الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يا حضرات المثقفين .......رفقا بالتاريخ الحزبي 1

عبد المجيد حمدان

2014 / 10 / 3
مواضيع وابحاث سياسية


على مدار سنوات ، انشغل مفكرون ، سياسيون ومثقفون ، في محاولات تفسير لظاهرتين اكتسحتا عالمنا العربي . تمثلت الأولى في وتيرة صعود عضوية وجماهيرية تنظيمات الإسلام السياسي . وتمثلت الثانية في حالة التمزق التي تطبق على خناق عدد من بلداننا العربية . في الأولى هناك ما يشبه الإجماع على أن السبب يعود لفشل النظم الجمهورية " العلمانية !" في المواجهة مع إسرائيل ، وتواصل نزف الجرح الفلسطيني ، ومع تحديات العصر من جهة ، وتصفية تركة الاستعمار من جهة ثانية . فيما تعزى الثانية لعودة تآمر الاستعمار وخططه لإعادة تطبيق سايكس – بيكو جديدة ، يتم فيها إعادة رسم الخريطة العربية ، بتفتيت دولها إلى دويلات صغيرة وضعيفة ، تسهل مهامه في السيطرة على ثرواتنا العربية ، والنفط في مقدمتها . وفي رأيي المتواضع أن كلا التفسيرين غير دقيق ، ويحملان قدرا من الإهانة للتاريخ ، بتجاوزهما حقائق موضوعية ، بسبب قراءة غير متأنية ، فغير دقيقة ، لتجربة نشوء وتراجع التيارات وتنظيماتها السياسية في عالمنا العربي . كيف ؟
لكي نعطي البحث حقه ، اسمحوا بتقسيمه إلى حلقتين . تخص الأولى مسألة التيارات بتنظيماتها السياسية ، وبضمنها تنظيمات الإسلام السياسي ، فيما تقف الثانية عند موضوعة الاستعمار ومؤامراته ، وحالة التمزق التي تتهدد ، وتعيشها بعض بلداننا العربية .
وعن الأول نقول التالي : جرت العادة أن يتم القفز على تاريخ التنظيمات السياسية ، بتنوعها ، عند البحث عن تفسير لتصاعد وتائر نمو عضوية وجماهيرية تنظيمات الإسلام السياسي . ورأينا كيف أن نتائج هذا القفز ، لا تتوقف عند حدود الإهانة المتعمدة للتجربة التاريخية للتنظيم السياسي الحزبي ، بل تتعداها إلى اعتماد تفسيرات خاطئة ، أو غير كافية . وفي ظني أن العودة لقراءة منهجية لهذا التاريخ كفيلة بأن تضعنا على بداية الطريق الصحيح .
مدخل :
فالحقيقة التاريخية البسيطة ، والتي وصلت أكثرنا عبر المناهج المدرسية ، تقول التالي : دخل العالم العربي القرن العشرين وهو يرسف في قيود ، حالت بينه وبين أي تنظيم لفعل سياسي . سواحل شبه جزيرة العرب ، بدءا من باب المندب ، ومرورا بمضيق هرمز ، وكامل ساحل الخليج ، حتى الأهواز وعبدان ، في عربستان – إيران حاليا – كانت تخضع للاستعمار البريطاني . باقي شبه الجزيرة ومعها الهلال الخصيب – الشام والعراق – كانت جزءا من الخلافة العثمانية . أما إفريقيا العربية فكانت مقسمة بين الاستعمارين ؛ البريطاني – مصر والسودان - ، والفرنسي – تونس ، الجزائر ، المغرب وموريتانيا ، والإيطالي – ليبيا والصومال المقسم بين الثلاثة ، والإسباني – أجزاء من المغرب والصحراء الغربية - . عنى ذلك أن العالم العربي ، بسبب وضعه هذا ، وعوامل أخرى ، كتفشي الجهل والفقر والمرض والأمية ، كان متخلفا كثيرا عن ركب العالم ، وتجاربه في العمل السياسي ، وتنظيماته الحزبية والنقابية ، وحتى جمعياته الخيرية ونواديه الأدبية والفنية .....الخ .
وإذا كان صحيحا أن مصر ، ولظروف خاصة ، شهدت خروجا محدودا على هذه القاعدة ، فالصحيح أيضا أن هذا الخروج لم يصل إلى الحد الذي يمكن القول معه أنه قربها من الركب العالمي . ولكن الصحيح أيضا أنه منحها ميزة دفعت المفكرين لإضفاء ما يحدث فيها على سائر العالم العربي ، رغم مجافاة واقعه – العالم العربي – لذلك . وحركة وعصر التنوير مثال شديد الوضوح والسطوع على ذلك .
أربع تيارات :
ومن البداية ، يتوجب التوضيح أننا ، ونحن نتحدث عن تاريخ تيارات فحركات وتنظيمات العمل السياسي في عالمنا العربي ، فإنما نعني به تاريخ هذه الحركات في مصر ، والسودان معها ، كونهما شكلتا مملكة واحدة ، ثم الهلال الخصيب – الشام والعراق - . إذ نحن نعرف ، وعن يقين ، أن الاستعمار ، إضافة لعوامل التخلف ، أعاقت باقي بلدان العالم العربي ، عن اللحاق بركب العمل السياسي ، وحتى فترة متأخرة . أما عن هذه التيارات فيمكن تصنيفها في أربع تيارات عريضة . 1 ) التيار القومي – بلاد الشام – وهو الأول في الظهور . 2 ) التيار الليبرالي – مصر – . 3 ) التيار الاشتراكي – الشيوعي 4 ) وأخيرا تيار الإسلام السياسي ، بدءا من جماعة الإخوان الوهابية ، مرورا بجماعة الإخوان المسلمين – مصر . والآن تعالوا نستطلع نشأة هذه التيارات واحدا فواحدا .
قرب النهاية :
على مقربة من نهاية الخلافة العثمانية ، نشأت حركة قومية تركية ، تحت مسمى جمعية تركيا الفتاة ، عملت على محاولة انتزاع دولتها من سرير الرجل المريض – التوصيف التي عرفت به الخلافة العثمانية آنذاك - . وبعد بضع سنوات نجحت في اعتلاء سدة الحكم ، وإدخال تعديلات على النظام ، ظنت أنها تكفل له شيئا من المعاصرة ، ومن ثم تنتزعه من سرير المرض ذاك ، مثل تقليص صلاحيات الخليفة ، وتحديث محدود للتعليم ، وإقرار دستور للبلاد .
حذت شخصيات شامية حذو هذه التجربة التركية الجديدة ، وأنشأت جمعية عربية على نفس الغرار ، وأسمتها جمعية العرب الفتاة . وانطلاقا من أن العرب يشكلون أهم مكونات الخلافة ، فقد اقتصر برنامج هذه الجمعية على طلب المساواة بين شعوب مكونات الخلافة ، وتطوير التعليم ، بإدخال تعليم اللغة العربية والتاريخ العربي إلى المناهج ، إضافة إلى مبادئ العلوم الطبيعية والرياضيات . لكن القيادة التركية الجديدة ، قمعت هذه الحركة ، وحركات مشابهة ، بمنتهى القسوة . وكان أن علق والي الشام ، جمال باشا ، الذي اشتهر باسم جمال السفاح ، زعماء الحركة على أعواد المشانق ، في بيروت ودمشق وحلب ، ومدن أخرى .
لكن الهزة التي أحدثتها هذه الحركات ، بدائية التنظيم والفكر ، لم تذهب سدى ، وكانت لها ارتدادات . فالخلافة كانت قد دخلت الحرب العالمية الأولى إلى جانب ألمانيا وحليفاتها . وكان شريف مكة ، الحسين بن علي ، قد راوده حلم عرش مملكة مكونة من الممتلكات العربية للخلافة العثمانية – الهلال الخصيب ، الحجاز ونجد - . وفي الوقت الذي كانت فيه بريطانيا – سيدة العالم آنذاك – تحيك فيه مع حليفتيها فرنسا وروسيا ، مؤامرة اقتسام أراضي الخلافة ، بما فيها تركيا ذاتها ، وفيما عرف بمؤامرة سايكس – بيكو ، كانت نفس بريطانيا تمد يدها للشريف حسين ، موهمة إياه بإمكانية تحقيق حلمه ، في حال مساعدته على تسريع إسقاط دولة الخلافة .
