الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بحثٌ في أسباب الهزيمة: العداء العربيّ لإسرائيل

زيد عيد الرواضية

2014 / 9 / 19
مواضيع وابحاث سياسية



بدايةً، لا بد من الإشارة إلى أن العودة للتاريخِ القديم والحديث عن الحقّ اليهودي في فلسطين التاريخية من عدمه هو، في ظني المتواضع، ضربٌ من الهذيانِ الذهني، لأنّ البحث في الماضي السحيق كفيلٌ بأن يثبتُ حقّ كل أمه في بلادِ أمم أخرى، وسيثبتُ لنا الكشفُ الأثريّ دوماً أن هناك قوماً "جاؤوا واستقروا قبلنا" لندور في دائرة السؤال الساذج: "من وصلَ هذه الأرض أولاً؟!". أما في حالة إسرائيل، فالأمر يبدو مختلفاً، لأن الشرعيّة التاريخية أمر في غاية الأهميّة من أجل تعزيز الشعور بالهويّة الوطنية والجغرافيّة للشعبِ اليهودي.
لقد عانى اليهود في أوروبا المسيحيّة لأزمان طويلة، والحقيقة أنه لو كانَ هناك في المدن الأوروبية أقليات مسلمة بحجم الأقليات اليهوديّة وتأثيرها لتعرضت لمعاناة لا تقلّ عن تلكَ التي عايشها اليهود، فالعداء لم يكن متعلقاً بالهويّة اليهوديّة بحدّ ذاتها. ولما انتشرت رياح القوميّة في أوروبا برزَ الاعتقادُ بالنقاء العرقي لشعبِ دونَ سواه وسادت مشاعرُ العنصريّة، وواجه اليهود واحدة من أبشعِ جرائم الإبادة الجماعيّة في العصر الحديث على يد ألمانيا النازيّة. وأرادَ الغربُ أن يقدمَ تعويضاً لعذابات اليهودِ التاريخيّة من ناحية، وربما الخلاص من وجودهم في أوروبا من ناحية أخرى فكانت فلسطين، ذلك الحلم القديم.
بعدَ سقوطِ الدولة العثمانيّة واعلان قيام الجمهورية التركية انتهى دور الحاميات التركيّة في الأرض العربية، وسرعانَ ما تلاشت "أحلام" القوميين العرب في استقلالهم، وقعت المنطقة العربية تحتَ المحتل الأوروبي، وبدأت موجات الهجرة إلى فلسطين، وظهرت بداية الصراع المسلح بين العرب والقادمين الجدد، واستمرّت بريطانيا بدعم اليهود في فلسطين حتّى قيام دولة اسرائيل وتحقيق الحلم القديم، ثمّ حلت الولايات المتحدة الأمريكيّة محلّ بريطانيا داعمةً لإسرائيل، ودخلَ العرب في حروب مصيريّة مع "العدو"، وقادت الهزائم التي مُني بها العرب على يدِ الإسرائيليين إلى حالة من اليأس في الأوساط العربيّة، فظهر جيلٌ يمكننا أن نطلقَ عليه اسمَ "جيل الهزيمة"، حيثُ عايشَ هذا الجيلُ الحلم ورأى الجيوش العربيّة تتحدُ لمحاربةِ اسرائيل، وصدّقَ أكاذيب "الراديو" عن انتصارات الجيوش العربية المذهلة، ليصحو على وقعِ الهزيمة وليكتشفَ حجم الخديعة، وكأنها تلكَ التي عبرَ عنها الروائي والشاعر الأردني تيسير سبول في قصيدة كتبها قبيل انتحاره: "أنا يا صديقي أسيرُ مع الوهم أدري أيمم نحو تخومِ النهاية...". وتحتَ تأثير الخيبة بدأ هذا الجيل يحاولُ فهم أسرار الهزيمة، فطفقَ يقرأ التاريخ الإسلامي وبدأ يقدمُ نقداً قاسياً للذات، وظهرت تيارات فكريّة متشددة بعضها تنويري يدعو إلى القطيعة من الماضي والالتفات غرباً، وأخرى رجعيّة تذكرنا بأنّ الله "يبتلي المؤمنين" ويمتحن أولياءه" وأنه لا سبيلَ لنا إلا بالعودة إلى الله، "فالإسلام هو الحلّ"، وتصارعت هذه التيارات وكانت الغلبة للجهل في أغلب الأحيان.
في أثناء ذلك كانت اسرائيل تبني دولةً بحجم الحلم، واستغلت عذابات الأجداد في أوروبا في كلّ المحافل، ولم يتركْ الإسرائيلي فرصةً للظهور الإعلامي في لندن وواشنطن ليخاطبَ الجماهير بلغة واثقة وذكاء شديد، في حين كان العربي لا "يتشرفُ" بالجلوسِ تحتَ نفسِ السقف وعلى نفسِ الطاولة التي يجلسُ عليها "الصهيوني"، وبهذا كان الإسرائيلي يظهر للعالم بمظهر المتحضر المستعدّ دوماً للحوار، بينما ظهر العربي بصورة الهمجيّ الخارج من الغابةِ للتوّ. واكتملت الصورة حينَ بدأ فلسطينيون بلفتِ أنظار العالم إلى قضيتهم من خلال قتل أناس أبرياء في ميونخ وخطف طائرات مدنية وإنزالها في الصحراء الأردنيّة وتهديد حياة مدنيين أبرياء لا ناقةَ لهم ولا جمل في هذا الصراع.
وكانت إسرائيل في أثناء ذلك تبني دولةً بحجم الأمل، واضطرَ السادات للاحتكامِ إلى العقل فوقعَ اتفاقية كامب ديفيد، وفعلها الملكُ الأردني الحسين بن طلال المعروف بحكمته ودهائه في معاهدة وادي عربة، قتلَ الإسلاميون الأولَ، ولم يسلم الثاني إلى اليوم من الاتهامات الساذجة بالعمالة والخيانة، وما زالَ الإسلاميون وبعضُ التيارات المفصولة عن الواقع يطالبون بإلغاء معاهدة السلام والعودة إلى سنيّ العداء الهزليّ مع اسرائيل.
ثمَّ ظهرَت الثورات العربيّة وشهدنا مجازر متوحشة يمارسها العربي ضدّ أخيه العربي الذي يشاركه اللغة والدين والثقافة والوطن، وتحولت بعضُ الدول مثل العراق وسوريا وليبيا إلى دول فاشلة لا يمكن للحيوان فيها أن يشعر بأمان ناهيكَ عن الإنسان في حين ينعمُ المواطنُ الإسرائيلي بالأمن ويهنأُ بدفء الوطن، لكنّ أمراً ما يستحقُّ الملاحظة، وهو أن العرب لا يحتجَّونَ على مجازر إخوانهم العرب ضدّ العرب أنفسهم بقدر ما يتداعونَ حينَ تشنُّ اسرائيل حروبها، يناضلُ الجميع ضدّ "بني صهيون" على الفيس بوك، ويعمدون إلى تغيير صورة الصفحة الأولى ويتبادلونَ التهاني حينَ يؤسرُ جنديّ اسرائيلي واحد في مقابلِ مئات الأبرياء من الأطفال والنساء الذين قضوا في غزة، وهذا يدعونا إلى الاعتقاد بأن العداء لإسرائيل لا علاقةَ له بالفعل بل بهويّة الفاعل، نحنُ لا نحتجُّ على الجريمة ضدَّ العربي مادام مرتكبها عربيّاً، لكننا لا نقبلها من إسرائيل، وهذه الازدواجية في المعايير تنمُّ عن أزمة أخلاق شديدة الخطورة، فالجريمة في كلّ مكان هي الجرمية، والإنسانُ في كل مكان هو الإنسان.
حينَما وضعت حربُ اسرائيل المتوحشة على غزّة أوزارها بعدَ أن دمّرَتِ المدينة وقُتل أكثر من ألفين إنسان وجرحَ أكثر من عشر آلاف، احتفل الناسُ في البلادِ العربية بهزيمة اسرائيل في وجه المقاومة، مما يجعلنا نتساءل ببراءة شديدة: أي نوع من الحشيش تتناوله هذه الشعوب؟ لم يبقَ بيتٌ في غزة دونَ قتيل أو مقعد أو مصاب، ولا أظنُّ أن هناك طفل في غزّة لا يعاني من أزمة نفسية سترافقه طوال العمر، ويتحدّثون عن النصر؟! إن كانَ هذا هو النصر، فكيف تكونُ الهزيمة؟
لا أحد ينكرُ أن إسرائيل تمارسُ القوة بوحشية حينما يتعلقُ الأمر بأمنِ مواطنيها، ولا ننكرُ أيضاً أنها لا تكفُّ عن استثمارِ عذابات الأجداد اليهود في كل مناسبة، ولكن في المقابل علينا أن نعرف بأن الشعوب العربية تبني قصوراً من الوهم، وتفترضُ بأنَّ الله سيرسلُ "طيرَ الأبابيل" لنصرتها متى شاءت، وتستثمرُ طبقة من "السياسيين والمثقفين والفنانين" هي الأخرى عذابات الأطفال الأبرياء في غزة لتحقيق مكاسبَ ذاتية بانتهازيّة دنيئة للغاية.
الشعوب العربية شعوب عاطفية بالطبيعة، وعداؤها لإسرائيل نابعٌ من القلبِ والشعور لا من العقل والمنطق، وقد حانَ الوقت لأنَّ نضعَ عواطفنا جانباً ونستفيدَ من دروِسِ الهزائم الطويلة ونتعلمَ من اسرائيل كيفَ نبني جامعاتٍ تحتضن البحثَ العلميّ وتسهمُ في إنتاج عقول تفكرُ وتبدع لا ظواهر صوتية تثرثر وتجعجع، علينا أن نعلّمَ منها كيف نروج للسياحة ونحافظ على الآثار. وهذا أمرٌ قد يعتبره البعضُ دعوةً للتطبيع، وليكن كذلك، فنحنُ في واقعِ الأمر محتاجون للتطبيعِ مع الحياة ومع الواقع في انتظار يوم قريب بعيد تأتي فيه أجيال أخرى أقل منّا شهوةً للدماء، تنزع عنها رداء الحقدِ والكراهية والعنف وتبصق على حماقتنا، أجيال تفهمُ أسرار الأرض أفضل منا، وتدركُ أن الإنسان أقدسُ ما في الوجود.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فلسطينيون يرحبون بخطة السداسية العربية لإقامة الدولة الفلسطي


.. الخارجية الأميركية: الرياض مستعدة للتطبيع إذا وافقت إسرائيل




.. بعد توقف قلبه.. فريق طبي ينقذ حياة مصاب في العراق


.. الاتحاد الأوروبي.. مليار يورو لدعم لبنان | #غرفة_الأخبار




.. هل تقف أوروبا أمام حقبة جديدة في العلاقات مع الصين؟