه قادرا على الإساءة لهم بأيّ حال من الأحوال. ليترك المكان ويغرق في خيالاته الخاصّة بأن يركعوا أمامه ويطلبوا المغفرة وهو ما لن يحصل ابدا.

ينتقل الرجل فيما بعد ليذلّ ليزا، التي تعمل كمومس في ماخور، ويصدمنا دافعه الخفي الذي يسوق إنتقامه في صورة نصائح ومواعظ تحذّرها من مصيرها السيّء عندما يذوي جمالها وتلقى على قارعة الطريق وهي مصابة بالسل، يصف لها القبر المرعب وعدم بكاء أحد عليها، ويغرق في تفاصيل تجعل الفتاة تبرّر كونها كانت في يوم من الايّام محترمة وتعرف الحب المخلص، خصوصا بعد أن يعيب عليها بيعها لأجمل ما يوجد في هذا العالم ألا وهو الحب، فتخرج له رسالة من طالب طب كان قد عشقها وهو لا يعرف شيئا عن حالها الآن، ويصوّر لنا كيف أنّ هذه الرسالة ستبقى كنزها الأثير ودليل براءتها ممّا هي فيه، وبأنّها ضحيّة المجتمع. يكاد يكون حديث الكاتب عن ليزا صدى لحديثه المسهب عن سونيا في رواية الجريمة والعقاب، فهو دائما يشعر بالحزن من أجل المومسات ويبرز نهايتهنّ الحزينة والظروف التي ساهمت في وصولهن إلى تلك المواصيل. لكنّنا نصدم في النهاية عندما تزور ليزا الرجل بعد فترة – خصوصا وأنّه يعطيها عنوانه ويعرض عليها المساعدة كأنّه المنقذ، ولكنّه يبقى خائفا من أن تتحقّق تلك الزيارة. فيقوم الرجل بإهانتها مرّة أخرى ويقول لها بأنّه لم يكن واعظا من أجل مصلحتها بل من أجل تدميرها وإهانتها، وليرد لنفسه الإعتبار بعد ما لاقاه في حفلة العشاء من تحقير، فجاء ليذل شخصا اضعف منه. ولكنّه يخجل من فقره المدقع – ملابسه ومنزله - ومن تعامل خادمه الفظّ معه وإحتقاره الدائم له، فيبكي ويحقد عليها لأنّه بكى أمامها، ويصرّ على تجاهل حبّه لها، ويظهر القسوة والكراهية مرّة أخرى، لينتهي اللقاء بدفعه لها بالمال، لتنجح في تركه في منزله البائس، وتغادر فيتبعها ولا يعرف السبب وراء بحثه عنها.

الرواية تعبير عن تناقضات النفس البشريّة، مشاعرها المتضاربة، رغبتها في خلق صورة لها هي ليست صورتها الحقيقيّة، بل لكأنّ الإنسان لا هويّة محدّدة له، وكل ما يقوم به تصنّع، هي تمجيد لفكرة الحب يتلوه إحتقار له في تصويره بأنّه سلطة وسطوة وإذلال، هي تفسير لحريّة الإرادة يتلوه تعبير عن خوفنا من الحريّة وبأنّنا وما أن نخرق النظام ونحقق رغبتنا في ذلك حتّى نتوق لعودة ذلك النظام ليرشدنا في حياتنا. هي قصّة شخص مهان يرى نفسه أعظم من غيره، يبحث عن تحقيق ذاته، مليء بالغيظ الذي يكتم حقيقته لدرجة الغياب التامّ، هي عرض لشخصيّة قد تكون موجودة بل قد تمثّل الأغلبيّة من دون أن ندري، وقد تكون خطرا على المجتمع لا يدركه أحد ولا يهتم بعلاجه ودفعه للإندماج مع الآخرين من جديد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة الخميس


.. مغني الراب الأمريكي ماكليمور يساند غزة بأغنية -قاعة هند-




.. مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت


.. عاجل.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة غداً




.. سكرين شوت | إنتاج العربية| الذكاء الاصطناعي يهدد التراث المو