الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحطابة ام أسعد

سميح مسعود

2014 / 9 / 24
الادب والفن


استيقظ متأخرا كعادته في أيام الآحاد... فتح باب شرفته، وأحسّ بنسمات تترامى على مدى أطراف مونتريال في صباح صيفي جميل... تناول قهوة الصباح، وبسط عددا من الصحف العربية أمامه لقراءتها، فرقع أصابع يديه...عادة يمارسها بإيقاع ثابت بدون تغيير عند قيامه بأي عمل ما... أخذ يتصفح الصحف واحدة تلو الاخرى، قطب جبينه، وارتسم عليه تعبير عدم الرضا لقراء ة بعض الأخبار العربية المحبطة...

تقافزت عناوين المقالات أمامه... توقف عند عنوان مقال أثاره، نظر إليه بعينين جاحظتين... افترّ ثغره عن ابتسامة...

استسلم لقراءة ثلاث لوحات يتألف منها المقال، أثارته جرعات من الحداثة بمضامين فكرية وحسية تتناثر فيها، وجدها متسقة مع فتات أفكار يهتم بإنباتها ثقافة وسلوكا، في زمن يئن من صرير أفكار الظلاميين القاتمة.

راقه كل ما جاء في المقال، سردا، لفظا، موضوعا ، وأحداثا، .. تعرف فيه على أطياف لوحات فاتنة من الحروف تتراقص مجبولة بألوان جميلة تجل عن الوصف، نقلته إلى فضاءات حيفا وبُرقة... غاصَ في مرايا مدينته وقريته دانياً من مرابع الطفولة...

لفت نظره في رحاب هذه اللوحات لوحة بعنوان "لمْ أحكِ لكَ عن السريس والحطب"... أعادت إليه مفردة "السريس" التي سقطت منه... اجتثت من مفرداته... مع أنها تذكره بأمه... كانت تقول له عندما يغضبها: "بكفي شيطنه ولا بدك أضربك بمطراق السريس".

أحس بدقات قلبه تهزه بشدة، وانتابه فجأة شعور بالسعادة لأنَّ أمّه لم تضربه يوما، لم يكن لديها مطراقٌ من أيّ شجر كان، ولم تعرف الضرب كانت حنونة يسودها سلام داخلي، ويلوح على شفتيها ظل ابتسامة دائمة... حساسة تنظم الشعر بالعامية، تقوله شفاهة لعدم إتقانها الكتابة، وتردد النساء شعرها بالأفراح.

واصل قراءته عن الحطب " تلقيطه، رزمه، وحمله فوق رؤوس النساء، واستخدامه في المواقد"... تفتحت أمام عينيه مروج قريته بُرقة... حس بوطء أقدام جامعات الحطب، أطل عليه وجه أم أسعد، امرأة من قريته كانت تتحامل في المشي عرجاء على ساقين متصلبتين، وثلاثة أصابع مبتورة من قدميها... تتمايل في سيرها بقامة مائلة بتقوس ظاهر إلى الأمام... تسرح مبكرا في كل يوم مع انسياب خطوط الفجر الأولى، تجمع الحطب للآخرين بسعر زهيد... تلم كل ما تيبسه الشمس من فروع وجذوع الأشجار وحتى الأوراق والنتش وسيقان القمح والذرة البيضاء بعد الحصاد... وفي الربيع كانت تلاحق المواشي في موارس الرعي، تلتقط روثها وبعرها وتبيعه لأصحاب الطوابين.

كانت أم أسعد تتردد كثيرا على بيته، تتحدث مع أمه دوما بأحدث أخبار القرية... عرف مبكرا أنها من إحدى قرى الجليل، أحبت شابا من قريته وهي في ريعان الشباب، رفض والدها زواجها منه.. لاذت بالفرار معه ... تزوجته، وفقدت كل صلة مع أهلها.. ومع الأيام أغرقتها الأحزان... فقدت ابنها إبان ثورة "ستة وثلاثين" حُكم عليه الانجليز بالإعدام، وأصرت على دفن جثته في حاكورة بيتها في الحارة الغربية من القرية ، وبعد فترة وجيزة، فقدت زوجها وهو يقاتل الإنجليز مدافعا عن قريته.

سمعها كثيرا وهي تردد أغنية شعبية عن معركة زوجها الأخيرة :
"بين بُرقة وبيتمرين... صار إشي عمره ما صار... صار ضرب المراتين"
وسمع أمه دوما تقول لها "انت أم ومرة شهيد ع الجنة واردة يا خيتي..
اوعي تنسيني خذيني معج (معك " (

تأثر في صغره بقصة أم أسعد، وبكدها الدائم في جمع الحطب، وبنومها في ليالي الصيف على مقربة من شاهد قبر ابنها، وفي ذات يوم كتب موضوع إنشاء عن بؤسها اليومي، في وقت كان به في آخر صف من صفوف المرحلة الابتدائية... سلمه بزهو ظاهر لأستاذ اللغة العربية، نظره الأستاذ بعينين جامدتين... قرأ العنوان فقط، ورمى أوراقه في برميل الزبالة (يدلعونه الآن بسلة المهملات)، وأخذ يردد صارخاً بصوت عال متناغما مع أساليب التعليم البائسة التي كانت سائدة آنذاك :
--- " تكتب موضوع إنشاء من ورا ظهري يا تيس عن أم أسعد الحطابة، ول عن أم أسعد... هي المدرسة صارت إلك وإلها".

وانتهى من القول إلى الفعل... أخذ يرفسه كالبغل... ثم سجل ضربة قاضية ضده بكف هوى على وجهه أسقطه أرضا... وغاب التلميذ الصغير تائها في امتداد الصمت...

بعد خروج أستاذه من الصف، لملم أوراقه من برميل الزبالة ...و قرر أن يزور أم أسعد... ذهب مع أمه إلى بيتها ... قرأ لها ما كتبه عنها... استوعبت كلامه... بكت تأثرا، ونظرت إلى أمه قائلة:
" ... حجيه (حكيه... كلامه ) مثل عد المصاري، ديري بالج (بالك ) يا أم سامي على ها الصبي ، راح تشوفي.... ولا ليصير معلم إجبير( كبير ) "...

عاش لحظات استرخاء بعد سماع كلماتها، أنسته غباء أستاذه وعقده الخافية... وما زال يذكر تلك الكلمات، كلما تربعت كلمة جميلة في أسطره، أو عمّ الصفاء ذاته على إيقاع قصيدة جديدة له تتهادى بحنو حوله... يهمس عندئذ في داخله قائلاً : " أصابت معلمتي الحطابة أم أسعد".

شارك ذات يوم بأعمال ندوة في روما نظمتها منظمة " الفاو" الدولية حول " دور مصادر الطاقة الحيوية المتجددة في تحسين حياة المجتمعات الريفية في العالم الثالث " ... نابضا بذكرى "أم أسعد" تحدث عنها بإسهاب أمام الحضور نموذجا عن قسوة الحياة في قريته مع أكوام الحطب بدون توفر أيّ مصدر من مصادر الطاقة العصرية.

انسلت من بين الحضور سيدة إيطالية، جاءته بعد انتهاء حديثه قائلة:
"لا تجلس هادئا على المقاعد الوثيرة، لملم أوراقك واكتب قصة عن الحطابين، طر على أجنحة الحروف عالياً مع المرأة التي تحدثت عنها "

....

بعد أربعين عاما من وفاتها، لمح وجه "أم أسعد" من جديد، تألقت أمامه على حافة أكوام من الحطب تعبق بأريج أغرقه بخطى حالمة... زاده التصاقا بتراب أرضه ، وأعتقه من مخافة الضياع في دروب غربة لا تنتهي تزداد بعداً .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي


.. شاهد: دار شوبارد تنظم حفل عشاء لنجوم مهرجان كان السينمائي




.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-


.. فعاليات المهرجان الدولي للموسيقى السيمفونية في الجزاي?ر




.. سامر أبو طالب: خايف من تجربة الغناء حاليا.. ولحنت لعمرو دياب