الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التماعة

ماجد رشيد العويد

2005 / 8 / 22
الادب والفن


كيف أنسى ذلك الألق الذي شعّ ذات ليلة على همسات الضوء الأحمر الشفاف في الزاوية الميتة من الدار المطلّة على البحر.
كانت تلك ليلة ممطرة.
وكنت في زيارة. قرعت الباب، فُتح لي ودخلت. ألقيت التحية. وإذ توزعت نظراتي في المكان، تأججت دهشتي، واشتعل فيّ فرح فتيّ. تساءلت: أيعقل أن تنقلب الصورة الملونة التي التقطت لنا في لحظة سقطت من حساب الزمن إلى كائن حي ماتع الهيئة في عينين زرقاوين وخدين أسيلين وقوام أهيف؟. ظننت أن لن ألقاها، وأن سدّاً من تراكم الأيام والنسيان قد قام بيننا.
-مرحباً
-أهلاً
نسيت من جئت إليهم زائراً، وامتلكتني تلك الالتماعة الفارّة باستمرار من بؤبؤيها الأخاذين. لوتْ نفسي الثائرة لساني، فلم أحسن غير إلقاء التحية إلقاءً رجراجاً، مبعثراً. لم تكن الفلسفة التي تدرسها سبباً في هشاشة لساني وضعف منطقي.. لحظتها جعلني شيء ما أجهله أسير الفوضى، لعـلّه سحرها الفاتن. قبل أن أراها، كنت أفيض منها، وهأنذا تنسرب مني الدهشة. لمّا كانت صورة زاهية الجمال، فاضت عنها نفسي، وكتبت شعراً. وإذ رأيتها تهت في مسارب جمالها، وأغرقتني في ملكوت شفافيتها.
بعد جهد انتزعت الكلمات
-كيف حالك ثناء ؟
وبهدوء تام أجابت:
-بخير وكيف حالك أنت؟
وبعد عسر عسير أجبت:
-الحمد لله.
جلست أفرك أصابعي. كنت أتعرق على غير العادة. وحمدت الله سراً أن الضوء الأحمر الناعس غطّى على ارتباكي. ولما كانت ملامحي المختلجة تضيع في الضوء الخافت، وطّنت النفس على أن أمري في سلام، وشعرت عندها أن النار خمدت في داخلي، وأن نسيماً بارداً داعب جبهتي، فأيقنت بحلول الخلاص.
يجب أن أستغل خفوت الضوء، فأرتجل حديثا ما. ليس مهماً حول ماذا، المهم أن أحاورها فأكون أكثر قرباً منها، وأتخلص مما بقي خافياً من اضطرابي وقلقي وربما خوفي.
قلت سائلاً :
-كيف حال الجامعة؟
-لا بأس .. كعهدك بها.
أجابتني بطريقة أدركت معها أنها تشك في صدق نواياي، وأني لا أريد هذا السؤال بالتحديد. أعادني هذا الإدراك إلى قلقي ورحت أرفع بصري إلى سقف الغرفة. ماذا أفعل؟ لابد من طريقة أعالج بها هذا الموقف الحرج والمفاجئ والصاعق.
قلت لها :
-الدنيا حر
قالت دون استغراب:
-ولكن الفصل شتاء.
-ومع ذلك فالحر شديد.
حللت ربطة العنق. خلعت سترتي. نظرت إليها وإلى تلك الالتماعة وقلت:
-أحس بعطش شديد.
قدمت لي كاس ماء. شربته كيفما كان، فاندلق بعضه على قميصي، ثم مسحت بيدي فمي وقلت:
-غريب أمر هذا الحر رغم الشتاء..
-…
-ألا تشعرين بشيء؟ .
-بماذا؟
-بالحر مثلاً..
وبهدوء رصين أجابتني:
-لا.
بدأت أشعر بمحاصرتها لي، وبتلك الالتماعة تفضح ملامحـي. تعاظم في داخلي الشعور بالأزمة. غير بعيد منا كان البحر.
سألت:
-ما رأيك بالبحر؟
-البحر عالم واسع وجميل
-ما تقولين في ذهابنا إليه؟
-الآن في الليل الماطر، وفي الشتاء؟!!
-ولم لا؟!!
كنت أذهب إلى كلام غير منطقي، ليس غبياً ولكنه غير معقول. نفسي تلتاث من العجز والانفعال فيتلعثم لساني.
فيما مضى قلت لها: إنها أنثى فاضت من السماء ، فخرجت ملاكاً متميزاً يبعثرني الآن ويشلّني. بعد حين وجدت أن أفضل ما أقوم به هو الاستئذان والانصراف.
في الشارع تنفست ببطء وهدوء. مضت دقائق، توازنت خلالها. كان المطر غزيراً، وشدة إحساسي به حثّتني على الاحتماء منه بيدي أغطي بهما رأسي.
لم أكن أصدق أني سألقاها بعد مضي هذه الأعوام. هي، هي ثناء الرخيمة، بكامل لدونتها، وجهاً لوجه وبعد مصادفة، ودون عناء أصافحها، فتنضح اليد رغبة متعالية بها، بروحها، وبرشف رحيق ضحكتها.
حاذيت البحر وأنا على شرودي يمكر بي وتمـكر أفكاري بها، فأتخيلها إلى جواري، نرى معاً تحت المطر الموجات وهي تتدافع، ثم نندفع بدورنا نحوها فيحتوينا خضمّها.
في وسط احتضان الموج لنا سألتها:
-كيف وجدت الفلسفة؟
وآن سألتها هذا السؤال انفلتت مني عائدة إلى الشاطئ، تبكي وتصرخ. ربما كان سؤالي في غير محلّه، وعجبت من نفسي أن أسأل حتى في الحلم مثل هذه الأسئلة. اندفعتُ يسوقني الخجل إلى عمق الموجة أريدها أن تسحبني إلى جوف البحر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لقاء خاص مع الفنان حسن الرداد عن الفن والحياة في كلمة أخيرة


.. كلمة أخيرة -درس من نور الشريف لـ حسن الرداد.. وحكاية أول لقا




.. كلمة أخيرة -فادي ابن حسن الرداد غير حياته، ومطلع عين إيمي سم


.. إبراهيم السمان يخوض أولى بطولاته المطلقة بـ فيلم مخ فى التلا




.. VODCAST الميادين | أحمد قعبور - فنان لبناني | 2024-05-07