الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن ليبيا: الهاربون, المهجرون, اللاجئون.

علي لّطيف

2014 / 9 / 27
مواضيع وابحاث سياسية


لم تكن الإبادةُ وحسب, لم يكن الموت وحده (رغم أن الخوف كان خبزنا اليومي), بل أن لا نقدر على الحركة بقدمين اثنتين. لقد كان ثقيلاً، هذا العار في أن نكون بشرا كالذين دمّروا وأبادوا.
بابلو نيرودا*
المدخّل**



بدأ الأمر قبل ثلاث سنوات, العديد من الليبيين المؤيدين للنظام السابق تركوا بيوتهم وغادروا إلى دول الجوار, الأغنياء منهم لا يمكن لنا اعتبارهم لاجئين, أعتقد أنهم هاربون قبل أن يكونوا لاجئين, غيّر أنه يجب أن يسأل الإنسان نفسه : ما ذنب الأبناء والبنات إن كان الأباء قتلة؟
أكثر الأفعال شجاعة على مرّ تاريخ الإنسانية هي الغفران, أما الإنتقام فهو أجبن الأفعال التي مرت على تاريخ الإنسانية. إلا أن الليبيين افتقدوا للشجاعة وغرقوا في دوامة الانتقام, واليوم كما تسمعون على قنوات الأخبار وتقرؤون في الصحف فإن بلادهم قد سقطت, ويبدوا أن سقوطها هذه المرة سيستمر طويلاً.
ما لا يقل عن 30 ألف إنسان من بلدة تاورغاء شرق طرابلس قد هُجروا, حجة الطرف الذي تلومه بعض الاطراف الليبية السياسية والمدنية والقبلية على هجرة سكان بلدة تاورغاء هي : "من أخبرهم أن يخرجوا من بيوتهم," و"من لم يفعل جُرماً لما رحل عن بيته".
سكان بلدة تاورغاء رحلوا عن بلدتهم وتفرق أغلبهم في مخيمات على مختلف الأراضي الليبية: مخيم اللاجئين في ضواحي بنغازي, مخيم اللاجئين في ضواحي غرب طرابلس, مخيم في أحد ضواحي جنوب غرب طرابلس. هناك المزيد من هذه المخيمات على مختلف أرجاء الأراضي الليبية. تعرض الناس في هذه المخيمات إلى المضايقات وعمليات الخطف والترهيب والترعيب والبرد والجوع والتعذيب القسري, الدولة الليبية في ذلك الوقت لم تكن مهتمةً بالأمر, بلدة تاورغاء كانت الورقة السوداء التي لا يريد أي مسؤول في الدولة أو أي مُنظر لل"ثورة" أن ينظر إليها, وكذلك مثلهم فعل أعوان النظام السابق ومؤيدوهم, إنسان تاورغاء كان منبوذاً من الجميع, كأنهم باعتقادي قد تحالفوا على هذه البلدة جميعاً دون استثناء.
من بعد عام 2011, بلدة تاورغاء أصبحت منسية إلا من بعض النشطاء من أبنائها وغيرهم القليل من النشطاء المدنيين. حاول التاورغيون أن يُذكِروا الليبيين بوجودهم, إلا أن الليبيين كمجتمع قبلي عادته تقسيم الغنائم بين القبائل كان أفضل حالا دون تاورغاء, "كلما نقص العدد, كلما زادت حصتي من الغنيمة".
احقاقاً للعدل, بعض الدول الأوروبية التي استعمرت افريقيا سابقاً عرضت على سكان بلدة تاورغاء القدوم إلى بلدها وأخذ اقامة دائمة ونسيان من نسوهم من الليبيين, كذلك قامت الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وغيرهم من الدول المتقدمة في العالم. العديد من التاورغيون قبلوا بعرض الإنسان الأبيض, والعديد منهم رفضوه : "نحن لا نترك بلدنا" قال العجوز في أحد مخيمات بنغازي. التاورغيون الذين قبلوا بعرض الإنسان الأبيض هم اليوم يعملون ويدرسون ويحاولون التأقلم مع حياتهم الجديدة في مجتمعهم الجديد, هل سينجحون في فعل النسيان؟ أم أن الوطن سيلاحقهم دائما؟
أما التاورغيون الذين بقوا هنا - إن استمر الحال على ماهو عليه - فهم أمام أمرين : الابادة أو الانقراض.
أنا أعتقد أن الإنسان والخير أمران مفصولان, الخير كيان مجرّد في الفضاء الواسع على الإنسان أن يصل إليه بالوعي, هذا لو اختار الإنسان أن يصل إليه, وحتى إن وصل إليه فعلى الإنسان أن يختار عندها مجدداً : هل يفعل هذا الخير أو يتغاضى عنه في سبيل الانتقام أو المنفعة؟

