الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هامش للحياة

بن جبار محمد

2014 / 9 / 23
الادب والفن


بالقرب من المقبرة المسيحية التي تحاذي المزرعـة النموذجيـة رأيت تجمع كبير لعمال البلديـة و جمهـرة لمواطنين فضـوليين و عدد من سيارات الشرطـة و مسؤولين محليين على رأسهـم رئيس الدائرة ، يخرجـون رفاة الموتـى من المقبرة و يضعـونها داخل شاحنـة مغطـاة ، توقفت لحظـة ، فرأيت عمـي الجيلالـي يتـابع المشهـد ، أقتربت منـه وسألتـه عن هـذه العملية التي لا تخطـر على بال أحد ، قال لي بآسى يا صديقي عـواد ، حتـى الموتـى لـم يسلمـوا من الإساءة إليهـم ، هـذه المقبرة طـالهـا التخريب ، تخريب شـواهد القبور و نبشها و إخراج عظـام الموتـى الهشة من التوابيت الخشبيـة و البحث عن مـادة يزعـم البعض أنهـا ثمينـة ، الإسـاءة إلى الموتـى الأروبيين بلغت درجـة من الهمجيـة ، حتى بعض النفـوس المريضـة يزعمـون بتطهير هـذه الأرض من المسيحيين بإعتبارهـا أرض الإسـلام ، خربـوا الإنسان فينا ، دمروا الحياة ، قتـلـوا الأحياء ، هــاهـم الآن لم يجدوا سـوى الموتـى ليرحّلـونهـم من هـذا البـلد الذي أتسـع لكل الأمم و الحضارات ، كان عمي الجيلالـي يتحدث و شفتيـه ترتجفـان ، في هـذه المقبرة كان لـي أصدقـاء تقاسمنـا كثير من همـوم الحياة ، في هـذه المقبرة كانوا أحبائي من الأروبيين الذين عشقـوا شمسنا و هـواءنا و رائحـة الأرض و أحبـوا جزائر الحريـة و نـاضلـوا سرا و عـلنيـة وعُذبوا كما عذبنا و تحمّلوا كما تحملنـا ، مخطيء من يضع الأجانب في سـلّة واحدة ، بقيت مشدوهـا و أنا أتابع حمل الرفاة ، كأن هـذه الأرض ضاقت بنا جميعـا . أستأذنت صديقي و أنـا أشعـر بالمرارة . مرارة السنين التي تدفـع بنـا نحـو عـالم مجهـول لا يشبهنـا ، بالأمس في هـذه الطريق بالذات عند ملتقى شارعين وعلى إحدى لافتـات الطريق رؤوس مقطـوعـة معلّقـة ، متناثرة هنـا و هنـاك ، كانت مرحلة من الرعب الذي أستمرّت طويلا ، أكثر من عشر سنوات ، مرحلـة الكرامة المهدورة لبني الإنسان ، مرحلـة الحقد البشري الذي أوجـد لنفسـه مملكـة خيّم على الجميـع ، آلاف الضحايا و آلاف المآسي و آلاف القلـوب المفجـوعـة ، أرواح مضرجـة بالدمـاء ، دموع الأطفال و اليتـامى و الثكـلى ، أجهزوا ما تبقى من الفرح بالحياة ، أحتفظ بتلـك الذكريات الحزينـة و الحزن يأخذ بتلابيبي ، أنـه أقسى ما يمكن أن يفكر فيـه الإنسان في إقصـاء الآخـر من الحياة لإختـلاف في الرأي ، ما أتعس هـذا الإنسان بإسـم الله يدفـع بالآخـرين إلى جهـنم و لكي يستأثر بنفسـه الجنـان الموعـودة ، كنت قريبا من مقهـى في إحدى الأمسيات عندما تحوّل رواد المقهـى إلى أشلاء و أجزاء من لحم آدمي ملتصق على حيطان الشوارع ، مرحـلـة الهمجيـة التي تجاوزت بربريـة كتب التاريخ الدموي، خيّل لي أنني مازلت أعيش تلك اللحظات المفزعـة من الفظـاعـة الإنسانيـة ، تنهدت الصعداء ، لأنني تذكرت كثير من أفراد عـائلتي و أصدقـائي و جيراني و كثير من أفـراد الحي الذين كانوا ضحيـة هـذه الهمجيـة التي جـاءت في هجمـة غير مسبـوقـة من التاريخ ، جنود الشيطـان يخرجون علينا من ثنايا تراث موبوء بالحقد التاريخي للإنسان .
أمتطيت الحافـلـة ، جلست إلى قرب نـافذة ، سـرت نسمـة باردة أنعشت قلبـي ، سرحت عينـي في بساتين البرتقـال و بساتين الزيتون التي تعانق الطريق بكبريـاء ، مساحات واسعـة من الحب ، من التحدي ، فتـرات طـويلـة لبلـد نقـرأه مجزءا في كتب التـاريخ ، هـذه مساحات من الأراضي و وهـاد و الوديان لا تعترف بتجزئـة التاريخ ، أنـه الكل ، تاريخ الإنسان الذي أبت السياسـة إلا أن تقسـمـه ، تفتتـه ، تقزمـه ، تختصـره ، تضعـه بين عـارضتين لترويضـه ، التـاريخ يروّض لقتـله تمهيدا لقتــلـه في قـلوبنـا ، كنت أهذي و قد أستأنست للهــواء المندفـع من نــافذة الحـافـلـة الذي أستثار ذهنـي و خــواطري من تلـك المشاهـد التي رأيتها في أمسيـة اليـوم ، الأروبيون يرحلـون ذويهـم و إنقــاذ بقايا أمواتهـم بعـد ان تحوّلت بلدنا إلى مرتـع من الموت البطيء ، وجودنـا محـاولـة أخـرى للإنتفاض ضد الموت ، يحاول الموت محاصـرة مناطق الحياة فينا بمعاوله الذي ينهش بقايا أمل .
أستلقيت على أريكـة البيت ، لأطرد الهواجس السـوداء من رأسي ، أشعلت لفـافـة تبـغ غـولواز و أنـا أرتشف قهـوتي بمزيـد من التشبت بالحياة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم #رفعت_عيني_للسما مش الهدف منه فيلم هو تحقيق لحلم? إحساس


.. الفيلم ده وصل أهم رسالة في الدنيا? رأي منى الشاذلي لأبطال في




.. في عيدها الـ 90 .. قصة أول يوم في تاريخ الإذاعة المصرية ب


.. أم ماجدة زغروطتها رنت في الاستوديو?? أهالي أبطال فيلم #رفعت_




.. هي دي ناس الصعيد ???? تحية كبيرة خاصة من منى الشاذلي لصناع ف