الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ضحايا على مذبح لعبة الأمم - مصير الأقليات الدينية في الشرق

جاك جوزيف أوسي

2014 / 9 / 23
مواضيع وابحاث سياسية


شكل ما يُسمى (الربيع العربي) نقطة انعطاف حادة في تاريخ مجموعات عرقية وطائفية عاشت في منطقة الشرق الأوسط منذ فجر الحضارة الإنسانية حتى هذه اللحظة. وكانت الناقل الأمين لمجموعة من السلوكيات والعادات والتقاليد التي سمحت للباحثين في مختلف صنوف العلوم الإنسانية بتكوين صورة واضحة عن مراحل تطور الفكر البشري، وساعدتهم في اكتشاف المخطوطات والنقوش القديمة وقراءتها واستخراج المعلومات القيمة في شتى مجالات العلوم، لأنهم كانوا الحارس الأمين للغات اعتبرها العالم قد اندثرت. وهكذا تمكن العلماء الفرنسيون من فك طلاسم حجر الرشيد وقراءة التراث الفرعوني والغوص في أسرار هذه الحضارة بعد أن تعلموا اللغة القبطية التي يتكلم بها المسيحيون المصريون. كذلك الأمر بالنسبة لحضارات وادي الرافدين وبلاد الشام التي لولا اللغة السريانية الآرامية وأخواتها من اللغات السامية القديمة لما تمكنوا من فك طلسم واحد من الكتابات المسمارية التي سمحت لهم بالغوص في أساطير جلجامش وقصص عشتار، وإعادة كتابة تاريخ تطور الفكر الديني في العالم. أما بالنسبة للأزيديين، فهم عبارة عن متحف تاريخي حي عن طريقه تستطيع الغوص في سحر بلاد فارس القديمة ودراسة سلوك مجموعة دينية وعاداتها وتقاليدها، ظلت محافظة على معتقداتها منذ ما يُقارب 3000 عام.
هذه الانعطافة الحادة تمثلت في عمليات الاضطهاد والقتل المنظّم الذي وصل إلى حدود عمليات التطهير العرقي والإبادة الجماعية في أكثر من منطقة ودولة في الشرق الأوسط. هذه الموجة من عمليات الإبادة لم تكن الأولى في المنطقة فقد بدأت مع ما يُسمى (المسألة الشرقية) في القرن التاسع عشر، وأدت إلى مذابح بحق الأرمن والسريان والآشوريين في مناطق شرق وجنوب شرق تركيا، قامت بها الدولة العثمانية بهدف خلق منطقة متجانسة مذهبياً تمنع التغلل الروسي إلى المنطقة، على اعتبار أن معظم سكان هذه المنطقة هم من المذهب المتّبع في روسيا القيصرية. وانفجرت أحداث العنف الطائفي في جبل لبنان ودمشق بسبب اختلال موازين القوى الغربية في هذه المنطقة التي استغلها الباب العالي ولعب على هذه التناقضات ليُنفذ مذبحة في دمشق وجبل لبنان علّه يستطيع إعادة نفوذه المفقود. واستمرت سياسة المذابح المتنقلة حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى، عندئذ قامت الحكومة العثمانية بارتكاب جريمة العصر التي راح ضحيتها نحو مليونين ونصف المليون من الأرمن والسريان والآشوريين الساكنين ضمن حدود الدولة العثمانية. دون أن ننسى المذابح التي ارتكبها العثمانيون بحق الطائفة العلوية منذ بدايات القرن السادس عشر حتى نهايات القرن العشرين، لا لشيء سوى لاعتبارهم متعاطفين مع الدولة الصفوية في إيران، وخصوصاً بعد معركة غالديران في القرون الوسطى، وصولاً إلى مذبحة سيواس، حين أحرق متعصبون أتراك نحو 37 شخصاً من الطائفة العلوية بحجة تهديد الأمن القومي التركي في نهايات القرن الماضي.
رغم ذلك، تعالت هذه المجموعات على مصابها ومسحت دموعها وتركت أحزانها خلفها، لم تبحث عن الثأر وتناست الانتقام، وانطلقت حالمة ببناء مجتمع تعيش فيه بحرية وسلام مع محيطها وتعمل لما فيه خير الجميع، مؤمنة بأن هذه الأرض هي أرض آبائها وأجدادها، وأن جذورهم الممتدة فيها من الصعب اقتلاعها مهما حاول الغاصب أو الحاقد أن يفعل. واعتبرت أن المحن والكوارث والمآسي التي تُصيب هذه الأرض، إنما تُصيب الجميع دون استثناء، لكنهم تساءلوا: لقد دفعنا أثماناً فاقت ما دفعه شركاؤنا في هذه الأرض، فلماذا يتجاهلون أوجاعنا الخاصة؟
كل ما أردناه هو العيش بكرامة. لم يلتفت إلينا أحد، حتى أبناء وطننا تغاضوا عن أوجاعنا تحت شعار أن الوجع والمعاناة عامة. لقد عاشتا سنوات في الفجوة بين الواقع والكلام الفارغ حول الأخوّة والمساواة، ومع ذلك لم نفقد الإيمان بالدولة الوطنية، رغم ظلمها، لكن أسس الدولة بدأت تتخلخل بتأثير جماعات قادمة من مجاهل التاريخ، وتمارس سياسات وأفعالاً تذكّر بعصور الاضطهاد، وتعيد إلى الأذهان عصر الاستشهاد. فكانت الهجرة الكبيرة للمسيحيين من المنطقة صفعة في وجه المسلمين قبل أن تكون نزيفاً للمسيحيين، وخسارة لفسيفساء الشرق الذي لا يُعوّض.
بعد أحداث الموصل وتهجير مسيحيي المدينة والمذابح بحق الأقلية الأزيدية في جبل سنجار في العراق، وقبلها ما تعرض له مسيحيو سورية وأقباط مصر من عمليات قتل واضطهاد منظمين، وخصوصاً بعد عواصف (الربيع العربي) تتساءل هذه الأقليات: لماذا هذا الصمت المريب من المؤسسة الدينية في العالمين العربي والإسلامي عما يحدث من جرائم ترتقي إلى حد الإبادة الجماعية؟ ولمصلحة من هذا التدمير الممنهج للتاريخ والحضارة؟
إن الأقليات الدينية في الشرق، على مدى تاريخها الطويل في المنطقة، أدركت أن الغرب لا ينظر إليها إلا كوسيلة لتحقيق نتيجة تنتهي فائدتها مع انتهاء مهمتها، ولا يتحرك لنجدة أقلية ما إلا إذا كانت مصلحته تقتضي ذلك، وإلا فما هم إلا أرقام لا معنى لها ... لذلك رفض مسيحيو لبنان العرض الأمريكي بنقلهم بواسطة البوارج الحربية إلى أي مكان يختارونه وقرروا البقاء والمواجهة، كذلك فعل بابا الأقباط الذي أوصد جميع أبواب التدخل الخارجي، ومنع استخدام الأقباط ورقة في الصراع العربي - الإسرائيلي، بعد أن هدد بالحرمان كل من يزور القدس وهي تحت الاحتلال الإسرائيلي، بينما نرى من يرفع شعارات الإسلام السياسي يتسابقون لتقديم فروض الطاعة لحكام تل أبيب، وقررت الأقليات الدينية في سورية الالتفاف حول الدولة الوطنية لقناعتهم أن البديل شر لا يُحمد عُقباه، وخصوصاً بعد الذي تعرضوا له في مدن حمص وحلب والرقة ودير الزور وبلدات محافظة ريف دمشق.
وفي النهاية، يبقى هناك وسام شرف يُعلق على صدور أبناء هذه الأقليات، وهو أن محبتهم لوطنهم وأرضهم حصنتهم من البحث عن الثروة أو المجد أو المغامرة، ولم يطلبوا الوصول إلى السلطة بواسطة دبابات حلف الناتو وطائراته.
نقاط فوق بعض الحروف
لا يحق لأحد أن يُكفر فئة في المجتمع انطلاقاً من معتقداته الدينية، لأنه سيفتح الباب لتكفيره هو انطلاقاً من معتقدات الآخرين.
إن الاستهزاء بعقائد الآخرين وشتمها... سيتبعها شتيمة بشتيمة وسب بسب إضافة إلى صفعة قوية في بعض الأحيان.
القول بأن هؤلاء هم صنيعة خارجية أصبح مرفوضاً تماماً، فلولا بذور هذا الفكر ووجود مؤيدين له لما تمكن أحد من استخدامهم أبداً، وخصوصاً أن هذا الفكر نما وترعرع في ظل أنظمة ودول..
أصبح من الضروري إعادة قراءة التاريخ الديني ورفع الحصانة عن المتطرفين وإسقاط القدسية عنهم، فالتاريخ في النهاية هو محصلة النشاط والسلوك البشري، والإنسان يُخطئ ويُصيب، والهدف من قراءة التاريخ هو التعلم لتجاوز الأخطاء والبناء على الأفعال الصحيحة وتطويرها.
إن ضحية اليوم قد يكون هو جلاد المستقبل إن لم تُعالج كل هذه النقاط، وهي غيضٌ من فيض مما بدأ يعتري صدور الجميع في الشرق الأوسط.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين في معرض البندقية


.. الهجوم على رفح أم الرد على إيران.. ماذا ستفعل إسرائيل؟




.. قطر تعيد تقييم دورها كوسيط في المحادثات بين إسرائيل وحماس


.. إسرائيل تواصل قصف غزة -المدمرة- وتوقع المزيد من الضحايا




.. شريحة في دماغ مصاب بالشلل تمكّنه من التحكّم بهاتفه من خلال أ