الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ليالي المنسية (رواية) الجزء 28

تحسين كرمياني

2014 / 10 / 6
الادب والفن


15مايس/1981

مع بيان الفجر الأوّل تناهت إلى سمعي أصوات طفولية،أنها الحياة تحت الرصاص،وربما عقلي أضاع وظيفته،موعد إجازتي الدورية تأخرت بمحض رغبتي،كنت أمتلك الدافع،أبقيته سراً،كلما أراد نائب الضابط(حسين)أبن(بغداد)أبن(حي الأمين)أبن(مختار المحلة)أبن(الثالثة والثلاثين)،أن يدرج أسمي ضمن قوائم المجازين،كنت أتعلل بعذر تشكل من غير تفكير في بالي،كنت دائماً أقول أريدها في اليوم الفلاني وفي التاريخ العلاني،لم ينهض فيه السؤال الصحيح كي أعطيه جوابي الصريح،لكنني أبحت بجوابٍ كان مقنعاً،قلت أنني على موعد مع حملة حصاد حقول القمح العائدة لنا في قرية(تل الجن)،لا أحد عرف أنني كنت مفلساً،لم أمتلك نقوداً كي أسافر وأعود،انتظرت مخصصات الصنف كي أتمتع بإجازتي الدورية.
مشيت بين ممرات ترابية،كانت السعفات تميل متقوسة،تشكل معاً قوساً أبدياً،يمتد من بداية الساتر الترابي وحتى جرف شط(العرب)،شعور بالمتعة يتملكني وأنا أمشي،بحثاً عن الحياة في هذا المكان المصادر بالخوف والرصاص،من بين أعمدة النخيل لمحت صبيان وصبايا يمرحون،لا أعرف كيف لمحوني،ربما تواجدهم في هذه الشرانق الخضراء الخانقة،وفرت لهم حدة نظر،وفراسة نادرة في اقتناص غرائب الحركات،ربما يمتلكون حاسة شم قاهرة،تجعلهم يصطادوا رائحة الرغبات المتجولة،من خلل توحشات النخيل وتهدل أغصان الأشجار المتعاشقة،لمحتهم يهربون إلى أعماق معتمة،داعبني ظن،قد يكونوا أطفال متوحشة تركتهم المنازل بعد ترحيلهم،قبل أن أجد رجلاً هرم قبل أوانه،أقترب حافي القدمين،يلم طرف دشداشته المثقوبة وحاشراً إيّاه في حزام جلدي عسكري،حيّاني وهو يشهر منجله بيمينه.
((أنتم الوافدون الجدد))
((جئنا قبل أيّام))
((احترسوا من الخنازير أنها تأتي في الليل))
((رأيت بعضها بالقرب منّا))
((أيّاك أن تطلق النار عليها؟))
((جلبونا لقتل البشر لا لقتل الحيوانات))
((لا تقتلوا البشر؟))
((وهل نسمح لهم بقتلنا؟))
((ليس هذا أعني))
((وهل هناك بشر هنا))
((ليس سوانا))
((جئنا نقتل عدونا))
((ليس هنا عدو))
((نحن غرباء جيء بنا إلى هنا من أجل الدفاع عن بلدنا))
((بلدنا هنا لا يحتاج إلى جنود كي يدافعوا عنه))
((لكن عدونا قال أنه يريد أن يحتل بلدنا))
((لا تصدق كلام الراديو))
صمت.
((تعال معي كي تشاركنا الفطور))
((يجب أن أخبرهم))
((تعال..ستخبرهم فيما بعد))
رافقته وسط دهشة الصبيان والصبايا،كانوا حفاة،أشباه عراة،جاءوا وألتفوا من حولي،اخترقنا أدغال ونخيل مائلة وحشائش مجنونة،دخلت بيتاً،وجدت بضع نساء وفتيات،كنّ متلفعات الوجه بالخمار.
في غرفة مستطيلة،ظلّ الأطفال محتشدين بالباب،تركني الرجل أسقط في حيرة وخوف.
قال طفل:
((عمو..هل جئت تحارب إيران؟))
((كلا..جئت إلى هنا كي تحاربني إيران))..ضجوا بالضحك.
جاءت بنت،وضعت أمامي صينية عليها لبن وقدح شاي وخبز حار،تلاقت عيوننا،وعند عتبة الباب أدارت وجهها،رشقتني بنظرات شبه قاتلة،وبسمة كانت بمثابة بـ طاقة دعوة صريحة،وإعجاب مؤهل لبداية حكاية غزلية مريحة في مستنقع الحرب.
جاء الرجل،جلس،وتشاركنا في تناول الفطور.
قال:
((أخبر جماعتك أن يأتوا ليتناولوا فطورنا))
((هذا كرم أهل الكرم))
((وجودكم خطر علينا))
((أنها الحرب وكلنا نخضع للأوامر))
((الآمر السابق أبعد الجنود عن بيوتنا خوفاً من سقوط القنابل علينا))
((لو كان الأمر بيدي لنقلت دباباتنا إلى مكان بعيد عنكم))
((لا ترموا كي لا يرموكم وتسقط علينا القنابل كما حصل يوم أمس))
((لو طلبوا مني الرمي لن أنفذه بناء لرغبتك))
((لكن أحترس قد يتهموك بالخيانة))
((سأحترس))
صمت.
كانت الفتاة تمرق ما بين لحظة ولحظة من أمام الباب،ترسل بسمة ونظرة،بعد نصف ساعة تحديداً استأذنت وخرجت لدعوة زملائي بناء على دعوته،مشيت مسافة،وجدت الفتاة واقفة على جرف جدول مائي،أمام ركام قدور وأواني،لأوّل مرة أشعر بخجل وخوف،وقفت أنظر إليها،أطرقت بوجهها،لم تفارق البسمة شفتيها،كانت غارقة في بركة الخجل،مسحت الثغرات المتواجدة بين النخيل والممرات،كان الصمت مهيمناً..تحرك لساني:
((ما أسمك؟))
((وداد))
قالتها بسرعة ولوعة ورغبة وضحكة ودودة.
صمت.
تشجعت.
((وأنت ما أسمك))
((حبيب))
صمت.
بدأت تحرك رأسها،خوفاً من ناظر أو مراقب.
((تعال إلى هنا كل يوم))
((أخاف من القنابل))
((لا تخاف،إيران لا ترمينا إذا لم ترمونهم))
((ولماذا أجيء إلى هنا كل يوم؟))
صمت.
تريد أن تعلن عن شيء ضاغط ومسجون،لا تملك الجرأة ولا وسيلة تمرير ما عندها من كلام،ظلّت تكافح وتناضل للتخلص من شبك الخوف.
قلت لها:
((إذا كنت تحبينني سوف أجيء كل يوم إلى هنا))
((تعال كل يوم))
((لا أستطيع))
صمت.
قلت لها:
((إذا أعطيتني قبلة سوف أجيء كل يوم إلى هنا))
رجف بدنها،كانت متحمسة،كانت مترددة..همست:
((أخاف!))
نزلت داخل حفرة مخلفات قذيفة ساقطة،جلست..قلت:
((هنا لا يرانا أحد))
ترددت قبل أن تقترب،مسكتها من يديها،راحت ترتجف وتحاول أن تخرج من مأزق أجبرت نفسها على السقوط فيه،صارت كتلة نار بين أحضاني،تملصت وصعدت إلى الجرف..قالت:
((أذهب من هنا،سوف يأتون))
نهضت ومشيت وأنا أنظر إليها ما بين خطوة وخطوة.
رفض زملائي تلبية دعوة الفطور..قال أحد الجنود:
((كيف وثقت بهم؟))
((ناس بسطاء بقوا هنا بمساندة آمر القاطع))
((ألا تعلم أن بعضهم جواسيس لـ إيران؟))قال(شهاب الخانقيني)
((وجدتهم بسطاء العيش والصفات))
مضت صباحاتي ومساءاتي على وتيرة واحدة،تارة نلتقي وتارة أغرق في أمواج العذاب،تتوقف الساعة،ويغدو الليل أبدياً،عندما لم تتح لنا فرصة اللقاء.
أنّ ما أثلج صدري وأزاح غبار العذاب الذي يسكنني،هو أسمها(وداد)،ليست(وداد)الأمل،هذه الـ(وداد) الجانب النقيض لتلك الـ(وداد)،بدأت العافية ترفل على وجهي،ولساني مزق لجام الصمت،عادت الفاكهة المحرمة لتسكنني،لتطعمني،لم أكن ذلك المتمرس،الفاقد إرادته،كنت كائناً متعاطفاً،حنوناً،لم أجد رغبة لتجاوز الخطوط الحمراء،وجدت القبلات والهمسات ملاذاً ومنقذاً من العزلة والغربة والخوف،كانت تموع بين أحضاني،تشاركني لهفتي،بدأت تتشجع وتبادر قبل أن أجد عطشي يلح،تمد أصابعها،على صدري،تمررها إلى فمي،تصعد إلى رأسي،تلقي برأسها على صدري،في لحظة تسامي،يغدو كل شيء مهيئاً لـ حرب الجسد.
***
((فتاة واحدةتحوَّل جبهة حرب إلى فردوس ضاج بالمسرات/فتاة واحدةيمكنها بسلاح أنوثتها تدمير الحياة/فتاة ناشطة في حقل العاطفة/من أي القارات/يمكنها..تأجيل الموت داخل دهاليز القاذفات/دعهم يقطفون ثمار اللعنات/هيهات..هيهات/ثم/هيهات..هيهات/لا يجلب العدو في ظل الحب تواريخ الممات))
***
((قلبي الموزع بين مقابر بعيدة/يرفض مهادنة الرياح العنيدة/تحت شدو البلابل الغريدة/تحت تناغيات السعفات السعيدة/يستلم كل يوم بريده))
***
((قبلات داخل لفافات طعام/وكدس ضحكات تنحشر داخل قدح لبن أو شاي/أو حفنة كلام/عقاقير فتاة مطببة آلام/..يا سلااااااااااااااااااااااااام))
***
((عندما تكسف الرحلة شمسها/عندما الأصيل يعلن الحداد/عندما يمر يومي من غير(وداد)/ليست تلك التي ذرت بستاني بالرماد/هذه الـ وداد/باقة أوراد))
***
((يوم كسوفها تذبل/أدفن روحي في صمت الجداول/تنوح من حولي رفوف العنادل))
***
((بلسان فصيح/تنوحتصيح/ـ أيها الساقط في حبائل السؤال/لا تحتار/الحب منذ الأزل/بريد الأقدار))
***
((في الليل/في النوم/ستأتيك على بساط الريح/غزالة الحرب/عندها.. تنجلي من فضاء خوفك/سحب الغضب/تتقهقر خطواتي/تخمد آهاتي/فيلفظ القلب/سكاكين العتب))
***
((عندئذ/أوبعدئذ/أوقبلئذ/ألوي عنق رجفاتي/أتوكل على الربِّ/وأمسك/لحظتذ/صحن الدرب))
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ,وينك
ناظم ( 2014 / 10 / 6 - 14:30 )
هسه انت وين متهجر وهاي نتيجة ذيج الايام

اخر الافلام

.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس


.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل




.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة