الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المِذَبّة

ماجد رشيد العويد

2005 / 8 / 21
الادب والفن


لا وجود إلا لي أنا السيد الباقي، سأحطمهم أنا البدء والدوام والحركة، وهذا قصري منيع عظيم، إنه يتلألأ تاجاً من الذهب الخالص.
أنا أُحاكم؟!!
اسحقوهم اقتلوا مليوناً أو مليونين، الجميع إذا ما احتاج الأمر.. البقاء لي والصلاة وأنا المكان والزمان.


*

لحظة لم يحسب لها حساباً.
لحظة ينهار توازنه وما ظنه يقيناً يتدفق في جنبات حياته. هاهي ذي الآلام تنقض ممزقة أزمنة هدوء واه، وهناك في الأعالي، عند عتبات الرؤى القاصرة، تقصفت في لحظة أشجار الصد العنيفة، وتقطعت أسلاك الألوهية، وفسد رصاص الإخافة. صار للزمن أكثر من معنى أنه سيده، والقيم على دقائقه وثوانيه على هذه الرقعة الملونة من الأرض التي امتد إليها البحر وامتدت بدورها في أعماق صحارى الرمال. وهاهي ذي على سطحها تجري زوابع غضب ثوت في الماضي تحت ركام من القهر والإرغام. لم يكن ليتذوق المرارة كما الآن وسط هذه الفجاءة القاتلة الشانقة. فليبكِ أو فلتبتلعه الأرض أفضل ألف مرة من الوقوف في وجه كتلة الذباب المستعرة. هل للدمع أن يخمد الخوف المشتعل في ثناياه؟ وهل يفيده قلقه واضطرابه ورواحه ومجيئه؟ إن الأزمة تشتد من أمامه وخلفه، وعن يمينه وشماله، وليس بمقدوره الاندفاع عبر السقف الذي حُصّن ليوم شدة كالذي يحيا تفاصيله الآن. النار في الخارج تجرف من أمامها كل أكاذيب السنين، وتتهاوى طلول البطولات والأمجاد، تحرق وتطهر وتطفئ حدّة الظمأ الذي التهبت به الشوارع والبيوت والمقابر... والكتب.
المدن تبدو راسية على شاطئ من الترقب الحذر عبر أنفاق من الظلام الدامس. يسبغ عليها الانفعال هالة من التوتر، والنفوس يغالبها فرح تنشج مآقيه دمعة قصاص صامتة. كل هذا لم يغب عن باله، عن خلايا ذهنه التي تتقد عبرها خططُ دحر هؤلاء وتمزيقهم. وتترى أمام ناظريه أمجاده وقد أصابها خواء مرعب.. مناخ بلا هواء، ظلام رهيب وثلوج بداية الكون. طقوس سحر مفزعة وانبثاق براكين ظلت حيناً خامدة، كأن الكون يريد أن يُخلق الآن. كون جديد يولد بأنظمته وتقاسيمه. في قصره يتفجر الصديد، دمّل اللهو بمصائر التراب والنار والماء، ويُمسخ هو دماً فاسداً. تضيق الدنيا من حوله، كل معالم الزمن الفائت تمحى، الآن لا وجود إلا لظل بلا ملامح وكأنه البقية الأخيرة من وجوده الأوحد. وثمة أيضاً تقهقره الرهيب، تقهقره الذي سكن مكتبه وغرفة نومه، وصالة استقباله وأيقونات مجده ومفردات خطبه التاريخية، فليتجول في أنحاء قصره الذي كان منيعاً لكثير من الوقت لا يُخترق حتى من كائن بحجم ذبابة، والذي يُخترق الآن من ذباب اتخذ في مرحلة من الزمن شكل البشر. إن كابوساً لم يقرأ عنه، ولم يعرفه في أبهاء حياته يقضّ عليه وقوفه ومشيه. وعلى مدى عمره الذي استطال ألف عام وتزيد لم يتناه إلى علمه الواسع أن الذباب يهجم وينقض وهو الذي تعود بمِذَبته وبضربة واحدة الإطاحة بالألوف وربما بالملايين. والآن في اللحظة المخيفة التي يحياها يتذكر يوم قصف بمنجنيقه البيت العتيق، ويتذكر أن الرجفة التي سرت آنذاك في دمه لم تكن رد فعل على ما فعل، بل آمن أنها تستحثه على المزيد، فأحرق مدينة أزهر علمها في واحد من أطواره المقدسة، ملقياً بنصوعها وتلألئها إلى هاوية بلا قرار. كيف لهذا الذباب أن يحرق ويجرف كل شيء؟ كيف يكون هذا وبمذبته طوّع ذباب الوجود وأسجده بقرار واحد تناسخ في الأزمنة التي عاشها قوياً صلباً متيناً. ألم تبدأ الأرض منه لتنتهي عنده؟