وللحقيقة فقد كان حلم الشريف حسين ، بتلك المملكة العربية الواسعة ، والتي ستمتلك من أسباب القوة الكثير ، في حال قيامها ، باعثا قويا للمشاعر ، فالفكر القومي فيما بعد . كان ذلك على الرغم من أن وعد بلفور بإنشاء وطن لليهود في فلسطين ، قد واكب ذلك الحلم . وأيضا رغم انصياع الشريف حسين وأبنائه ، للضغط البريطاني ، والموافقة على ذلك الوعد . وكما نعرف نكثت بريطانيا عهودها . طبقت سايكس - بيكو ، ثم طردته من الحجاز الذي ألحقته بسلطنة عبد العزيز آل سعود ، وعوضت اثنين من أبنائه بمملكتي العراق والأردن . كما نجحت في تنفيذ وعدها ، وعد بلفور .
وكان من نتيجة تطبيق مؤامرة سايكس - بيكو أن تعثر المشروع القومي العربي فكرا وممارسة . ولم يسترد بعض أنفاسه إلا في نهاية الثلاثينات وأوائل الأربعينات من القرن الماضي – أواخر عهد الانتداب على الهلال الخصيب - . إذ شهدت هذه الفترة نشوء الأحزاب القومية العابرة للقطر الواحد ، كحزب البعث ، والقومي السوري الاجتماعي ، وحركة القوميين العرب . ويلفت الانتباه أن عبور هذه الأحزاب إلى بعض الأقطار العربية – اليمن ، السودان ، الكويت ، تونس ، موريتانيا – جاء متأخرا وضعيفا ، وحيث لم تعبر إلى مصر مثلا .
توقيت مقارب :
وفي توقيت مقارب ، مطلع القرن العشرين ، نجحت المساعي البريطانية في تشكيل أول حلف سياسي ديني في المنطقة العربية . إذ جمعت بين عبد العزيز آل سعود ، الطامح لاستعادة إمارة أجداده في الدرعية ، وبين إخوان الحركة الوهابية ، الطامحين إلى بسط فكرهم على شبه جزيرة العرب . وتمثل سر هذا النجاح في اجتماع الطموحين ، مع سعي بريطانيا العظمى لتقليص الدولة العثمانية ، تمهيدا للقضاء عليها .
ولأن بريطانيا دفعت الأمير ، فالسلطان عبد العزيز ، لتوسيع إمارته بضم الإمارات الخاضعة للولاية العثمانية ، فقد تكفل الإخوان بتسويغ شرعية الضم ، عبر الإفتاء بتكفير الإمارة المستهدفة . وهكذا بدأ الأمير عبد العزيز بمهاجمة آل رشيد في حائل ، فالأحساء ، وصولا إلى الحجاز ذاتها .
في الحجاز كان الشريف حسين ، وقد أضنته المماطلة البريطانية في تنفيذ تعهداتها ، قد أعلن نفسه ملكا على الحجاز . وبسبب ذلك كانت الفتوى الإخوانية بتكفيره ، وتبرير الهجوم على مملكته ، وحيث لحقت بها منطقة عسير ، ولتعلن المملكة العربية السعودية ، والسلطان عبد العزيز ملكا . وكان أن انقلب الإخوان على الملك بسبب خطوته هذه ، فأنزل بهم ضربة ساحقة . وفي النتيجة استقر التحالف على اقتسام النفوذ . السلطة السياسية والمدنية لآل سعود ، والدينية لآل الشيخ محمد بن عبد الوهاب .
ما يعنينا في هذا التقسيم أن الإخوان الوهابيين ، وبعد تمرس في التنظيم والحرب ، وبعد حيازتهم نصف الحكم – التفرد في الشأن الديني – الاجتماعي – ملكوا نفوذا وسلطات غير محدودين . سلطات مكنتهم من لعب دور الحاضنة للتيارات الناشئة ، وليس في الوطن العربي وحده . فإضافة إلى الحرمين ، أمسكوا برقبة الإفتاء فيما يتعلق بسائر شؤون الدين والدنيا . ولأنهم بدأوا بالتكفير ، تكفير استخدام التليفون ، التلغراف ، السيارة ، التدخين ....الخ فقد فرضوا ، وبالقوة الغاشمة ، وبآلاف الضحايا ، فكرهم ، ومنهج تفكيرهم ، على سائر أجزاء المملكة ، ليمدوه فيما بعد بعيدا خارج حدودها .
وبعد تدفق الثروة البترولية ، حازوا على مصادر تمويل هائلة ، مكنتهم من مد وتعزيز نفوذهم إلى مواقع تجمعات المسلمين أينما تواجدوا . وتمويلهم للكتاب الديني ، جعله يحتل الجزء الأكبر من المكتبة العربية . طباعة أنيقة ، ورق مصقول ، وثمن رمزي وضعه خارج أية منافسة . ولم يكن مفاجئا التركيز على الإنتاج الفكري لعصور الظلام الإسلامية ، والتي تمتد لثمانية قرون سابقة على الفكر الوهابي البدوي . هكذا خلت المكتبة الإسلامية ، رغم هيمنتها المطلقة على سوق الفكر العربي ، من أي كتاب يعود لعصر سيادة تيار العقل وحقبة التنوير ، عصر النهضة الإسلامية ، بمفكريها العظام ، والذين اقتصر ذكرهم على مماحكة الغرب ، وسبق الحضارة الإسلامية ، لنظيرتها الغربية . ومن الكتاب إلى الجمعيات والمساجد ، في مشارق الأرض ومغاربها ، فالجامعات والفضائيات وسائر وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة ، ومئات آلاف الدعاة والوعاظ ، في عالمنا العربي .
وفي أواخر عشرينيات القرن الماضي بدأت تنظيمات الإسلام السياسي الحديث في الظهور . الإخوان المسلمون 1928 في البداية ، ثم حزب التحرير ،أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات ، فتفرعاتهما المختلفة فيما بعد .
لقد غدا القفز عن حقائق العصر التي استندت لها تيارات الإسلام السياسي ، منهجا ثابتا لمعالجات ما آلت إليه أوضاع عالمنا العربي ، وفي المقدمة منها هذا الصعود المتواتر للفكر الإسلامي الظلامي . دائما يتم تجاهل حقائق من مثل أن تنظيم الإخوان المسلمين نشأ وتلقى دعما غير محدود ، من الحاضنة السعودية للإخوان الوهابيين . ومثلا لم تستوقف الباحثين حقيقة أن المرشد حسن البنا سعى إلى اللقاء بالملك عبد العزيز وإعلانه خليفة للمسلمين . ومثله ذلك العون غير المحدود في الكتاب والسيطرة على الجمعيات والمساجد فالنقابات .....الخ الخ .
وعلى ذكر الكتاب لم يلفت انتباه الباحثين ، ورغم استناد الكتاب الإسلامي لتراث قرون الظلام ، وإعادة إحيائه ، وتثبيت فكر النقل ، مع الاستبعاد الكامل لتراث فكر العقل ، أن هذا الكتاب لم يواجه ، ولا على أي صعيد ، بفكر تحليلي أو نقدي ، من التيارات المعارضة ، القومية والشيوعية والليبرالية ، الأمر الذي أضفى عليه مصداقية إضافية ، ووضعه ، في نظر القارئ ، في مصاف الحقائق الثابتة ، غير القابلة للنقض ، كما هو الحال مع أي فكر آخر مناهض .
الليبرالية والشيوعية :
وبالنظر إلى تيارات االفكر السياسي الأخرى ، نرى أن التيارين ، الليبرالي والشيوعي – الاشتراكي وصلا بلادنا العربية ، قادمين من أوروبا ، في ذات الفترة تقريبا . وفيما ظهرت التنظيمات الليبرالية في مصر ، أوائل العشرينات ، فإنها قصرت عن لعب دور التنظيم الأم ، لتلك التي نشأت في الهلال الخصيب لاحقا ، ثم في تونس فيما بعد . ويمكن القول أن لا رابط جمع بين هذه التنظيمات ، غير الرابط الفكري ، القائم على التطلع للحاق بالنهضة الأوربية . وإضافة لافتقادها الرابط التنظيمي ، شكل السلوك والقمع والنهب الاستعماري لأوطانها ، أكثر العوامل فعالية في مواجهة توطين أفكارها ، فضعف جماهيريتها ، وفشلها في النهاية .
ورغم أن التنظيمات الشيوعية نشأت بفعل ألق ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى ، ورغم انتشارها ، في أوقات لاحقة ، في غالبية البلدان العربية ، إلا أن عقبات كأداء اعترضت طريق تطورها ونموها . فمعظم البلدان العربية كانت بلا طبقات عاملة ، لأن الصناعة لم تكن قد وصلتها بعد . ولأن الماركسية نظرية علمية ، فإن ضعف التعليم ، ومحدودية حجم الفئة المتعلمة ، كما محدودية معارفها ، ضرب طوقا من الحصار حولها . وإذا ما أخذنا في الاعتبار حالة العداء الشديد ، وسياسات القمع التي انتهجتها النظم الحاكمة تجاه التنظيمات الشيوعية ، وذلك الهجوم الكاسح ، والمتعدد الأوجه على النظرية ، ومن سائر أجنحة التيارات الأخرى ، إضافة إلى مؤسسات النظم الحاكمة ، هذا الهجوم الذي لم يطل فكر تيارات الإسلام السياسي على سبيل المثال ، أمكننا أن نفهم سر انحصارها فيما يوصف بالنخب المثقفة .
على كل حال ، فشلت قيادات الأحزاب الشيوعية ، بسبب طبيعة نشأتها ، وبنيتها التعليمية والفكرية ، فيما عرف بتوطين الماركسية في بلداننا العربية ، تماما كما فشلت التيارات القومية والليبرالية ، في جعل أفكارها ثقافة جماهيرية عامة . وبدون إطالة ، وإثر الزلزال الذي أطاح بالاتحاد السوفييتي ، المهد الذي استقى الشيوعيون فكرهم منه ، وإثر تفكك المنظومة الاشتراكية ، وحركة التحرر الوطني ، خلت الساحة العربية ، وبصورة شبة تامة ، من الفكر القومي ، والشيوعي - الاشتراكي ، والليبرالي ، ليمرح فكر تيارات الإسلامي فيها وحده ، وبدون مناهض أو منازع . ولأن التيارات الثلاثة ، القومية والليبرالية والشيوعية – الاشتراكية ، كانت قد أحجمت عن نقد وتفكيك هذا الفكر الديني ، بدا للجمهور الذي دُفع به إلى الفراغ ، وكأن مقولات الفكر الديني حقائق ثابتة ، لا تنثني أمام عاديات الزمان ، كما حدث لغيرها .
خاتمة :
اعتاد المفكرون والمحللون على عزو تراجع جماهيرية النظم القومية ، وتنظيمات التيارات القومية واللبرالية والشيوعية ، وصعود جماهيرية تنظيمات الإسلام السياسي ، إلى فشل النظم القومية - مصر ، سوريا ، العراق ، ليبيا ، تونس والجزائر بالأساس - بفترات حكمها التي قاربت عقودا ثلاثة ، في مواجهة إسرائيل وتحرير فلسطين من جهة ، كما فشلها في تصفية التركة الاستعمارية ، وتحقيق نهضة اقتصادية اجتماعية لشعوبها من جهة أخرى . ورغم أن هذه الفرضية تحمل بعض الصحة ، إلا أنها تتجاهل حقيقة صارخة في وضوحها وسطوعها من جهة أخرى . حقيقة أن تيارات الإسلام السياسي لم تلوث أيديها في مواجهة إسرائيل والاستعمار ، ولم تتقدم بأي برنامج اجتماعي اقتصادي للنهوض بمجتمعاتها ، يمكن للجماهير محاسبتها عليه .
أكثر من ذلك لعبت تيارات الإسلام السياسي أدوارا هامة في إيصال الحالة العربية إلى ما وصلت إليه . فباستثناء كتيبة المتطوعين في حرب فلسطين ، اختارت الأحزاب الإسلامية التحالف مع النظم المتحالفة مع الاستعمار ، والمواجهة مع النظم القومية ، لاعبة بذلك دورا لا يمكن إغفاله في تثبيت نكبة فلسطين ، وفي تثبيت النفوذ الاستعماري في المنطقة . فالإخوان الوهابيون ، في تقاسمهم للسلطة مع الأسرة الملكية السعودية ، باركوا التحالف السعودي الأمريكي . وتجلت هذه المباركة في عدم رفع ولو إشارة اعتراض واحدة ، ضد القواعد الأمريكية المنتشرة على الأرض السعودية خاصة ، والخليجية عامة . ورغم أن السعودية ، الدولة الأكثر ثراء ، والأوسع نفوذا ، والأكبر مساحة ، أقرب لإسرائيل من العراق والجزائر – يفصلها خليج العقبة 40 كيلو مترا - ، إلا أنها ظلت خارج أية مواجهة تستهدف تحرير فلسطين . ولم يدر في خلد أحد يوما اعتبارها من دول الطوق ، أو من دول المواجهة . وعلى العكس شكل عداؤها لعبد الناصر ، ولحركة التحرر العربي ، أحد أهم عوامل نكبة العام 67 . ولا يغيب عن بال أي باحث مناصبة الإخوان المسلمين ، الوليد البكر للإخوان الوهابيين ، مصر عبد الناصر ، وجزائر بومدين العداء ، وتحالفهم مع النظم التي سلمت فلسطين للعصابات الصهيونية ، وثبتت الوجود الأمريكي في المنطقة .
وإذا كان صحيحا أن حناجر الإخوان بُحَّتْ من رفع الشعارات المنادية بتحرير فلسطين ، فهل يعقل أن لا يرى المفكرون والمحللون ، ذلك الفعل على الأرض – التحالف مع النظم الرجعية – الذي ثبت احتلال إسرائيل لفلسطين ؟! وهل يمكن لما تفعله حماس الآن طمس هذه الحقائق الساطعة كشمس الظهيرة في يوم من أيام شهر تموز وآب ؟
إذن نعود لنقول : لأن التنظيمات ، الحزبية والنقابية وغيرها ، تنشأ بالأساس لاستقطاب الجماهير وتعبئتها ، تمهيدا لوصولها للسلطة ، ولأن فئات واسعة من الجماهير تنحو نحو التعبئة والتنظيم ، فإن خلو الساحة تقريبا ، ومن بداية التسعينات ، من تنظيمات التيارات الليبرالية ، الشيوعية – الاشتراكية والقومية ، أفسح المجال واسعا أمام تنظيمات الإسلام السياسي ، فكان هذا الجهد المحموم في التعبئة والتنظيم ، وهذا الانعطاف الجماهيري الجارف تجاهها . والأمر ببساطة أن فراغا حدث ، فحدثت تعبئة إسلامية لهذا الفراغ . ساعد عليه ذلك الإرث الهائل ، والممتد لعشرة قرون مضت ، سانده ودعمه نظام تعليمي قائم على تغييب العقل تغييبا تاما .
لقد قلت وأعيد القول ، أن الإسلام السياسي يخوض معركته الأخيرة . ومهما بدا من تحقيقه لانتصارات هنا أو هناك ، فإن نهايته الحتمية باتت قريبة . المعركة الجارية ، مهما أضفيت عليها من صفات ، معركة الماضي مع الحاضر والمستقبل . ولأنها لا تخص المنطقة وحدها ، ولأن الحاضر والمستقبل ملك البشرية كلها ، فلا يمكن للقوى التي تحاول جر شعوبها إلى غياهب الماضي إلا أن تخسر ، ولقوى الحاضر والمستقبل إلا أن تنتصر .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تاريخ القرن العشرين
فؤاد النمري ( 2014 / 10 / 3 - 05:24 )
لا يجوز كتابة تاريخ القرن العشرين كما يكتب الكاتب بعيداً عن الثورة الاشتراكية العالمية والتي حكمت كل فعل سياسي في العالم وليس في الشرق الأوسط فقط


2 - استعراض جيد
عتريس المدح ( 2014 / 10 / 3 - 11:57 )
الرفيق العزيز
بداية اسمح لي بالتعبير عن سروري لظهورك من جديد على صفحات الحوار المتمدن، فأنا لم أقرأ لك في افترة الاخيرة ، فعسى أن يكون المانع خيرا
الاستعراض الذي جئت به في الجزء الاول من موضوعك و إن كان واسعا، إلا أنني أرى أنه لم يكن عميقا الى تلك الدرجة التي توضح دور تحالفات الوهابيين والسعوديين والهاشميين مع الحركات الدينية ودور القوى الطبقية في هذا التحالف ودور تحالفهم جميعا مع الاستعمار، رغم أنك أشرت الى ذلك في مواقع مختلفه إلا أن هذه الاشارة كانت مرورا لامس السطح ولم يغوص في العمق، لن أستعجل الامر فلربما يكون هنالك تغطية لهذا الامر في الجزء الثاني
الامر الاخر هو القوى القومية والتي وصلت لسدة الحكم لعبت دورا سلبيا بفرضها لسيادة وجهة نظرها وقمع وجهات النظر الاخرى وخصوصا قمعها للشيوعيين والتقدميين وقمعها للعمل المؤسسي والجماهيري وممارستها اللعبة الديموقراطية و أثر ذلك في ضعف الفكر التقدمي والذي ترك فراغا لتنمية الفكر السائد الديني لدى الجماهير
لربما أكون قد استبقت الامر في انتقادي ، ولربما يكون هذا تسرعا مني قبل قراءة الجزء الثاني من الموضوع، فاغفر لي يا رفيقنا


3 - رد من الكاتب
عبد المجيد حمدان ( 2014 / 10 / 3 - 19:56 )
تحياتي . لم يخطر ببالي وأنا أكتب هذا المقال أن أؤرخ لفترة ما طالت أو قصرت . قصدت استعراض تاريخ مكتوب ، يتجاهله مفكرون ومثقفون وسياسيون في تحليلهم لظاهرة برزت في العقدين الأخيرين ، ظاهرة صعود تيارات الإسلام السياسي على حساب التيارات السياسية الأخرى . نعم أنا لم ألمس تحالفات تيارات الإسلام السياسي بالعمق الذي يشير إليه الرفيق عتريس ، لأن ذلك في رأيي ليست مهمة المقال ، وإنما مهمة الباحث المؤرخ ، وانا لست مؤرخا ولا يمكن أن أدعي ذلك . هل الإشارات التي قدمتها كافية ؟ هذا هو السؤال . إن لم تكن كذلك فيمكن التوضيح من خلال الرد والحوار . وفيما يخص القوى القومية التي وصلت سدة الحكم ، علنا نسأل : من هي ؟ نظام عبد الناصرلم ينبثق من فكر قومي . والمدهش أن مصر ترددت طويلا في تحديد هويتها ، ولم تؤكد عروبتها إلا قبل حرب فلسطين بقليل . والبعثان في سوريا والعراق لم يساعدهما فكرهما القومي على وحدة القطرين وإفساد سايكس بيكو . هل نظام هواري بو مدين نظام قومي ؟ أشك في ذلك . من غير هؤلاء ؟ نعم هذه الأنظمة عادت الديموقراطية والتقدم وقمعت الشيوعيين ، لكنها أيضا قمعت اللبراليين والإسلاميين . كانت قاصرة وسخائمها


4 - حول ظاهرة صعود الإسلام السياسي
عبدالله أبو شرخ ( 2014 / 10 / 3 - 22:42 )
المقال رائع ويشمل عرض تاريخي موجز لا يخلو من الشمولية، ولكن افتراض أن التيارات الليبرالية والشيوعية لم تلوث أيديها وأقلامها بنقد الفكر الديني يحتاج إلى إعادة نظر، فالقوميون مثلا استندوا على الدين في حكم الشعوب، فنظام عبد الناصر قام بتطوير وتوسيع الأزهر، ولهذا فإن القوميين قد أنتجوا في النهاية الإسلام الأكثر تطرفاً مثل البعث العراقي الذي أنتج القاعدة والبعث السوري الذي أنتج داعش والنصرة ونظام عبد الناصر الذي أنتج الإخوان ونظام جبهة التحرير في الجزائر الذي أنتج جبهة الإنقاذ الإسلامي. أما من حيث المواجهة النقدية فليس من الإنصاف تجاهل كتب الليراليين والشيوعيين أمثال هادي العلوي وحسين مروة وفرج فودة وخليل عبد الكريم وسيد القمني ومحمد العشماوي وغيرهم. على أني أتفق مع الرفيق حمدان في أن الكتاب الديني المدعوم بالبترودولار كان خارج المنافسة !


