الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تراجيديا عراقيّة – قراءة في رواية -فرانكشتاين في بغداد- للكاتب أحمد سعداوي

كلكامش نبيل

2014 / 9 / 23
الادب والفن


هي تراجيديا حقّة تصور بعمق سوداويّة الحياة في بغداد وسط حفلات الموت اليومي والمجّاني والتي يجد ضحاياها فيها أنفسهم ضيوفا مدعوّين من دون سابق إنذار أو رغبة. إنّها رواية مؤلمة حدّ الموت، تجبرك على أن تبكي في مواضع عدّة، وواقعيّة رغم إطارها العام الذي يبدو مغرقا في الخيال، وعميقة أكثر ممّا نتصوّر.

شخصيّة "الشِسمه" أو فرانكشتاين في بغداد والذي كوّنه هادي العتّاك من بقايا أشلاء متفرّقة لضحايا التفجيرات في بغداد رمز للضحيّة والمجرم في الوقت ذاته، رمز لهذا القتل اليومي الذي يأخذ شكل الإنتقام والعدالة والجريمة في الوقت نفسه، إنّها محاكاة فلسفيّة عميقة لمدى هشاشة الحد الفاصل بين الجريمة وتطبيق العدالة، وكيف يمكن أن تتحوّل المهمّة النبيلة إلى جريمة بمرور الوقت، وكيف أنّ القتل كالمرض ما أن يبدأ حتّى يغدو من المستحيل إيقافه، لأنّ دماء أوّل ضحيّة تلوّث الروح وعندها يغدو الشخص مجرما قاتلا. يصرّ الكاتب على تذكيرنا وعلى لسان العديد من الشخصيّات في الرواية بأنّ الجميع ساهم في خلق هذا الشِسمه ولكأنّها محاولة لإلقاء اللوم على المجتمع بأسره، أو على الدولة التي لم تأخذ حقّ الضحايا ممّا أدّى إلى سلسلة من الإنتقامات التي لا نهاية لها، فهو يركّز على أنّ المجرم قد يكون ضحيّة هو الآخر، والضحيّة ربّما كان مجرما قبل عشر سنوات مثلا، هو يهدم نظريّة الشر والخير المطلقين ويؤيّد النسبيّة في الحكم على هذه الأمور الشائكة.

الشِسمه أيضا تعبير عن حلم تكوين الأمّة العراقيّة، فهو مكوّن من أشلاء عراقيّين من شتّى الألوان والطوائف، وحلّت فيه روح حسيب – الحارس من مدينة الصدر والذي قتل في تفجير إنتحاري نفّذه إنتحاري سوداني إستهدف فندق السدير نوفوتيل – وتقمّص شخصيّة دانيال إبن إيليشوا – العجوز التي تقيم لوحدها في البتاوين وترفض الهجرة مع إبنتيها لأّنها تصر على إنتظار عودة إبنها دانيال الذي فقد في الحرب مع إيران قبل أكثر من عشرين عاما – فالشِسمه يعتبر نفسه تعبيرا عن المواطن العراقي الذي لم يفلحوا في تكوينه منذ العهد الملكي وحتّى يومنا هذا وفق وجهة نظر الكاتب، ولهذا إعتبر نفسه المواطن العراقي الأوّل، ونرى في الرواية إشارات أخرى إلى مسألة الهويّة الوطنيّة، فمحمود الصحفي من مدينة العمارة يكتشف بأنّه ليس عربيا ولا مسلما في الأصل وبأنّ جدّه الثالث كان صابئيّا مندائيّا أعلن إسلامه بسبب قصّة حب، وإتّخذ لقبا عشائريّا جديدا من أجل إخفاء ذلك. وأعتقد أنّ الإشارة الأخرى عن الهويّة العراقيّة تتمثّل في بيت العتّاك نفسه فبعد أن سقطت سورة "آية الكرسي" من على الحائط برز تمثال السيّدة العذراء وبعد أن حطّم رجال الأمن التمثال ظهرت على الحائطة أيقونة خشبيّة يهوديّة محفور عليها شمعدان "مينوراه"، فهي تعبير عن ماضي هذا البلد العريق وكيف أنّ جذوره ضاربة في القدم وكيف أنّه موطن كل هذه الأديان ويمكن أن تتعايش معا كما يتعايش الجميع في حيّ البتاويّين وسط بغداد.

