الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العراق المعاصر حسب كيسنجر: غنيمة الذئاب أم الأفلاطونيين؟

صبحي حديدي

2005 / 8 / 20
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


في مقالة مسهبة بعنوان "دروس من أجل ستراتيجية مخرج"، نشرتها صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية يوم الجمعة الماضي 12/8، وكذلك في حوار دراماتيكي مع قناة الـ CNN في اعقاب نشر المقالة إياها، نطق هنري كيسنجر (وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، والأشهر حتى إشعار آخر ربما) بالحكاية المسكوت عنها، ليس في مختلف دوائر إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش فحسب، بل هنا وهناك في صفوف المراقبين والمحلّلين والشارع الامريكي العريض على حدّ سواء. ذلك المسكوت عنه، المفضوح عملياً منذ البدء، هو التماثلات المتزايدة بين التورّط العسكري الأمريكي في فييتنام، والإحتلال الأمريكي الراهن للعراق، من جهة أولى؛ ومآلات الهزيمة العسكرية هناك، وعواقب استعصاء المخرج الامريكي هنا، من جهة ثانية؛ فضلاً، من جهة ثالثة، عن ذلك الدرس العتيق الكلاسيكي الصائب أبد الدهر: أنّ كسب أية حرب لا يعني كسب سلامها، أو أيّ سلام ربما!
وليست غاية هذه السطور هي استعراض تلك الدروس الكيسنجرية الفييتنامية/العراقية، ليس احتقاراً لها في الواقع (فأفكار الرجل تظلّ ثمينة على الدوام، ذات معنى ومغزى وجدوى، في المستوى الذرائعي على الأقلّ)، بل لأنّ شهادته مطعون بها تماماً: لقد كان أحد مهندسي التورّط في فييتنام، وكان أحد مشعوذي تسمية الهزيمة الأمريكية "عملية سلام". فلندع الجيش الأمريكي يدفن قتلاه، وليأخذ أباطرة مثل دونالد رمسفيلد وكوندوليزا رايس وكارل روف وزلماي خليل زاد وقتهم اللازم الطويل في تبصّر الدروس الكيسنجرية قبيل تقديم أيّ نصح ممكن للرئيس السادر في عناده. ولنضرع، في الإنتظار، من أجل تخفيف عذابات أبناء العراق بمختلف فئاته وأقوامه ومذاهبه، وهم جميعاً ضحايا الإرهابَين: الإحتلال والتطرّف.
ولنتوقف، في المقابل، عند هذه الفقرة الصاعقة التي جاءت في مقالة كيسنجر: "من المؤكد أنّ التاريخ لا يكرّر نفسه بدقّة. فييتنام كانت معركة تخصّ الحرب الباردة؛ وأمّا العراق فهو أحدوثة Episode في الصراع ضدّ الإسلام الجذري. لقد فُهم أنّ تحدّي الحرب الباردة هو البقاء السياسي للأمم ـ الدول المستقلة المتحالفة مع الولايات المتحدة والمحيطة بالإتحاد السوفييتي. لكنّ الحرب في العراق لا تدور حول الشأن الجيو ـ سياسي بقدر ما تدور حول صدام الإيديولوجيات والثقافات والعقائد الدينية. ولأنّ التحدّي الإسلامي بعيد النطاق، فإنّ الحصيلة في العراق سيكون لها من المغزى العميق أكثر ممّا كان لفييتنام. فلو قامت، في بغداد أو في أيّ جزء من العراق، حكومة على شاكلة الطالبان أو دولة أصولية راديكالية، فإنّ موجات الصدمة سوف تتردّد على امتداد العالم المسلم. والقوى الراديكالية في البلدان المسلمة، أو الأقليات المسلمة في البلدان غير المسلمة، سوف تتجاسر في هجماتها على الحكومات القائمة. ولسوف تتعرّض للخطر السلامة والاستقرار الداخلي في كلّ المجتمعات الواقعة ضمن نطاق الإسلام المتحزّب"...
هكذا، إذاً! هل احتلال العراق محض "أحدوثة"، ليس أكثر؟ كنّا، وفق التنظير العقائدي المحافظ (قديمه وجديده) قد اعتقدنا أنها محطة فاصلة كبرى في تارخ الحملات الصليبية الأمريكية، بل والغربية إجمالاً، من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقّ المجتمع الدولي في تعديل أو حتى إغفال أو إسقاط مبدأ "السيادة الوطنية" من أجل الصالح الإنساني العام، إلخ... إلخ...؟
وهل الخشية، كلّ الخشية، هي احتمال قيام "حكومة على شاكلة الطالبان" أو "دولة أصولية راديكالية"؟ مَن الذي سيقيم الحكومة أو الدولة: السيستاني، أم الزرقاوي؟ ألم يكن العراق، ساعة احتلاله، دولة "علمانية" بحسب التوصيف الأمريكي ـ الغربي، وذلك رغم نظام صدّام الإستبدادي الشمولي الفاشي (كما نقول نحن وسوانا، وكما لم تقلْ أمريكا إلا متأخرة جداً)؟ وهل نفهم الآن، متأخرين كثيراً في الواقع، أنّ احتلال العراق لم يكن لتدمير أسلحة الدمار الشامل، ولا إنقاذ العراقيين من نير الدكتاتور، ولا صناعة وإهداء الأمثولة الديمقراطية إلى الجوار والمحيط الشمولي الإستبدادي بأسره، وإنما من أجل... صناعة أحدوثة جديدة في الصراع ضدّ الإسلام الراديكالي؟
التاريخ، حسب بروفيسور التاريخ هنري كيسنجر، لا يكرّر نفسه بدقّة. ولكنّ التاريخ قد يكرّر نفسه بدقّة أقلّ ربما، أو على النحو الذي عبّر عنه كارل ماركس ذات يوم في صياغة لامعة خالدة: مرّة في صيغة مأساة، والأخرى في صيغة مهزلة! الأرجح انها، في ذلك، مهزلة سوداء مريرة لأنها تلهو بمصائر الأوطان وأقدار الشعوب، وتضع الحياة اليومية للبشر الأبرياء في عصف ريح عاتية مميتة من صراع القوّة الاعمى وتناطح القوى العمياء. وليس من فارق كبير في أن يُصنّف هذا التأويل الأحدث لاحتلال العراق في خانة مواقف كيسنجر المهزلة أو كيسنجر المأساة، خصوصاً إذا مارس المرء تلك الرياضة المستحبة في ربط الحاضر بالماضي، أو في أقلّ تقدير عدم فصل الموقف الحاضر عن المواقف الماضية.
هنا لائحة مختصرة عن تلك المواقف:
ـ نصح الدولة العبرية بسحق الإنتفاضة "على نحو وحشيّ وشامل وخاطف"، وهذه كلمات كيسنجر الحرفية التي سرّبها عامداً جوليوس بيرمان الرئيس الأسبق للمنظمات اليهودية الأمريكية؛
ـ الموقف "التشريحي" المأثور من الإحتلال العراقي للكويت، ودعوة الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب إلى تنفيذ ضربات «جراحية» تصيب العمق الحضاري والإجتماعي والإقتصادي للعراق (لبلد والشعب، قبل النظام وآلته العسكرية والسياسية)؛
ـ الدعوة العلنية، المأثورة تماماًُ بدورها، إلى "نزع أسنان العراق دون تدمير قدرته على مقاومة أي غزو خارجي من جانب جيرانه المتلهفين على ذلك، في مقالة مدوّية بعنوان "جدول أعمال ما بعد الحرب"، نشرها بتاريخ 28/1/1991؛
ـ توبيخ فريق رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق القتيل إسحق رابين، لأنّ ماتعاقدوا عليه مع ياسر عرفات في أوسلو ثمّ في البيت الأبيض ليس سوى «أوالية» Mechanism متحرّكة ستفضي عاجلاً أم آجلاً إلى دولة فلسطينية (هي التي يرفضها كيفما جاءت، وأينما قامت، ويستوي لديه أن تتخلق من محض «أوالية» أو تنقلب الى أقلّ من بلدية)؛
ـ سخريته من بعض الفتية الهواة في البيت الأبيض ممّن يخلطون «البزنس» بالأخلاق، والتجارة بحقوق الإنسان (مثال الصين)، ولا يميّزون في حروب التبادل بين العصبوية الأورو ـ أمريكية وشرعةالتقاسم الكوني لسوق شاسعة بقدر ماهي ضيقة (مواثيق الـ «غات» وأخواتها)...
هذه لائحة ذات نفع كبير في قراءة الخلفية الفكرية والجيو ـ سياسية والأخلاقية لما يقوله كيسنجر اليوم عن العراق، ومثلها في النفع تلك "الوصفة" الفريدة لعلاج الكون، والتي اجترحها في كتابه الضخم «دبلوماسية»، 1994. هذا، على الأرجح، هو عصارة فكر "الحكيم الستراتيجي" الذي لا يغيب ظلّه عن ردهات البيت الأبيض أو البنتاغون أو تلة الكابيتول الرمادية الكابية: مقيم ما أقامت البراغماتية والتعاقد السرّي (المفضوح للغاية، مع ذلك) بين توازنات القوّة وانعدام الحدّ الأدنى من الأخلاق، بين العنف والرطانة الليبرالية، وبين الدم والبترول. وهو عصارة بقدر ما هو وصفة وبلسم لمداواة عالم خرج من قمقم الحرب الباردة دون أن يهتدي الى فضاء (فكيف بقمقم!) جديد، وما يتمحور معه من أعراف جديدة وألاعيب (تسمّى «ستراتيجيات» من قبيل التهذيب الذرائعي)، ومسننات صاخبة دوّارة ... دوّارة لأنها لا تتوقف الا إذا توقف السوق، وهيهات للسوق أن تفعل!
مبادىء الوصفة تقوم على التالي:
1 ـ العالم الراهن يقتضي، أكثر من أي وقت مضى، امتلاك المعنى الأشدّ وضوحاً وبروداً ونفياً للعواطف بصدد مضمون وجدوى مفهوم المصلحة الوطنية (والكونية، لأنّ المصلحة الوطنية الأمريكية هي مصلحة البشرية، شاءت تلك البشرية أم أبت)؛
2 ـ ينبغي وضع أكبر قدر ممكن من علامات الإستفهام والريبة، أبد الدهر و دونما تردّد أو تلكؤ، على أي ترتيبات متصلة بالأمن الجماعي، سيما تلك التي ترتكز جوهرياً على ذلك "الإجماع الصوفي الغامض" حول أخلاقية انتفاء القوّة (وبالتالي اللجوء إليها) في مختلف ميادين العلاقات الدولية.
3 ـ لا مناص من ترجيح (ثم صياغة وتطوير) التحالفات الصريحة القائمة على المصلحة المشتركة، وغضّ النظر عن التحالفات المقابلة، تلك التي تحوّل مقولات «السلام» و«الحرّية» إلى شعارات وشعائر زلقة ومطاطة وجوفاء. أعراف «القرية الإنسانية الكونية» ليست قابلة للصرف في سوق مزدحمة شرسة لا ترحم. أعيدوها إلى أفلاطون والأفلاطونيين، وفي الإعادة إفادة وتجنيب لشرّ القتال!
4ـ تأسيساً على ذلك، لا بدّ من إقرار واعتماد الحقيقة القاسية التالية: التنازع، وليس السلام، هو الأقنوم الطبيعي الذي ينظم العلاقات بين الشعوب والقوى والأفراد.
5 ـ «لا يوجد أصدقاء دائمون ولا أعداء دائمون، بل توجد مصالح دائمة فقط». كان اللورد بالمرستون (وزير خارجية بريطانيا بدءاً بثلاثينيات القرن الماضي)، على حقّ حين اجترح هذه العبارة الذهبية. إنه على حقّ اليوم أيضاً، أكثر من أي وقت مضى.
... الأمر الذي يردّنا إلى العراق المعاصر: أين المعنى الأشدّ وضوحاً وبروداً ونفياً للعواطف بصدد مضمون وجدوى مفهوم المصلحة الوطنية الأمريكية، في استمرار الإحتلال الأمريكي للبلد؟ البقاء فيه إلى ما شاء الله، أو حتى يتأكد الحكيم كيسنجر من أنّ أيّ وكلّ احتمالات قيام حكومة طالبانية (بأيّ مذهب: شيع أم سنّي؟)، أو دولة أصولية (أين؟ في الجنوب أم في الشمال أم في الوسط؟)، وريثما يتمّ استئصال "الإسلام الجذري" من جذوره؟
وعلى أيّ ترتيبات "أمن جماعي" في العراق ينبغي أن نضع علامات الإستفهام التي تحثّنا وصفة كيسنجر على استخدامها؟ تلك التي تعيد إحياء نظرية الإحتواء المزدوج، لتصبح اليوم احتواء فردياً وفردانياً لإيران؟ أم تلك التي تحتوي "قوس الإسلام التاريخي"، الذي رأى مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق زبغنيو برجنسكي، أنه "الرحم الخصبة الولاّدة لأعقد مآزق الغرب"؟ أم هي، أيضاً وأساساً وقبلئذ وبعدئذ، أمن إسرائيل وأمن النفط على قدم المساواة والتوافق والاتفاق؟
وأيّ "تحالفات صريحة قائمة على المصلحة المشتركة" ينبغي أن تقيم الولايات المتحدة اليوم، من أجل كسب سلام العراق، وتدبّر ستراتيجة مخرج تنقذ ما يمكن إنقاذه، أو تحفظ ماء الوجه في أقلّ تقدير؟ ولكن... هل من فريق، ما خلا الزرقاوي ربما، يأبى التحالف مع واشنطن في عراق هذه الأيام؟ وبناء على هذا التساؤل، الذي لا مناص من أن يأخذ صيغة الإيجاب والنفي في آن معاً، هل يصحّ، وكيف، نطبّق "الحقيقة القاسية" التي اعتاد كسينجر اعتمادها، في مثال العراق: التنازع، وليس السلام، هو الأقنوم الطبيعي الذي ينظّم العلاقات بين الشعوب والقوى والأفراد؟
أم ـ أخيراً، ولأنه «لا يوجد أصدقاء دائمون ولا أعداء دائمون، بل توجد مصالح دائمة فقط» ـ نترك العراق ينزف ويُستنزَف بأنياب ذئاب من كلّ صنف، أو بحماقات ما هبّ ودبّ من أفلاطونيي آخر زمان؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جهود إيجاد -بديل- لحماس في غزة.. إلى أين وصلت؟| المسائية


.. السباق الرئاسي الأميركي.. تاريخ المناظرات منذ عام 1960




.. مع اشتعال جبهة الشمال.. إلى أين سيصل التصعيد بين حزب الله وإ


.. سرايا القدس: استهداف التمركزات الإسرائيلية في محيط معبر رفح




.. اندلاع حريق قرب قاعدة عوفريت الإسرائيلية في القدس