5 - الثورة الاشتراكية
فؤاد النمري ( 2014 / 10 / 4 - 05:48 )
حتى الأسلمة فقد جاءت جراء انهيار الثورة الاشتراكية وقد بدأ منذ العام 1953 ول يتضح إلا في الستينيات ولولا ذلك لما كانت الأسلمة ولما برز على الساحة العربية زعماء عصابات من مثل الهواري والأسد والقذافي .. ألخ وخاصة الأول والثاني اللذان جاءت بهما المخابرات السوفياتية كأعداء للنفس الثوري
انقلب العالم وتغير وما زال العداء الشديد للنفس الثوري سائداً في كل من سوريا والجزائر
كما أن ثورة التحرر الوطني 1946 ـ 1972 إنما كانت من تداعيات انتصار الاتحاد السوفياتي في الحرب وبروزه كأقوى قوة في الأرض
أينما التفت في تاريخ المائة سنة الأخيرة ستجد نقطة البداية هي الثورة الاشتراكية 1917
لا يكتب التاريخ إلا هكذا


6 - رد من الكاتب
عبد المجيد حمدان ( 2014 / 10 / 4 - 19:00 )
يا رفاقي الأعزاء سنوات الخمسينات والستينات والسبعينات شهدت انتصارات هائلة للاشتركية ، ولكن تراجعا لنسختها الستالينية . كسر أنف الإمبريالية في فيتنام وكوبا ونيكاراغوا وقبلهم في كوريا تم في هذه الفترة . نعم كان زخم الاشتركية عاليا ، والشيوعيون لجموا التيارات الدينية . لكن الكارثة وقعت في التسعينات ، وتراجع الفكر الشيوعي والاشتراكي لا يحتاج إلى تدليل . وحين أشرت لعدم مواجهة الكتاب الديني كان في فكري كل المسار حتى التسعينات . نعم كتب من ذكرتم ، وكتبت أنا وكتبي موجودة على الحوار . لكن المواجهة بالكتاب محدودة الأثر قياسا إلى المنابر التي هاجمت الماركسية والديموقراطية وشرائع حقوق الإنسان . في فلسطين كمثال كان محظورا علينا - تابو - مجرد محاورة الفكر الديني . وحين كسرت هذا التابو ثار الرفاق ضدي . ذلك في وقت كانت مئات آلاف منابر المساجد ، والصحافة والفضائيات والإذاعات ووسائل عديدة أخرى لا تتوقف لحظة عن الافتراء على وتشويه الفكر الماركسي والليبرالي وحتى القومي .أما أن المخابرات السوفييتية جاءت بالهواري والأسد والقذافي فهو ما لا أعرفه وأن هذه الأنظمة أنتجت فكرا متخلفا وتنظيمات تكفير فهو صحيح


7 - الثورة الإشتراكية
فؤاد النمري ( 2014 / 10 / 5 - 03:54 )

ما أقوله للرفيق حمدان وهو يتجاهله هو أن كل بحث في السياسة منذ العام 1917 لا بد أن يبدأ بالثورة الإشتراكية وإلا كان عبثاً
فمثلاً سلسلة الاتقلابات العسكرية الرجعية التي حدثت في الستينيات إنما استدعاها تراجع الثورة الاشتراكية بقيادة عصابة خرةشتشوف بخدمة العسكر
الأسلمة هي لذات السبب
إنهيار النظام الرأسمالي في السبعينيات كان بسبب قوة الثورة الاشتراكية وتحقيق هدف لينين الأكبر

ثبت لدي أن انقلاب الهواري بومدين في العام 1964 وانقلاب حافظ الأسد في العام 1970 كانا من تدبير المخابرات السوفياتية وقد انقلبت على الاشتراكية تبعاً لانقلاب 1953 في الاتحاد السوفياتي بقيادة العسكر
الإنقلابان وقعا ضد سلطتين في الجزائر وفي سوريا أعلنتا لشعبيهما أنهما في سبيل انتهاج الاشتراكية العلمية ورغم ذلك كان لزعيمي العصابتين الهواري والأسد حظوة خاصة لدى حكام الكرملين
تم سحق الثورة العربية في حزيران 67 والكرملين لم يحرك ساكناً
أكبر من ينكر أهمية مشروع لينيت في الثورة الاشتراكية هم الشيوعيون ويعتبرونها غلطة وعدّت
وها رفيقنا حمدان يكتب في تاريخ القرن العشرين ولا يذكر الثورة الاشتراكية في أي من أحداث تاريخه


8 - رد من الكاتب
عبد المجيد حمدان ( 2014 / 10 / 6 - 08:28 )
تحياتي يا رفيق فؤاد . من جديد أعاود التأكيد أنني قمت بقراءة تاريخية وليس بالتأريخ . تلك مهمة تفوق قدراتي . حاولت الإجابة عن سؤال يتعلق بأسباب صعود عضوية وجماهيرية تتنظيمات الإسلام السياسي ، وبهذا الشكل الكاسح منذ مطلع التسعينات .ومن غير الصحيح نقل الحوار من العام إلى الخاص ، الخاص الشيوعي الإشتراكي هنا . لا مصلحة للقارئ في جدل داخلي حول تقييم مسار الثورة الإشتراكية ، والانحياز لستالين أو ضده . نعم الثورة الاشتراكية طبعت مسار القرن العشرين بطابعها . نعم كان تأثيرها على مسار حركة العالم هائلا . ولكن في منطقتنا دعنا نتذكر أن الإخوان الوهابيين سيطروا على الجزيرة العربية في عز صعود الثورة الإشتراكية ، وفي عهد ستالين . أشرت لدور الشيوعيين والليبراليين والمصاعب التي واجهوهها ،والإمكانيات التي توفرت للوهابيين ، وتفريخاتهم في العالم العربي . في فلسطين مثلا ، ورغم ضخامة هذه الإمكانيات ، إلا أن نففوذهم بقي محدودا حتى نهاية الثمانينات . حاصرتهم القوى الوطنية على ضعف إمكانياتها ورغم شدة الضربات التي تلقتها من إسرائيل والتعاون بين اإسرائيل والإخوان . لكن الحال انقلب وهذا ما حاولت تعليل بعض أسبابه

اخر الافلام

.. ماذا يحدث عند معبر رفح الآن؟


.. غزة اليوم (7 مايو 2024): أصوات القصف لا تفارق آذان أطفال غزة




.. غزة: تركيا في بحث عن دور أكبر خلال وما بعد الحرب؟


.. الانتخابات الرئاسية في تشاد: عهد جديد أم تمديد لحكم عائلة دي




.. كيف ستبدو معركة رفح.. وهل تختلف عن المعارك السابقة؟