الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


منزلنا الريفي (60)

عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .

2014 / 10 / 2
الادب والفن


أنتروبوسات مهمشة (1)

الخياطي ...

كانت الأرض جرداء، وكانت الشمس صفراء قاتمة تلوح في السماء، فلم يكن بوسع الخياطي سوى أن يتفاداها، ويهجع تحت ظلال عتيقة هدها الزمان، فلاحت بشائر الذبول على معظم جريدها الأصفر. يعتمر الخياطي طاقية مثقوبة ثقبتها الفئران عندما ترك بعض المأكولات الدسمة عالقة فوقها، وها هي الشمس الآن ترسل أشعتها، فتترك رأسه المكور عرضة لحرارتها اللاسعة، نسي الخياطي كل شيء، بل حتى بهائمه ذات العظام النخرة التي تحولت إلى كائنات عجفاء من جراء الخريف، نسي كل شيء، وراح يستسلم لنوم عميق .
( من أنا ؟ أنا الخياطي، أي خياطي، هل أنا الخياطي ذلك الطفل الصغير الذي يتلقف أعقاب السجائر أم الخياطي هذا الشيخ الذي يسعل بالربو حد الثمالة ؟ أيهما من أنا ؟ هل ضاع أحدهما في الآخر ؟ فمن أكون أنا إذن ؟ بأي حق يضيع الواحد في الآخر ؟ أ ي ي ي ) .
كان الروث قد ملأ المكان، فلم يكن أمامه سوى أن ينام فوقه، النوم في الليل ما عاد يأتيه، والعياء يهد مفاصله، وغطيط زوجته فاطنة يعكر مزاجه، والربو يدمر كيانه، لكن تحت ذلك الروث يقبع ركام من النمل، فهاجمته نملة، فطردت ما بقي من أمل في النوم، وقطعت شهوات الأحلام...
يذكر طفلا صغيرا بملابسه الممزقة، وأسماله البالية، كان لا يبرح الطريق بحثا عن أعقاب السجائر، ففي كل مصة نشوة، وفي كل نشوة تحليق، لكن ها هو ينظر إلى نفسه، فتلوح تلك المصة ضخمة بحجم عضة ملؤها الاختناق والاحمرار والاعتصار كأن الحياة تضيق في كهف عميق ضيق تحده الأشواك . الخياطي كائن متمرد، لا يخاف الموت، فطالما نحن بين ثناياها، آنئذ سنكون قد جربناها وعرفناها، فيتلاشى الخوف منها. إن الموت نهاية الأحاسيس، فكيف يمكن أن نتألم ونحن مجردون من الأحاسيس ؟؟ إن حياتنا تنتهي بموتنا، ولا يمكن لمن مات أن يعود إلى الحياة، أو يعيش حياة ثانية، فأجسادنا النخرة يلتهمها التراب، وبين أحشائه تنمو نباتات، هذا هو قانون الطبيعة، أما أن نتمنى عالما جديدا ملؤه الحياة الرغيدة ليس سوى نتاج لحياتنا البئيسة والفقيرة في هذا العالم، فهؤلاء الذين يحاربون الحياة، ويقتلون أنفسهم بين الصوم والصلاة والركوع ...لن يجدوا سوى عدم سحيق يكتنفه البؤس وتعمره الأشباح.
لا يخاف الخياطي من أحد، حتى السجن لا يخافه، لقد جرب سجن الدولة وسجن الأسرة، فكان يبيت معلقا والسياط تصفعه، ومازال التعذيب محفورا على جسده، ومن ثمة يرى أننا قذفنا في هذا العالم من أجل أن نواجه، فالإنسان هو المواجهة، لقد أوصى زوجته فاطنة أن تضع هراوة غليظة جوار قبره، فيمكنه أن يرد على الأشباح التي قد تهاجمه، فهو لا يؤمن بها، كما أن أحاسيسه ستكون معطلة، لكن يسعى إلى المواجهة، يقول الخياطي أن هذا الشبح أو الملك الذي سيضربه أو سيهاجمه ( أما يجدر به أن يعرف أنني لم أكن مؤمنا ؟؟ فلماذا يسألني إذن عن الشهادة والصلاة...؟؟؟ ولماذا وجدت أصلا ؟؟ وهل استشارني أحد في وجودي أو عدمي ؟ فلماذا أحاسب الآن مع العلم أنني لست مقتنعا ولست مؤمنا ؟؟ أين هي حرية المعتقد ؟؟ أليس من حق كل أحد أن يؤمن على النحو الذي يريد ؟؟ ) .