لا أرغب حقيقة في مناقشة أحداث الرواية بقدر ما أبحث عن مناقشة الرموز الموجودة فيها وهي كثيرة، فالأحداث مسليّة ومؤلمة ولا تشعرك بالملل أبدا، أمّا الرموز فقد تغيب عن البعض. الشِسمه كما قلنا رمز للعدالة البشعة والتي تتحوّل إلى جرائم، هو ضحيّة وقاتل في الآن ذاته، وتكوينه لمجموعات تمجدّه وترى فيه المخلّص وإختلافها على تفسير طاعتها له فيما بعد له دلالات كبيرة، فهو ينقد فكرة الإيمان العمياء والتي تقارب الجنون ويتجلّى ذلك في تقديم أحد أتباعه نفسه ليموت قربانا للمخلّص ليأخذ منه أعضاءه كقطع تعويض لما يتفسّخ من جسد فرانكشتاين بغداد، هي تعبير عن كيفيّة إنقسام المجانين المؤمنين بذات الفكرة على تفسيرها ودخولهم في حرب أهليّة فيما بينهم، رغم إشتراكهم في الجذور، هي قد تكون تعبيرا عن الأديان الساميّة المنشقة من جذر واحد وإحترابها فيما بينها، أو تعبيرا عن المكونات الثلاث الأكبر في العراق. إنّ إعتبار قادة كل هذه المجموعات الثلاثة مجنونا وصف معبّر جدا في نظري لأنّ الطاعة العمياء ومثلها الإيمان الأعمى ضرب من الجنون بلا شك.

من الرموز الأخرى التي تصف تحوّل المزاج الفكري للمنطقة منذ الحرب على العراق ومرورا بأحداث ما يسمّى "بالربيع العربي" نجده مشفّرا في فكرة إضطرار أبو أنمار بيع فندق "العروبة" الذي يملكه بعد تغيّر أحواله الماليّة، ورغبة المالك الجديد فرج الدلال – والذي يمثّل طبقة ثريّة ناشئة إستغلت ظروف الآخرين للصعود – لتحويل إسم الفندق من "العروبة" إلى "الرسول الأعظم"، فهذه التسمية دلالة على صعود الإسلام السياسي وموت فكرة القوميّة، ولكنّ الأحداث الأخيرة وتعرقل تحديث الفندق وعدم تغيّير اللافتة دليل على أنّ التحوّل بقى متعثّرا وقد لا يتمّ تماما كما يتخيّل البعض، وقد تكون هذه إشارة إلى مدى تشظّي الحاضر وصعوبة تحديد شكل المرحلة الجديدة، فبقيت المنطقة خرابة كالفندق تماما ليستوطنه الشِسمه أو الموت في نهاية الرواية.

إنّ الكلام عن العجوز إيليشوا ورفضها ترك العراق تعبير عن جانب آخر من واقع المجتمع العراقي، فهي مثال للأم التي تحب إبنها وتعيش على ذكراه وأملا في أن يعود، وهي تعبير عن عدم قدرة الإنسان على مسامحة من يتسبّب في فقدان أحبّاءه – أبو زيدون البعثي الذي ساق إبنها للحرب في هذه الحالة – فهي ورغم إيمانها العميق، لم تكن قادرة لتغفر له، وكانت تنذر أن تحتفي بموته كما تفعل جاراتها المسلمات رغم تحذير الأب يوشيّا لها من القيام بمثل هذه الأفعال. وهي تعبير عن الجيل القديم من كبار السن والذي لا يرغب في ترك أرضه ويرفض كل محاولات أبناءه لإقناعه بذلك، قبل أن تتمكّن إبنتيها في النهاية وبطريقة غاية في الغرابة من إقناعها بأنّ إبنها دانيال قد عاد، لتصدّق المرأة العجوز ذلك – لأنّها تريد أن تصدّق – بأنّ حفيدها دانيال هو إبنها دانيال، متجاهلة واقع الفارق العمري بينهما، كما صدّقت في باديء الأمر كون الشِسمه هو إبنها ذاته، فهي أم تعيش على امل عودة إبنها. فراق إيليشوا لوطنها وحيّها من الأمور المؤلمة جدّا، وقصّها لصورة مار كوركيس الشهيد وإحتفاظها بوجهه فقط غاية في الألم وتعبير عن حبّها لوجهه الملائكي الباسم الذي كان يصبّرها طوال سنين على الوحدة، وكذلك تركها لأثاث بيتها وبيتها الذي تعتز به وقطّها نابو، تعبير عن مأساة الكثير من العراقيّين.

