الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سبايكر

فراس عبد الحسين

2014 / 9 / 27
الادب والفن


سبايكر
لم يغب قرص الشمس عن السماء بعد, لبست ملابسي العسكرية على عجل, وأنا اركض بين الاف الجنود الفرحين كخروج أطفال مدرسة ابتدائية بعد انتهاء الدوام الرسمي, نحو سيارات الهمر والهينو والبيك اب, صعدت احداهن يتكدس داخلها العشرات فوق بعضهم يتصايحون يمزحون, يضحكون بأصوات عالية بعد تبليغنا بالانسحاب من مقر عمليات صلاح الدين الى معسكر التاجي ليتم نقلنا الى العاصمة بغداد بإجازة سريعة مفتوحة.
سارت بنا قليلا من الوقت, فرحتنا لم تدم طويلا كانت صدمتي كبيرة حينما وصل رتل السيارات الطويل بنا الى قاعدة سبايكر القريبة, انزلونا بالألاف بباب المعسكر بقينا ننتظر في الخارج, ساد جو حذر مشوب بالريبة والخوف قبل السماح لنا بالدخول, توغلت خيوط الظلام كبقعة زيت سوداء ليلوث بحر السماء الصافي الازرق, انتشرت معه الكثير من الغربان تنذر بالشؤم تنعق على قمم أبراج المراقبة الخارجية وفوق باقي أبنية المعسكر.
ما أن دخلنا, عمت الفوضى, اتصالات مريبة وتحركات مشبوهة غريبة بين الضباط ونواب الضباط وبعض الجنود, خرج بعضهم بسياراته العسكرية وبدلته المدنية من دون حماية, خيم جو من الرعب, الخوف , الشتات, قبل أن يصلنا التبليغ من الآمر بالخروج لساحة العرضات فوراً.
جاء في كلمته السريعة المقتضبة, ضرورة إخلاء المعسكر في الصباح الباكر لوجود أمر طارئ يستوجب خروج الجميع بالملابس المدنية دون حمل السلاح, انتابني الشك والخوف مما يحصل الآن وسيحصل غداً.
كانت ليلة سيئة لم يغمض لي فيها جفن, خرجت من القاعة مع خيوط الفجر الاولى, أبراج المراقبة, حرس النظام في الابواب الخارجية, مشاجب الاسلحة, الدبابات, المدرعات, ناقلات الجند, المدافع, جميعها باتت خالية من الحرس والحماية, بدلات لجنود واخرى برتب عسكرية عالية بخطوط حمراء منثورة على ارض المعسكر.
عمت الفوضى وساد الارتباك والاضطراب بين صفوف الاف الجنود, المئات يخرجون من الباب الرئيسية, المئات يرتدون ملابسهم المدنية بعد خلعهم البدلات العسكرية يرمونها على الأرض كانت تداس بالأحذية في ساحة المعسكر.
خرجت مع الأف الجنود أسير للمجهول, كانوا يسبون يشتمون ويلعنون, مر وقت طويل ونحن نتخبط وسط الطريق العام والصحراء بلا هدف معين, مثل قطيع أغنام قد فقد راعيه للتو. كنا نصرخ بأعلى أصواتنا, خيانة.. خيانة مجرمون خونة, تركونا لوحدنا وهربوا,, مجرمون.
استبشرت خيراً عندما لاحت عشرات سيارات الحمل من بعيد, ركضت مع الجميع نحوها, لم أصدق ما تراه عيناي كانت تحمل رايات سوداء مكتوب عليها لا اله الا الله محمد رسول الله, يقودها ملثمون, منهم بلثام اسود وأخرون ملثمون بالشماغ لا يبان من وجوههم سوى عيونهم بنظراتها الحادة القاسية.. أنهم عصابات داعش المجرمة, سقطنا بأيدي قتلة البشر. او تم تسليمنا اليهم.
فرش أحدهم بطانيات على الارض, أمروا الجميع بألقاء اجهزة الجوال, الهويات العسكرية, الساعات, محفظات الجيب, كل الاوراق والمستمسكات والاشياء الاخرى, يجب علينا إفراغ جيوبنا من كل شيء.
كنت بين الجموع بعيداً عنهم فلم استطع سماع ما كانوا يتحدثون به لرفاقي العسكر, أحسست بخوف شديد, حاولت الهروب, تمنيت الهرب لكن كيف وأنا بدون سلاح وتحدني الصحراء على وسع النظر من كل جانب, صعدت للناقلة مع العشرات المتكدسة فوق بعضها مثل سمك السردين المعلب, لم يبان منهم سوى الرؤوس والأنوف التي تستنشق الهواء الحار بصعوبة, أنظر لقرص الشمس في السماء التي بدأت تنفت لهيبها اللافح, محصور بين الأجساد التي تتصبب العرق.
- الى اين يأخذوننا..؟
- يقولون بأننا أسرى حرب سوف يوصلوننا الى مرأب سيارات صلاح الدين لنعود الى ديارنا, سالمين غانمين, أخبرني الجندي الذي كان بجانبي مباشرة.
رتل من سيارات الحمل وهي تحمل الأكباش البشرية تجري مسرعة, ويجلس فوق قماره كل سيارة شخص ملثم يصوب سلاحه نحو رؤوسنا.
بعد مسافة قصيرة من السير انحرفت بعض السيارات عن الطريق العام ودخلت وسط رمال الصحراء, أخذت تصغر وهي تبتعد أكثر وأكثر, حتى تلاشت عن النظر تغطيها غمامة رمادية, الى أين ذهبوا, لماذا اقتادوهم وسط الصحراء الى جهة مجهولة, عن أي أسرى ومرأب يتحدثون, اسئلة تدور بذهني دون إجابة.
ألم, قلق, خوف يعتصر قلبي, ينذرني بأن شيء رهيب سيحل قريباً لا محالة, ما الذي ينتظرنا بعد كل ما حصل.
بعد مسافة ليست ببعيدة انفصلت وانحرفت الى الجانب الأيسر مجموعة أخرى من السيارات, سلكت طريق فرعي لقرية قريبة, ولم تزل قافلتنا تسير على الطريق العام الى المجهول البعيد أو ربما القريب.
بعد السير تحت أشعة الشمس الحارقة لأكثر من ساعة, انحرفت السيارات بنا داخل طريق فرعي حتى أوصلتنا الى مناطق قريبة من نهر دجلة, كان عشرات الملثمين بانتظارنا هناك, فتحوا الأبواب, أنزلوني بالركل والضرب والسب والشتم قبل يأمروننا بخلع أحذيتنا, دون أن أعلم لماذا وما السبب..؟.
أرى طريقي بصعوبة وأنا مطأطأ الرأس للأسفل والضربات تتوالى على رأسي دون انقطاع , أنظر لقدماي وهي تدوس الرمال, أسحق شجيرات الشوك والعاقول, تجرح ساقي وتنغرس بأقدامي العارية, ضربة قوية مفاجئة بأخمص السلاح على رأسي اسقطتني ارضاً على وجهي, استنشقت الرمل الحار ملئ فمي وانفي, سائل دافئ لزج يسيل على رقبتي ويصل لصدري, غمامة سوداء غطت عيني, فقدت الإحساس بكل شيء, أحسست بالخدر يسري في جميع عروقي, قبل ان تسود الظلمة في عيني.
صحوت على ركلة قوية بمؤخرة ظهري كأنها أعادتني للحياة وليتها لن تفعل, لم أعلم كم من الوقت كنت فاقداً للوعي, ألم فضيع في رأسي ودوار, حر الظهيرة القائظ , الشمس متوهجة فوقنا تلهب وجه الصحراء وحولت كل ذرة رمل صغيرة لجمرة نار متقدة, عطش شديد, بدأت أسعل الرمال محاولا اخراجه من فمي وأنفي ولم أستطع كان جافاً متيبساً خالي من قطرة لعاب.
اقتادوني مع بقية الجنود بعد ان قسمونا لمجاميع تتكون كل مجموعة من مئة شخص تقريباً, أخذونا لحافة النهر القريبة, ألقونا على وجوهنا بين شجيرات الشوك, ماهي الا دقائق حتى مزق صمت الصحراء دوي إطلاقات نارية مكتومة متعاقبة, كأنها دقات ساعة الآجل التي تقترب بسرعة مع كل ثانية ..مع كل اطلاقة, طاق.. طاق.. طاق.