في عام 2012 قرر المؤتمر الوطني العام الليبي القرار رقم 7 الذي ينص على :
"إلقاء القبض على من قام بإختطاف وتعذيب الشهيد ( عمران جمعة شعبان) ورفاقه والقبض على بقية المطلوبين للعدالة وتسليمهم للقضاء خلال عشرة أيام من تاريخه", ووُرد أيضاً في القرار "وتخول وزاراتي الداخلية والدفاع كافة الصلاحيات اللازمة لتطبيق هذا القرار مما في ذلك استخدام القوة عند اللزوم".
وقد تم بالفعل القبض على من قام بالخطف والتعذيب إلا أنهم كانوا جثثا محترقة متعفنة ومعهم عشرات المدنيين العُزل وعشرات البيوت. بعد هذا القرار ازداد عدد اللاجئين من بلدة بني وليد التي شُن عليها الهجوم, منهم من لجأ داخل ليبيا ومنهم من لجأ خارجها؛ بعد عدة شهور عادت بعض العائلات إلى بني وليد, والبعض الآخر لم يعد بعد. وفي هذه الأيام لجأت عائلات آخرى إلى بني وليد هرباً من الحرب غرب طرابلس.
يُعّرف اللاجئ حسب الأمم المتحدة: "كل شخص يوجد بسبب الخوف من التعرض لاضطهاده لأسباب ترجع لدينه أو جنسه أو عرقه أو انتمائه لعضوية فئة اجتماعية معينة أو آرائه السياسية خارج بلد جنسيته, ولا يستطيع أو لا يريد بسبب ذلك التخوف أن يستظل بحماية دولته".
تم تعريف معنى اللجوء لأول مرة في الأمم المتحدة في اتفاقية عام 1951 حول وضع اللاجئين, الاتفاقية كانت خاصة باللاجئين بسبب الحرب العالمية الثانية قبل 1 يناير عام 1951, ولكن تم تعديل هذه الاتفاقية عام 1967 لتتجاوز البعد الزمني وتشمل اللاجئين بصفة عامة.
علي أن أوضح شيئا لكم أولا, أن ما تدعى "دولة ليبيا" اليوم كانت بالأمس تدعى "الجماهيرية", العالم لم يكن يدعوها ليبيا بل كانت بالنسبة له "الجماهيرية". من بعد سقوط الجماهيرية ومحاولة الطرف المنتصر إلى اليوم تكوين دولة جديدة باسم "ليبيا", تكونت خلال هذه العملية المعقدة حالة فراغ ناتجة عن عدمية الدولة حيث أن الطرف المنتصر لم ينجح بتكوينها بعد, فعادت ليبيا إلى عام 1911, قبائل تتصارع على السلطة والنفوذ.
ما أريد أن أوضحه أن ظاهرة التعصبية الانتمائية للإنسان الليبي لقبيلته فوق وطنه نابعة من عدميّة وجود جسم سلطوي موحد يحكم "ليبيا" يستطيع أن ينتمي له الإنسان الليبي فوق قبيلته, اذاً يمكننا أن نتجرأ على القول أن الدولة أصبحت للإنسان الليبي قبيلته التي تقطن الأرض ذاتها منذ مئات السنين. أي أن من يُهّجر من أرضه فهو لاجئ وإن بقى هنا على الأراضي الليبية.
بالرغم من كل هذا التعارض الغير مهم حول مسألة من هم اللاجئون ومن هم لا, فإن العدد الحقيقي للاجئين "الهاربين أو المهجرين" في الخارج بين دول الجوار يساوي عدد اللاجئين "المهجرين" هنا على الأراضي الليبية, في كلتا الحالتين اذا اللاجئون موجودون وليسوا عدماً, بل أعتقد أن وجود الدولة هو العدم بذاته.