كان المشهد الممتد بصقيعه وناره، بحنقه وغضبه، يخفي لذة من نوع لا يتكرر كثيراً في الحياة، وإنه ليدرك طبيعة هذه اللذة. لقد استطاع في أطواره المختلفة أن يكبح جماحها لكنها الآن تبدت له لذة شاملة تدفقت من صدور الملايين، لذة جارفة لا سبيل إلى إيقافها، ذلك أنه لم يضطرب في مراحله السابقة اضطرابه الآن، فلعله أضاع مفتاحها في زحمة اختناقه وبكائه وتوتره الذي بلغ أقصى درجاته.. في زحمة تفجره صديداً.
الأنقاض هنا وهناك، وعلى الأرصفة والشوارع والجدران شرائح لحم مدماة، وآليات محطمة ومتاريس مخلوعة وما تناسلته اللات والعزى تدوسه الأرجل وقد حطمته الفؤوس. وساحات المدن الخربة والمتاجر المدمرة بعد ما لحق بها من فوضى. ليس ثمة سوى الحرائق وجنود توزعوا في الأركان الواهنة، وقد تسلل إليهم خور وعلى وجوههم تومض آيات خجلى من التمرد. أين مفتاحه؟ أين يبحث عنه وكيف له أن يبحث عنه قبل أن يهدأ روعه؟ في أحد أزمنته قال لجنده:
ـ احرقوا المدينة حتى أمتع ناظري.
انتشر الحريق في كل الدروب والشعاب، وجر منخراه رائحة الشياط بفرح غامر، غير أن الرائحة الآن تدب في أوصاله، وقد أصابها الزمن المديد في مقتل، تدب في نزعه الأخير، وتدخله في عراك أصم بلا طائل مع موت أخرس لا منجاة منه. قبل أسابيع من راهنه قال:
ـ أريد عرشاً على الجماجم.
الحركة في قصره تخزها الفوضى وثوان النزع الأخير. أيقونات مجده تصدأ، ومن أنصافهم جميعاً ينطلق النشادر ساخناً كريهاً. في الخارج حيث الطوق الخانق والليل المدلهم رقدت الحركة في سكون يقظ.
الآن يبدو له القصر واجماً كحلياً، لم يستفد من اتصالاته. كأن الجميع عنه في شغل. أجهزة التنصت التي تطورت في طوره الأخير الذي ينازع، بللها العرق الذي نزفته وجوه معاونيه المرتعدة، فغدا البحث عن مخرج ضرب محال وقد ضرب البؤس طوقاً من حوله عنيفاً شديداً. بؤس هجم كما اللجة العاتية.
يوم انعقف شعاره قال أنا السيد الأكرم.
وانطلق في الأرض يحرثها لذاته النقية زرعاً يكون ملكه وحده فسحق الملايين في طرفة عين، لكنه ما لبث أن انحصر في مكمنه، ووحده ظل ساعةً ينشد حياة نخرها الجنون لتتغذى الآن وهماً وهلاماً. بالأمس القريب خطب لمجده الذي لا أفول له، وبهمسة لا تصل إلى شفتيه يُترجَم القول فعلاً وحركة. كل شيء يغرق الآن في عماء، وكل شيء يختلط بكل شيء. وحياته الممتدة ألف عام وتزيد تنهشها شعارات الإسقاط والمطالبة بمحاكمته. يكاد يجن وهو يبصر بما تعدد لديه من الوسائل ذباباً يطير نحو، باتجاهه غير آبه بما ينهمر في وجهه من موت كثيف وسريع. ولعله يوقن، وقد تضخمت عيناه من البكاء، أن زمنه قد زال، تفرقع كأن شيئاً لم يكن. وهاهو ذا زمن رحب يقبل لاهثاً ظمآن وقد اكتظت أحشاؤه بالتعب، فأين هو إن لم يكن عند تلك النقطة الفاصلة بين خطين، بين زمنين، يواجه ذباباً اتخذ يوماً ما شكل البشر فاستعر وقام. جسّ بعقله، بذلك الوميض السريع والعابر، نبض النهاية، نبض النزيف الذي لا يتوقف، ومن حيزه المعزول والمدجج بمذبات الحماية انطلقت أوامره الأخيرة التي اصطدمت بأسلاك المتاريس المهدمة..
ـ دمّروا كل ما يقف في طريقكم.
أنا السيد الباقي، سأحطمهم أنا البدء والدوام والبقاء لي والصلاة وأنا المكان والزمان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لقاء خاص مع الفنان حسن الرداد عن الفن والحياة في كلمة أخيرة


.. كلمة أخيرة -درس من نور الشريف لـ حسن الرداد.. وحكاية أول لقا




.. كلمة أخيرة -فادي ابن حسن الرداد غير حياته، ومطلع عين إيمي سم


.. إبراهيم السمان يخوض أولى بطولاته المطلقة بـ فيلم مخ فى التلا




.. VODCAST الميادين | أحمد قعبور - فنان لبناني | 2024-05-07