الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حرب البدا ئل وسقوط الائتلاف الحاكم في اوكرانيا

جورج حداد

2014 / 9 / 20
مواضيع وابحاث سياسية


جورج حداد*

يتضح اكثر فأكثر ان معركة اوكرانيا ستكون حربا طويلة الامد، كالحروب الاقليمية العربية وغيرها التي سبق واندلعت في لبنان وافغانستان والعراق وسوريا وغيرها. وبالرغم من سياسة "ضبط النفس" التي تمارسها كل من روسيا واميركا والاتحاد الاوروبي، لا يلوح في الافق حتى الان اي بارقة أمل بأي حل قريب او متوسط او حتى بعيد المدى.
وبعد ان استرجعت روسيا بسرعة قياسية شبه جزيرة القرم وباشرت فورا عملية توحيدها السياسي والاقتصادي والاداري وتحويلها الى قاعدة ستراتيجية متقدمة تحشد فيها كل انواع الاسلحة الدفاعية والهجومية، البرية والجوية والبحرية، ولا سيما الصواريخ الباليستية والقاذفات بعيدة المدى والغواصات، النووية كلها، في مقابل صمت العجز الكامل لاميركا والاتحاد الاوروبي وحلف الناتو حيال ذلك، ـ بعد ذلك كله يتأكد تماما عدم استعداد وعدم رغبة "المعسكرين"، الروسي والغربي، في المواجهة الساخنة، على الاقل في المرحلة المنظورة.
ولكن في المقابل، فإن المعركة الاوكرانية تنطبق عليها تماما مفهومة "الحرب الاقليمية" او "حرب البدائل". وذلك بدوافع الزامية من قبل "المعسكرين":
فمن جهة ـ لا تستطيع روسيا ان تتحمل ان تكون اوكرانيا دولة معادية لها، وان تتحول الى قاعدة عسكرية غربية ضدها. وذلك لاسباب جوهرية عديدة جدا، تاريخية وقومية ودينية وسياسية واقتصادية وستراتيجية. وتعتبر روسيا ان "اخذ" اوكرانيا يرادف "اخذ" ارض روسية. وفي الماضي حينما توجه نابوليون لاخذ موسكو، احرق الروس موسكو. والان فإن روسيا مستعدة لان تحرق نفسها وتحرق العالم ولكنها لا تسمح بأن "تؤخذ". وهذا ما يدفع روسيا لان تدعم انصارها وحلفاءها الروس ـ الاوكرانيين الى ما لانهاية، ولكنها لا ترضى بأن "تؤخذ" منها اوكرانيا.
ومن جهة ثانية ـ فإن الغرب فشل في السيطرة الاقتصادية على روسيا بعد فتح ابوابها على مصاريعها في عهد غورباتشوف ويلتسين، وانهيار الاتحاد السوفياتي السابق. كما ان روسيا صمدت اقتصاديا بعد اندلاع الازمة المالية والاقتصادية في اميركا والعالم سنة 2008. والان تشير كل المعطيات ان روسيا بدأت هجوما معاكسا، على الجبهة الاقتصادية العالمية، اصبح هو العمود الفقري للسياسة الخارجية الروسية.
وهذا يعني ان الكتلة الغربية بزعامة اميركا لا تواجه، بشخص روسيا، دولة كيوغوسلافيا السابقة او عراق صدام او افغانستان طالبان. واذا كانت الكتلة الغربية عاجزة عن "اخذ" روسيا عسكريا، فهي ايضا عاجزة عن اخضاعها اقتصاديا. والعقوبات الاقتصادية على روسيا سيكون لها مفعول عكسي تماما، لان الكتلة الغربية لا تستطيع في نهاية المطاف "الاستغناء" عن روسيا، اما روسيا فعلى العكس تماما، من مصلحتها على المدى المتوسط والبعيد "الاستغناء التام" اقتصاديا عن الكتلة الغربية، والتوجه نحو اقامة سوق عالمي بديل، يتمحور حول "مجموعة دول البريكس" و"منظمة شانغاي".
ولا بد ان نذكر هنا ان الازمة الروسية ـ الاوكرانية ذاتها بدأت سنة 2008 بالخلاف على اسعار الغاز وعلى تصدير الغاز الروسي الى اوروبا عبر اوكرانيا، اي بدأت بالتحديد على الجبهة الاقتصادية. وقد ردت روسيا على تلك الازمة، ردا رئيسيا وحاسما، ليس بالدبابات والطائرات والضغط السياسي، بل بتقرير "الاستغناء" عن الممر الاوكراني، وانشاء المشروعين العملاقين لتوريد الغاز الروسي الى اوروبا بواسطة خط انابيب "السيل الشمالي" عبر بحر البلطيق، وخط انابيب "السيل الجنوبي" عبر البحر الاسود. وتعمل روسيا الان بشكل حثيث لتعزيز حضورها المالي والتجاري عالميا، وخصوصا لتعزيز الروابط بين دول منظمة البريكس والدور العالمي لهذه المنظمة، ومن خلال ذلك تسعى روسيا الى اعتماد الروبل وغيره من العملات الوطنية في التعاملات الخارجية والاستغناء عن الدولار واليورو، وهو ما سيؤدي بالتدريج الى تقليص دور الدولار خصوصا وزعزعة الهيمنة الاقتصادية لاميركا، وهي اساس الهيمنة العالمية. وهذا أخشى ما تخشاه اميركا. والدول الاوروبية تضطر اضطرارا الى مسايرة اميركا، حتى ضد مصالحها الخاصة المباشرة. ولهذا عملت اميركا على افشال اتفاق الرئيس السابق (اللاجئ الان الى روسيا) فكتور يانوكوفيتش مع المعارضة، في 21 شباط الماضي، على تحقيق حل سياسي للازمة الاوكرانية وتطبيق اصلاحات داخلية، وانتهاج سياسة خارجية، يرضى عنها الجميع. وقد كان ذلك الاتفاق برعاية روسية ـ اوروبية. ولكن الاتفاق لم يأخذ طريقه الى التنفيذ، لان "حلفاء" اميركا قاموا بانقلاب مسلح، وعينوا رئيسا مؤقتا ووزارة من المعارضة، بدلا من وزارة وفاق وطني كما كان متفقا عليه. وبالنتيجة فتحت اميركا هذا الجرح العميق في اوكرانيا، ، والهدف منه بالتحديد هو ايجاد بؤرة ملتهبة، وفي خاصرة روسيا تماما، من اجل ايجاد حالة استنزاف وتهديد دائمة لها، والضغط عليها، وكبح هجومها الاقتصادي الاوروبي والعالمي.
وفي هذا السياق جاء اسقاط الطائرة الماليزية المنكوبة ليصب الزيت على النار في الازمة الاوكرانية، وليضاعف بشكل ثقيل جدا الضغوط الغربية على روسيا.
ويذكر انه قد سبق اسقاط هذه الطائرة اختفاء غامض لطائرة بوينغ ماليزية اخرى في شهر نيسان الماضي فوق بحر الصين. وهذا يدفع الى التساؤل:
ـ هل كان المقصود هو طائرات البوينغ الماليزية بالذات، وان اوكرانيا لم تكن سوى "ساحة تنفيذ" ملائمة؟ وبالتالي فإن علاقة اوكرانيا بالجريمة والكارثة هي علاقة ثانوية!
ـ أم كان المقصود مفاقمة تعكير اجواء الحرب الاوكرانية، وقصف البوينغ الماليزية هو "صدفة"، وكان يمكن ـ ولنفس الغرض ـ ان تكون بدلا منها اي بوينغ اخرى او اي طائرة مدنية اخرى لاي دولة اخرى؟
ولكن سواء كان هذا الافتراض او ذاك، فالمؤكد انه قد جرى على الفور "أكرنة" كارثة الطائرة الماليزية، واستخدامها كأحد عوامل التصعيد في الحرب الاوكرانية الدائرة ورفعها الى مستوى التدويل.
وبمراجعة اضبارة الكارثة يكتشف المراقب بسهولة ان الرئيس الاوكراني الذي انتخب في اعقاب الانقلاب الاميركي في كييف، بيوتر بوروشينكو، وكأنه كان ينتظر الحدث قبل وقوعه. فقبل ان يصل حطام الطائرة المنكوبة الى الارض، سارع بوروشينكو الى التصريح بأن الثوار الموالين لروسيا في شرق اوكرانيا هم الذين قصفوا الطائرة بصاروخ "بوك"، وانه يملك صورا جوية تؤكد امتلاك اولئك الثوار للصواريخ وتواجدها في المكان ساعة وقوع الكارثة. وهذا يعني عمليا ان "الثوار" سبق وانتزعوا بعض منصات صواريخ "بوك" من الجيش الاوكراني. ولكن قيادة الجيش الاوكراني سارعت فورا للتأكيد ان "الثوار" لم ينجحوا في انتزاع اية صواريخ "بوك" من الجيش. فعاد بوروشينكو و"صحح" تصريحه متهما روسيا بتزويد "الثوار" الموالين لها بصواريخ "بوك". وهذا ما تمسكت به واكدته ادارة الرئيس الاميركي اوباما، التي استندت الى تصريحات بوروشينكو لاتهام روسيا بتدبير قصف الطائرة الماليزية المنكوبة وطلب فرض عقوبات اقتصادية جديدة عليها. وطبعا كانت الادارة الاميركية "اكثر تذاكيا" من بوروشينكو فأكدت ايضا ان صواريخ "بوك" هي من انتاج روسي، متناسية ان الجيش الاوكراني يملك هذه الصواريخ التي هي فعلا من انتاج روسيا. وظلت ادارة اوباما متمسكة بهذا الموقف، بالرغم من ان المخابرات المركزية الاميركية ذاتها اكدت انه لا توجد براهين على ضلوع روسيا في الجريمة، وان الصور التجسسية من الاقمار الاصطناعية لم تسجل عبور (دخول او خروج) منصات صواريخ "بوك" للحدود الروسية ـ الاوكرانية؛ وان المنصات الصاروخية التي كانت موجودة في مكان وقوع الحادث كانت تعود للجيش الاوكراني فقط. وبهذا الصدد تساءلت وزارة الدفاع الروسية: لماذا نشر الجيش الاوكراني صواريخ "بوك" (المخصصة لضرب الاهداف الجوية) في المنطقة قبل وقوع الكارثة، علما ان "الثوار" لا يملكون طيرانا حربيا؟ ولماذا تم سحب تلك المنصات فورا بعد وقوع الكارثة؟
وطبعا انه لا واشنطن ولا كييف ردتا على التساؤلات الروسية. ولكن الجيش الاوكراني كثف قصفه بالمدفعية والطيران للمنطقة التي سقطت فيها الطائرة، معرقلا لايام وصول المراقبين الدوليين الى المنطقة، خصوصا بعد ان اعلن "الثوار" عثورهما على الصندوقين الاسودين للطائرة المنكوبة، ورفضهم تسليمهما لسلطات كييف، والاصرار على تسليمهما للمراقبين الدوليين.
وخلال هذا الاحتدام الميداني والسياسي، الاقليمي والدولي، أعلن تنظيمان رئيسيان من المعارضة السابقة هما حزب "أودر" وحزب "سفوبودا" بالاضافة الى 19 نائبا مستقلا (موالين للاتحاد الاوروبي) انسحابهم من الائتلاف الحاكم المسمى "الخيار الاوروبي"، الذي فقد بذلك الاكثرية الدستورية المطلوبة، فأضطر رئيس الوزراء (الموالي لاميركا) ارسيني ياتسينيوك لتقديم استقالة الحكومة. وكان ياتسينيوك قد تقدم من البرلمان بطلب زيادة تمويل الحملة العسكرية ضد شرق اوكرانيا، وبخصخصة 49% من شركة "نفطوغاز" والسماح للشركات الاوروبية والاميركية بالمساهمة فيها. واعلن ياتسينيوك انه تقدم باستقالته احتجاجا على رفض الموافقة على اقتراحاته. وفي الوقت ذاته صرح سيرغيي سوبوليف رئيس الكتلة البرلمانية لحزب "الوطن" اليميني المتطرف (حزب رئيس الوزراء المستقيل) ان الذين انسحبوا من الائتلاف الحاكم، ولا سيما حزب "أودر" الذي يتزعمه بطل الملاكمة العالمي كليتشكو الذي تدعمه اوروبا ولا سيما المانيا، هم من صنائع الاوليغارشي ـ الملياردير الاوكراني المعروف ديميتريي فيرتاش، المعتقل الان في النمسا بطلب اميركي بتهمة الفساد والجريمة المنظمة، والمرتبط ارتباطا وثيقا بتجارة الغاز في اوكرانيا وعبرها، والذي يتهمه سوبوليف بأنه من انصار الرئيس السابق فيكتور يانوكوفيتش ومن اعوان روسيا. وهكذا يبدو بوضوح ان الحرب الاوكرانية والازمة الاوكرانية كلها تلف وتدور حول القضايا الاقتصادية ولا سيما انابيب نقل الغاز الروسي الى اوروبا، وهو ما يكاد يطير له صواب اميركا.
هذا وقد عين البرلمان نائب رئيس الوزراء فلاديمير غرويسمان بصفة القائم باعمال رئيس الوزراء مؤقتا. وأعلن انه في خلال 30 يوما من تاريخ استقالة رئيس الوزراء، واذا لم يتم تشكيل ائتلاف حكومي جديد يؤيده نصف عدد النواب زائدا واحدا (اي 226 نائبا) فإن الرئيس بوروشينكو ملزم بحل البرلمان وتحديد موعد انتخابات مبكرة جديدة.
ويقول بعض المراقبين الان: ان الطائرة الماليزية المنكوبة اسقطت الحكومة الاوكرانية، وربما تسقط البرلمان، وربما تسقط الرئيس بوروشينكو ايضا. وان الهدنة الهشة الحالية لن تكون اكثر من فترة استعداد لجولة عنف اكثر شدة. وانه من المرجح ان الحرب في شرق اوكرانيا ستمتد الى وسطها، ولا سيما الى كييف، خصوصا وان "حزب الاقاليم" (الذي كان يترأسه ولا يزال الزعيم الفعلي له رئيس الجمهورية الشرعي المعزول: فيكتور يانوكوفيتش) والذي لا يزال يؤمن الى الان بايجاد حل سلمي للازمة الاوكرانية، اصبح من المرجح ان يعمد هو ايضا الى اشهار السلاح، علما انه يمتلك رصيدا كبيرا في الجيش والشرطة والمخابرات، ولا سيما في صفوف الجنرالات وكبار الضباط، الذين يجدون انفسهم مسؤولين عن مصير بلادهم التي ضحى آباؤهم واجدادهم بارواحهم من اجل انقاذها من القوى الفاشستية التي تتحكم اليوم بمصير اوكرانيا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحظ يبتسم لمنتخب فرنسا في ضربات الترجيح ويتأهل لنصف نهائي ك


.. تطورات مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة.. إليكم ما نعلمه حتى ا




.. مصر ومؤتمر الأزمة السودانية.. تحديات ملحّة تدفع للتحرك الفور


.. كيف يبدو المشهد في تل أبيب؟




.. تركيا.. طلاب جامعة ميديبول يتضامنون مع غزة في حفل التخرج