في الشهرين الأخيرين ازداد عدد المهجرين بسبب الحرب الدائرة في مدينتي طرابلس وبنغازي, غير أنه بعد أن انتهت الحرب في مدينة طرابلس انتقلت غرباً إلى منطقة ورشفانة, استمرت الحرب هناك لأكثر من أسبوعين ومات من الطرفين العديد بما في ذلك المدنيين. الحروب هنا ليست بين جيشين نظامييّن كما يصوران نفسيهما, بل هي حربٌ بين ميليشيات غير مدربة وغير منضبطة يُحركها الانتقام والتعصب القبلي والثوري, وكأي حرب وقودها ما ذكر سابقاً فمن الضرورة أن تكون نتائجها كارثية.
والكارثة يبدو أنها لا تكاد أن تنتهي على هذه الأرض. بعد نهاية الحرب في ورشفانة اتصلت بأحد الأصدقاء الذي يسكن بالقرب من تلك المنطقة: "عليك أن ترى المنظر من مدينتي إلى كوبري الزهرة, المشهد سيريالي ولا أظن أنك شاهدته في أي فيلم عن الحرب, بيوت سوداء, ومسلحون على الطريق, وسيارات متفحمة, وسواتر ترابية, وبقر وماشية يسيرون بحرية على الطريق, يبدو المشهد كأن الجحيم ابتلع الأرض وقذفها مجدداً". المسافة بين المدينة التي يسكنها صديقي وكوبري الزهراء حوالي 15 إلى 20 كيلومتر.
أعداد الذين هربوا خوفاً من الحرب والانتقام والاعتقال التعسفي من منطقة ورشفانة حوالي أكثر من 1000 عائلة حسب أحد المهجرين الذي غادر مع عائلته إلى بلدة الأصابعة في جبل نفوسة جنوب غرب مدينة طرابلس.
في تونس يبلغ عدد اللاجئين أو "الليبيين الموجودين" هناك حوالي المليونين حسب الحكومة التونسية, إلا أنني أشك في هذا العدد, فقد صرّح "امبارك رحيل ضو" مؤسس مكتب النازحين الليبيين في تونس – كما يسمي نفسه – على صفحته الرسمية في الفيس بوك : "أن عدد اللاجئين الليبيين في تونس لا يتجاوز ال20 ألف". أنا أميل إلى تصديق السيد امبارك وفي ذات الوقت لا أُكذب الحكومة التونسية فيما قالت, أعتقد أنه نعم يمكن أن يصل عدد الليبيين في تونس إلى مليونين ما بين سياح ومرضى ومرافقو مرضى وتجار وعائلات تحاول نسيان أصوات الرصاص.. إلخ, وأعتقد أيضاً أنه يوجد حوالي ال20 ألف ليبي منذ عام 2011 في تونس ولم يعودوا بعد إلى ليبيا بسبب الخوف من الميليشيات الثورية, غير أن الجدال هنا لا يجب أن يكون حول عدد الليبيين في تونس, بل من منهم سيعود إلى ليبيا مجدداً؟
إن عدد المهّجرين واللاجئين والهاربين الليبيين غير دقيق, ولا يمكن أن يكون دقيقاً, المجتمع القبلي الليبي والعادات الرجعية المتخلفة تمنع الليبيين المهّجرين واللاجئين والهاربين من الاعتراف بانهم كذلك, كرامتهم تمنعهم من الاعتراف بمثل هذه الأمور, المجتمع الليبي لا يرحم ولا ينسى.
"لقد كان ثقيلاً, هذا العار في أن نكون بشرا كالذين دمروا وأبادوا" قال نيرودا في قصيدته "المدخل", الشعر يمكنه اختصار مئات الكلمات في جملة واحدة, أعتقد أن هذه احدى سمات الشعر الذي وُجد من أجلها. العار الذي يحمله الليبيون معهم أثقل من أرواحهم المثقلة منذ الأول بوحش التخلف وعقد الإنسان المقهور الذي ورث قهره, لا يمكننا لوم أحد على ما يحدث اليوم, الليبيون ببساطة اختارو أن يدمروا ويبيدوا بعضهم البعض, اختاروا قبائلهم على وطنهم, اختاروا الثورة على الإنسان, اختاروا الموت على الحياة, اختاروا الانتقام على الغفران, لا أعتقد أن الغد سيكون أفضل من اليوم بالنسبة لليبيين.

منذ بدأت الحرب الأهلية في الصومال سنة 1986 والصوماليون يُهجرون ويهربون ويلجأون إلى الخارج, إلى دول الجوار أولا ثم إلى أوروبا وإلى أمريكا وهكذا. حوالي 30% إلى 50% من عدد سكان الصومال أصبحوا خارجها إلى يومنا هذا والعدد مازالَ في ازدياد, 700 ألف إلى مليون صومالي في مختلف أنحاء العالم, ومن 700 ألف إلى مليون في أثيوبيا, ومن 2 إلى 3 مليون في كينيا, أخر دولتين هما دول جوار الصومال. عليّ أتجرأ مجددا وأقول أن تونس لليبيين هي كينيا للصوماليين, أليس الأمر مضحكاً بعض الشيء؟
على العموم يجب عليّ أن أشكر شعب تونس وحكومتها وشعب كينيا وحكومته على عملهما الإنساني الشجاع في فتح الحدود للإنسان المقهور الهارب من ويلات الهرب والاضطهاد, ولندعو السماء أن تبقى الحدود مفتوحة, دعواتنا هذه أقرب للسماء من دعواتنا للسلام.

أحد الأصدقاء الذين تركوا هذا البلد مع عائلاتهم قال لي قبل يومين: "كنت يا رجل, أظن أنها مزحة, لم أعتقد أن الأمر كان أكثر من مزحة, لكن يبدو أنهم لم يكونوا يمزحون كما اعتقدت, الأمر مزري, الأمر مزري جداً".
هذا الرجل ترك ليبيا بسبب الحرب الأخيرة وذهب إلى كندا ليستقر هناك مع عائلته, لقد حرقوا بيتهم لأنهم لسوء حظهم قاموا بتشييده على ساحة قتال مستقبلية, وهكذا لم يعد لصديقي وعائلته بيتٌ هنا في ليبيا بعد الآن, إذا ماذا يجب علينا أن ندعوه هو وعائلته؟ هل هم لاجئون؟ أو هاربون؟ أو مهجرون؟ أم ليبيون تعيسوا الحظ لا غير؟















التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سيارة تقتحم حشدًا من محتجين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة أمري


.. -قد تكون فيتنام بايدن-.. سيناتور أمريكي يعلق على احتجاجات جا




.. الولايات المتحدة.. التحركات الطلابية | #الظهيرة


.. قصف مدفعي إسرائيلي على منطقة جبل بلاط عند أطراف بلدة رامية ج




.. مصدر مصري: القاهرة تصل لصيغة توافقية حول الكثير من نقاط الخل