قد يكون إعتقال العتّاك الذي تشوّه في نهاية الرواية وإعتباره المجرم الذي لا إسم له والذي يطارده الجميع تعبيرا عن هشاشة الوضع في العراق، وإغلاق ملفّات الجرائم بإعتقال أشخاص آخرين غير المجرم الحقيقي من أجل إنهاء الملف ليس إلاّ. كما إنّ "دائرة المتابعة والتعقيب" الخياليّة والمعتمدة على عمل المنجّمين ربّما يكون تعبيرا عن إحباط المواطن من تصريحات المسؤولين بأنّهم إمتلكوا معلومات عن التفجير قبل وقوعه ولكنّهم لم يتمكّنوا من منع حدوثه، كل هذه رموز عن السوداويّة الكوميديّة التي يعيشها المواطن العراقي يوميّا. ولا يغفل الكاتب في أن يجعل للموت اليومي في العراق تعبيرا عن خوف يكاد يكون وهميّا رغم معايشتنا له يوميّا، هو خوف من الموت يجعل الآخرين يقتلون من أجل البقاء، وهكذا يستمر الخوف في حصد المزيد من الضحايا، وتولّد الرغبة في البقاء أمواتا جدد. فالكاتب يصر في مواضع عديدة على رفضه للعنف وحمل السلاح ويرى أنّ الجميع مجرم بنسبة ما، وأنّ هذا الموت هو ذاته من يقتل كلّ الطوائف، وأراه مصيبا جدا في هذا، فما يقتلنا اليوم هو إنعدام الثقة بين أبناء الشعب وخوفهم من بعضهم البعض، ولهذا قام الشِسمه بقتل أعضاء في القاعدة وأعضاء في ميليشيات مسلّحة، فما هو إلاّ ترميز عن السبب الحقيقي الذي يقف وراء الموت في العراق، شكل بشع من أشكال الإنتقام يبرّر عمله من أجل البقاء وبإسم العدالة التي تتحوّل إلى جريمة.

ختاما، الرواية رائعة فعلا وتستحق القراءة والدراسة، فهي تصوير عن العراق الحقيقي بتنوّعه الثقافي الجميل والذي تهدّده هذه الظروف البشعة من خلال القتل والتهجير، هي تصوير لحياة السياسيّين والصحفيّين والطبقات الفقيرة، تصوير للمتديّنين والمتحرّرين، تصوير لشعب يصر على الإبتسام وسط الظلام، على أن يحب وسط الإنفجارات، على أن يستثمر أمواله رغم الخراب، على تمسّك مؤلم بالحياة رغم بشاعتها. لكنّ بقاء الشِسمه حيّا دليل على انّ توقّف الموت في وطننا لن يتحقّق إلاّ إذا أوقفنا مدّ الموت بمزيد من الضحايا لأنّه يحافظ على جسده وخلوده مستخدما أشلاء الضحايا، هي دعوة لوقف جنون الإنتقام واللجوء للعقل وإن بدا الأمل ضعيفا لأنّ كل أجزاء الشِسمه أصبحت مجرمة ومن ضحاياه هو نفسه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع