الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البكسل الحائر والصورة الغائبة: الرؤية (1/2)

السيد نصر الدين السيد

2014 / 9 / 28
مواضيع وابحاث سياسية


"سيشهد القرن الواحد والعشرون اضمحلالا في الدور الذي تلعبه وفرة الموارد الطبيعية ونسب رأس المال/العمالة في تحديد المزايا التنافسية وازديادا غير مسبوق في الدور الذي تلعبه التكنولوجيا والمهارات في تحديد تلك المزايا. وهكذا سيحل الإبداع الإنساني محل الطبيعة والتاريخ"
ليستر ثرو (Thurow, 1991)

عن البكسل والتنمية
يقول لنا اهل الاختصاص من خبراء جرافيكيات الكومبيوتر Computer Graphics ان الصور التي يتعاملون معها والمختزنة في ذاكرة الكمبيوتر تتكون من عدد كبير من الوحدات متناهية الصغر التي تعرف الواحدة منها بال "بكسل"Pixel . وتتراص هذه الوحدات جنبا الى جنب لتشكل مجتمعة الصورة الكاملة. ويحدد موقع البكسل طبيعة المعلومات التي يختزنها. فعلى سبيل المثال إذا كانت الصورة لشخص ذو شعر اسود فان كافة البكسلات (جمع بكسل) التي تمثل الشعر تختزن معلومة سواد الشعر ومنطقة هذا السواد. والبكسل منفردا لا يعني الشيء الكثير فهو لا يستمد قيمته الا من علاقته ببقية البكسلات. وهنا تبرز أهمية الصورة التي تمثل الإطار العام الذي ينظم تراص هذه البكسلات جنبا الى جنب وبدونها تفقد الأخيرة أي معنى. ان العلاقة بين "الصورة" ككل و"البكسلات" التي تمثلها تقودنا الى علاقة شبيهة في مجال التنمية هي علاقة "الرؤية" Vision مع "الأفعال التنموية" أيا كان شكلها وسواء كانت انشاء شبكة طرق او استصلاح أراضي او تحسين منظومة التعليم. ف "الرؤية"، مثلها في ذلك مثل "الصورة" التي تنتظم في اطارها كل البكسلات، هي تصور شامل لما ينبغي ان يكون عليه شكل الامة في المستقبل المنظور. فكما ان "البكسل المنفرد" لا قيمة له في غيبة "الصورة الكاملة" التي تضمه، فإن أي "فعل تنموي منفرد" سيكون محدود الأثر في غيبة "الرؤية" الشاملة التي تحتويه. وكما ان "الصورة" قبل "البكسل" في مجال جرافيكيات الكومبيوتر، فإن "الرؤية" قبل "الفعل" في مجال التنمية المستدامة.

هكذا فعلتها كوريا وماليزيا واندونيسيا وغيرها من الأمم الناهضة بل وحتى الأمم المتقدمة. فقبل ان تبدأ هذه الأمم أي فعل تنموي كان عليها صياغة رؤاها التي تحدد تصورها عن المستقبل المأمول. فعلى سبيل المثال ينص بيان رؤية ماليزيا لمستقبلها على "ان تكون ماليزيا، بحلول سنة 2020، امة موحدة ومجتمع واثق من نفسه ذو معنويات مرتفعة وقيم أخلاقية رفيعة، مجتمع ديموقراطي؛ ليبرالي؛ متسامح؛ متحاب؛ تقدمي؛ مزدهر؛ يعلي من شان العدالة الاقتصادية والمساواة، مجتمع يمتلك ويسيطر على اقتصاد ديناميكي؛ متين؛ مرن؛ وقادر على المنافسة". اما بيان رؤية كوريا فهو "ان تكون كوريا بلد متقدم في القرن 21، مع تنمية متوازنة للاقتصاد والمجتمع والبيئة، ورخاء يتمتع به الجيل المعاصر والاجيال القادمة". بينما اقتصر بيان الرؤية الاندونيسي على "ان تصبح إندونيسيا مزدهرة وديموقراطية يسودها العدل".

دراسة حالة
يمر المجتمع المصري بحالة تحول من وضع قديم، فقد أسباب استمراره، الى وضع جديد لم تتضح معالمه بعد. وهنا تبرز أهمية صياغة رؤية مستقبلية لمستقبل الامة المصرية. رؤية تأخذ في اعتبارها ما هو كائن، على كلا من الصعيدين الداخلي والخارجي، وترسم ملامح ما ينبغي ان يكون. وهي بذلك ستشكل الإطار العام الذي يؤكد على تناغم وتكامل كافة الأنشطة التنموية على كافة الأصعدة والمستويات، ويوجهها في الاتجاه المطلوب. ونقطة البداية في صياغة هذه الرؤية هي التعرف على ما يواجهه المجتمع المصري من تحديات. ولعل التحدي الرئيسي، الأكثر عمومية ومصدر بقية التحديات، يتمثل في ندرة في "الموارد الطبيعية والمالية" مع معدل مرتفع لزيادة السكان مصحوبة بتطلعات مشروعة لرفع مستوي الرفاه المادي وغير المادي. وتعني الاستجابة لهذا التحدي ضرورة البحث عن مورد جديد (بديل) يمكن تخليقه! واستخدامه في انتاج القيمة.

وهنا تبرز المعرفة كمورد يمكن تخليقه وتنميته باستمرار لا ينقطع. والمعرفة في هذا السياق تشمل كلا من “المعرفة العلمية" و"المعرفة التكنولوجية". و"المعرفة العلمية" هي المعرفة التي ينشئها استخدام منظومة العلم الحديث في دراسة الظواهر الطبيعية والاجتماعية، ويتم التحقق من دقتها وصحتها عبر المناهج العلمية المختلفة. أما "المعرفة التكنولوجية" فهي المعرفة التي يكتسبها الإنسان أثناء قيامه بتصنيع منتج ما أو تقديمه خدمة بعينها بدءا من مرحلة التصميم وإنتهاءا بمرحلة الإنتاج. وتتمتع المعرفة، كمورد، بخمسة خصائص تميزها عن الموارد الأخرى. الخاصية الأولى هي "إمكانية تخليقها". فنظرية جديدة تفسر ظاهرة ما او الخبرة المكتسبة من عملية تصنيع منتج تكنولوجي مستحدث ليسا الا امثلة لهذه الخاصية. الخاصية الثانية لهذا المورد انه "لا ينقص باستخدامه" فقراءة المعرفة التي يتضمنها كتاب ما او ورقة علمية واستخدامها لن يؤثرا بالنقصان على محتوى الكتاب او الورقة. اما ثالث هذه الخصائص فهي "قابلية هذا المورد للزيادة" فأي تعديل في نظرية ما او إضافة خبرة جديدة للخبرة السابقة يعتبران إضافة لما هو موجود. والخاصية الرابعة هي "قابلية هذ المورد للتحويل" الى أنواع أخرى من الموارد. فعلى سبيل المثال يمكن بيع براءة اختراع منتج ما، او تحويل المحتوى المعرفي الموجود في البراءة الى صورة مالية. وبهذا تكون المعرفة هي المورد الذي يمكن التعويل عليه في ظل ما يعاني منه المجتمع المصري من شح في الموارد الطبيعية والمالية. وآخر هذه الخصائص هي "استمرارية الامتلاك" فهي تظل في حوزة صاحبها حتى بعد بيعها لمستخدم جديد.

الا ان تمام الاستفادة من هذا المورد وتحويله الى منتجات أو خدمات تفيد أفراد المجتمع يتطلب توفر بيئة مجتمعية (بنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية) ملائمة. وهي البيئة التي باتت تعرف بالـ "المجتمع المعرفي" Knowledge Society. وهو المجتمع الذي تعرفه الأمم المتحدة بأنه "ذلك المجتمع الذي يقوم أساساً على نشر المعرفة وإنتاجها وتوظيفها بكفاءة في جميع مجالات النشاط المجتمعي: الاقتصاد، والمجتمع المدني، والسياسة، والحياة الخاصة، وصولاً لترقية الحالة الإنسانية باطراد، أي إقامة التنمية الإنسانية" (برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، 2003، ص 39)". ولهذا المجتمع مجموعة من الخصائص التي تميزه والتي من أبرزها:
-;- التغلغل الكثيف وغير المسبوق للمعرفة العلمية والتكنولوجية في كافة الأمور الحياتية والمؤسسية.
-;- تشكل المعرفة العلمية القوة المحركة لعمليات انتاج السلع والخدمات.
-;- تتوقف مكانة الفرد في المجتمع على ما يملكه من معرفة (Bö-;-hme, 1997).

ولا يكتمل الحديث عن "المجتمع المعرفي" دون الإشارة الى طبيعة الاقتصاد الذي يقوم عليه هذا المجتمع وهو "الاقتصاد القائم على المعرفة" (أو "الاقتصاد المعرفي"). ويتمتع هذا الاقتصاد بالعديد من الخصائص التي تميزه عن الاقتصاديات التقليدية. وأول هذه الخصائص هو ان "المعرفة العلمية والتكنولوجية"، بشتى أشكالها، تشكل المورد الرئيسي لهذا الاقتصاد بوصفها المكون الرئيسي لما ينتجه من سلع مصنعة وما يقدمه من خدمات. فعلى سبيل المثال تشكل العناصر المعرفية، المتمثلة في برمجيات التصميم والتصنيع، 70 % من تكلفة إنتاج أي سيارة جديدة. لذا يحدد المكون المعرفي الداخل في تشكيل سلعة ما أو في تقديم خدمة معينة سعر هذه السلعة أو الخدمة. أما ثاني هذه الخصائص فهو الدور المحوري الذي يلعبه "رأس المال البشرى" Human Capital، المتمثل فيما يحوزه أفراد المجتمع من معرفة، سواء كانت مكتسبة عبر قنوات التعليم والتدريب أو ناتجة عن الممارسة العملية، في خلق القيمة وإنتاج الثروة. وثالث هذه الخصائص هو تقلص تأثير الدور الذي يلعبه الموقع الجغرافي في الأنشطة الاقتصادية التي أصبحت تميل إلى التمركز حول مراكز إنتاج المعرفة كـ "الجامعات ومراكز البحوث". ومما ساعد على عملية التقليص هذه التقدم الهائل في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الذي مكن من إنشاء "أسواق افتراضية" Virtual Marketplaces مثل e-Bay و"مؤسسات افتراضية" مثل Amason.com. وهي أشكال مؤسسية جديدة تمارس أنشطتها من خلال الإنترنت.

ويقودنا العرض السابق لخصائص كلا من المعرفة كمورد، والمجتمع المعرفي كأحدث مراحل تطور المجتمع الإنساني، واقتصاد المعرفة كآلية لإنتاج القيمة الى رؤية مستقبلية للمجتمع المصري كـ "مجتمع معرفي" تمثل المعرفة المورد الرئيسي له. وهي الرؤية التي يمكن صياغتها على الوجه التالي: "ان يكون المجتمع المصري بحلول سنة 2030، مجتمعا معرفيا يعلي من شأن الابتكار وتشكل المعرفة العلمية القوة المحركة لعمليات انتاج السلع والخدمات وتتوقف مكانة الفرد فيه على قدر ما يحوزه من معرفة. مجتمع يمتلك ويسيطر على اقتصاد ديناميكي قائم على المعرفة، ويوفر مستوى رفاه مقبول لأفراده على الصعيد الداخلي، وقادر على المنافسة على الصعيد العالمي". وينبغي التأكيد في هذا السياق ان كلمة "الرفاه" Wellbeing تعني كلا من مكوناته المادية (أو الاقتصادية) ومكوناته المعنوية (أو غير المادية).

وفي المقال القادم سنستكمل الصورة ونعرض تصور لخارطة الطريق نحو إقامة المجتمع المعرفي.

المراجع
Bö-;-hme, G., (1997). The Structures and Prospects of Knowledge Society . Social Sciences Information, 36 (3):447-468.
Thurow, L., (1991). New Tools, New Rules: Playing to Win in the New Economic Game . Prism, 2:101.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. طلاب جامعة أكسفورد البريطانية يواصلون الضغط على جامعتهم لمقا


.. خفر السواحل الجيبوتي يكثف دورياته بمضيق باب المندب




.. وصفته بـ-التطور الشائن-.. وكالة -أونروا- تغلق مجمّع مكاتبها


.. بين مؤيد ومعارض.. مشرعون أمريكيون يعلقون على قرار بايدن بتجم




.. السويد.. مسيرة حاشدة رفضا لمشاركة إسرائيل في مهرجان غنائي في