الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سيلويت

شيرين يوسف

2005 / 8 / 18
الادب والفن


صباح آخر في مدينتنا ، و رصيف محطة القطار مزدحم بالغرباء ، أبصرته و معطفه الأسود الثقيل يخفي نصف وجهه و حذائه الشتوي ذو الرقبة المرتفعة كنهار معطل و حقيبته ترتجف تحت قفازه الأسود ، بالفعل الطقس بارد و خامل فلا ريح تهز الغيمات فتمطر و لا هبة ساخنة من رياح الخريف تخمد هذا الصقيع ، أبصرته يعدو متجاوزاً كل الوقوف ، انفتحت حقيبته فجأة و انفرطت أسراره على الأرض !!

عشرات من الصور و اللوحات الصغيرة ، و صوت تكسر زجاج ، إنه برواز بلون الفضة المؤكسدة تفر من بين أنيابه صورة مرسومة بطريقة السيلويت ،لا أدري ما الذي دفعني للاقتراب منه و محاولة التقاط تلك الصورة بالذات على الرغم من أن جميع الواقفين لم يفكروا حتى في متابعته و هو يلملم أشياءه ، ناولته الصورة و تمكنت من رؤية وجهه على نحو صريح و دخان سيجارته يصطدم بوجهي ، سعلت على نحو منخفض ، فأنا أكره رائحة التبغ ، رأيت عينيه العسليتين من تحت منظاره الطبي الأنيق و شاربه و لحيته الدقيقة التي يغازلها الشيب ،لا أدري لماذا أدركت أنه ربما عازف بيانو أو رسام أو ربما روائي يعشق الكلاسيكيات فهيئته تشي بذلك ، " أسف آنستي .. لم أقصد مضايقتك بسيجارتي أشكرك على لملمة الصورة و أعتذر لما سببه لك البرواز من جرح " انتبهت إلى خيط الدم النازف من إبهامي و هم يحاول إيقاف النزف بمنديله الأزرق و شعرت باحمرار وجنتي الذي ربما تجاوز حمرة قطرات الدم التي غمرت المنديل ، و سارعت بالقول " لا عليك .. فقط أعجبتني الصورة و لم أتخيلها تطير مع هبة ريح خريفية ربما تأتي " ضحك بدهشة و قد تجمد الدم تقريبا في عروقي من فرط الخجل " الحمد لله .. توقف النزف الآن ، يمكنك الاحتفاظ بالصورة إن رغبت و لكن بعد تنفيذ الشرط " دهشت " أية شرط؟! " ، قال " أن يحوي البرواز صورة أخرى أكثر جمالا ً.. هل تسمحي لي برسم وجهك على طريقة السيلويت ؟! "

كانت الصورة التي يحويها البرواز لمقطع جانبي لوجه امرأة حسناء فباغتته بسؤالي " كيف أوافق على شرط لا أمتلك تنفيذه ؟! " ابتسم و تلاشت عيونه مع ارتفاع وجنتيه النحيلتين " فقط اجلسي لبعض الوقت دون حركة " امتثلت و بدأ برسم اللوحة و سيجارته على جانب فمه و غطت يقظتي في شرود يا ترى من صاحبة الصورة ؟! وكز شرودي بسؤاله :" يا ترى ماذا سنسمي الصورة !؟" أجبت دون تفكير :" دخان " . تعجب و رفع حاجبيه و خلع منظاره الطبي و توقف عن إتمام الصورة و كرر " دخان !!!" قلت :"نعم كتلك اللحظة ... كل اللحظات الحلوة أخالها دخان يتطاير بعد ثوان ٍ " تابع الرسم قائلا ً :" جميل جداً أن تتبخر تلك اللحظات فإنها إن تكررت لن تبقى في الذاكرة لحظة حلوة .. ستموت بالاعتياد .. انظري مثلا ً لتلك اللوحة التي بين يديك رسمتها منذ نحو عامين و أنا في مدينة أوروبية و بيني و بين أرضي ساعات من الغربة و الوجع كنت يومها في المشفى أتعافى ، و باغتتني تلك المرأة بزيارتها فأنا لا أعرفها و لم أرها من قبل ، و تركت باقة من الزهور إلى جواري دون أن تنبث ببنت شفة ، تكرر هذا المشهد ثلاثة مرات ، أستيقظ عند الصباح و أجد باقة الورد حتى انتظرتها ذات مرة و جاءت و سألتها و هربت و لم تأت ِ انتظرتها طويلا ً ثم سألت عنها الممرضة فأخبرتني أن تلك المرأة مات زوجها على ذات الفراش و قد اعتادت زيارة كل مريض يأتي إلى هنا و تهديه الزهور ، صدقيني تمنيت وقتها أن تعود و لكنها و حتى غادرت المشفى لم تأت ِ ، و حين تماثلت للشفاء و عدت إلى بلدي رسمتها دون أن تكن جالسة أمامي ، أخيرا ً هاهي لوحتك قد اكتملت .." نظرت إلى اللوحة إنها بالفعل صورة طبق الأصل لملامحي على طريقة السيلويت طلبت منه أن أحتفظ بها إلا أنه ذكرني بالشرط ، و في تلك الأثناء انطلق صفير القطار و غادر الرصيف و فاتتني الرحلة و هو ظل يبتعد و يغيب كالدخان ...

______________________
السيلويت: نوع من الفنون يعتمد على استعمال اللون الأسود على خلفية بيضاء لإظهار عظام الوجه و تقاسيم الجسد و يطلق عليه أحيانا التصوير التضادي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. برنار بيفو أيقونة الأدب الفرنسي رحل تاركًا بصمة ثقافية في لب


.. فيلم سينمائي عن قصة القرصان الجزائري حمزة بن دلاج




.. هدف عالمي من رضا سليم وجمهور الأهلي لا يتوقف عن الغناء وصمت


.. اختيار الناقدة علا الشافعى فى عضوية اللجنة العليا لمهرجان ال




.. صباح العربية | نجوم الفن والجماهير يدعمون فنان العرب محمد عب