كاد قلبي ينفر من مكانه خوفاً وقلقاً. أصبت بحالة من الغثيان نشب ضجيج بين المجموعة, الكل يندب حظه العاثر لوجوده بهذه الحياة القاسية والموت بهذه الطريقة البشعة دون ارتكابهم لجرم مشهود, سوى كونهم جنود في جيش هذا الوطن, صراخ, سب, شتم, بكاء, عويل, همس كأنه تلاوة أدعية مختلفة تذرعاً الى الله, البعض ينادي باسم أمه وأبيه, وهناك من يتلو الشهادتين.
سحلوا عدد من الجنود, ركلة قوية جاءتني من الخلف, أنهض واركض بسرعة مع البقية, كل شخص يمسك بظهر الذي أمامه, برتل طويل , تتوالى علينا الركلات من كل جانب ...هرولوا بسرعة.. بسرعة.
عاد لذهني وأنا أمسك بظهر زميلي من الخلف, لعبة القطار السريع مع أطفال القرية أيام الطفولة, تذكرت كيف كنت أهرول مع أخوتي بعد انقطاع المطر لنتسابق في البحث عن الفطر بين اوراق الشجر الندية, لجمعها وشيها على نار الحطب الهادئة, رائحة الدخان والفطر المشوي لم تفارق بالي للحظة, تذكرت مدى سعادتي لاصطيادي سمكتي الصغيرة الاولى من نهر البستان الصغير. كم جميلة هي الطفولة, ليت الزمان توقف عند تلك الأيام السعيدة ولم يمضي بنا, ليتني لم أكبر.
توالت على مخيلتي الذكريات, حفلة التخرج من الجامعة, طوابير طلب التعيين الطويلة في أبواب الدوائر تحت شمس الظهيرة الحارقة, لحظة تسليمي الرشوة من أجل قبول تطوعي في صفوف الحرس الوطني, تذكرت حزن وجه أمي, خالاتي, عماتي, وهن ملفحات بالسواد, منكوشات الشعر, مدميات الصدور والوجوه, فوق تابوت والدي وهو ملفوف بالعلم, كنت لم أبلغ العاشرة بعد, غادرتنا يا أبي وفقدت الحياة من أجل لا شيء غير الحروب العبثية, ومصيري لا يختلف عن مصيرك, أجيالنا تتوارث الموت العبثي تباعاً, لربما دون انقطاع.
كان أحدهم يمسك مسدس بيده على حافة النهر مباشرة, وضع اطلاقة برأس اول رفاقي من المجموعة والقاه في النهر, ثم الثاني والثالث والرابع, رائحة الموت, بحيرة من الدماء, تعثرت أثناء سيري ببقعة الدم المتجلط على الارض وكدت أسقط, يضربني احد الارهابيين من الخلف يمسكني الآخر بيده, تخيلت يد أمي وهي تعلمني سير خطوتي الاولى, كم اشتقت لأمي, وداعاً حبيبتي.
كيف ستغفو عيونكم بعد كل ما فعلتموه اليوم, كيف ستنظفون نفوسكم من كل هذا القتل, تحولتم لوحوش حمراء كاسرة لا تشبع من الدم, كلا أنتم جراثيم مجهرية لا ترى بالعين المجردة وصلتنا من خارج الحدود, أصابت حياتنا بالمرض القاتل المميت.
أحسست بفوهة المسدس الحارة على رأسي, رصاصة ساخنة تخترق المخ, ركلة قوية من الخلف, صوت ارتطامي بالماء, أشم رائحة ماء دجلة العذب وهي تدخل فمي وأنفي, تحولت حمراء, تلوثت بغيمة حمراء من دمي, شعور باللاشعور, ظلام دامس, أحساس بالعدم المطلق.

فراس عبد الحسين








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة الأمير والشاعر بدر بن عبد المحسن عن عمر ناهز الـ 75 عام


.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد




.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش


.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??




.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??