تغير ظل النخلة، فراح الخياطي يرتدي نعاله، ويجمع ملابسه المهترئة، وانطلق يبحث عن بهائمه، وبين حذافير دماغه كان يقول أنه قذف في هذا العالم، وأن عليه أن يحيا وأن يعيش حرا غير آبه بالمجتمع والدولة، ولكن متى أتيحت له فرصة الثورة ينبغي أن يثور مع الثائرين لتكسير سجن الظلم والتهميش الذي بنته سواعد العهر البورجوازي، فالإنسان إما أن يعيش حرا أو مقيدا، والزواج هو أكبر قيد، فلا يسعك أن تدخل إليه فتكون حرا في تفكيرك وفعلك، ولكن الإنسان الحقيقي هو من يدخل لكي يخرج من أجل أن يدخل، فالمرأة إذا استسلمت لها تجردك من كينونتك وتتركك شبحا يرجع الصدى، أو لباسا تعتمره وقتما تريد، لهذا ينبغي أن تكون داخلا-خارجا .
يذكر الخياطي حكاياته مع زوجته فاطنة، يوم أن مرغ وجهها في التراب، وأطلى خديها بالأزبال، وألعق فمها بالبول ...لقد خرجت دون أن تستشيره، فما كان منه إلا أن ربطها أربعة أيام دون أكل، وفي صباح اليوم الخامس هيأت له الفطور، وذهبت به جوار النخلة، هناك يمكث الخياطي، فيمكنه أن يتناول الفطور بأريحية تامة، وحينما ينتهي، يمكن لفاطنة أن تفطر وتعود إلى حياتها الطبيعية ...
ترتعد فاطنة من الخياطي، تخافه ولكنها تحبه، أليس هو زوجها وسيدها ؟؟ كم مرة هربت عندما أشبعها ضربا ولكنها تعود إلى أحضانه، إنها تتوق إلى قبلاته ومداعباته فوق السرير، وهي لا تفكر في بديل آخر، فمهما قسا الخياطي، ففي قسوته حب جارف ورعشة جنسية كبرى، فالعصا التي يضربها بها تختلط في بعض الأحيان مع القضيب، وفي الألم الناجم عنهما تنبع لذة جنسية جارفة.
لم تتوجه فاطنة إلى القبلة يوما، صلاتها هي الجنس، اكتشفته في ليلة الدخلة، فأصبح هو إلهها، ولهذا تترك الخياطي يمرغها في كل الجهات، ذلك هو السجود مختلطا مع الركوع، فتذوب معه في وحدة عضوية تنتفي فيها الأشباح وتطفو الحياة كأن كل الأصنام ماتت.
بعد جهد جهيد، يعثر الخياطي على البهائم وهي تلتهم الصبار بأشواكه الحادة، فمع الخريف يولد الجوع، فيتساوى الحجر والشجر والبشر، فيصبح الجميع مثل الهياكل المقعقعة التي انتفت فيها علامات الحياة، هكذا ينطلق بها نحو الحظيرة، تستقبله فاطنة، يدخل إلى المنزل، يرتدي جلبابه، ويتوجه نحو الحانوت باحثا عن طفله الصغير الذي كان يتعقب أعقاب السجائر، لكنه الآن يريد ثلاث علب من السجائر دفعة واحدة، يريد أن يحيا لكي يموت، مادامت حياتنا هي موت مؤجل، فلتحل إذن، فأن تكون نباتا خير من أن تكون إنسانا يتألم .

عبد الله عنتار / 01 أكتوبر 2014/ المغرب








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانة شهيرة تتمنى خروج جنازتها من المسرح القومي


.. بايدن عن أدائه الضعيف بالمناظرة: كنت أشعر بالإرهاق من السفر




.. قضية دفع ترامب أموالا لممثلة أفلام إباحية: تأجيل الحكم حتى 1


.. بايدن عن أدائه في المناظرة: كدت أغفو على المسرح بسبب السفر




.. فيلم ولاد رزق 3 يحقق أعلى إيرادات في تاريخ السينما المصرية