الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سرير الجيش.. السرير المحمول

نائل الطوخي

2005 / 8 / 22
الادب والفن


في مركز التدريب يكون السرير معادلا فوريا لرحم الأم. في الأيام الأولي من الجيش يحاول الجندي العودة إلي عائلته التي تركها في الحياة المدنية عن طريق المبالغة في النوم تحديدا, و الأساس: تغطية وجهه بالبطانية فلا يعود يري ما حوله من رمال و جنود. لا يدري الجندي أن هذا السرير بملاءته النظيفة و مرتبته السفنجية الوثيرة سيكون أفخر سرير ينام عليه خلال فترة خدمته العسكرية
ان الملاءة التي يرتبها بكل هذا الحرص (لسببين: أولهما كونه مازال جنديا رخوا يخاف من أية مخالفة لأوامر صف الضباط و ثانيهما لأنه بهذا يرتب رحم أمه.. المكان الوحيد الذي سيمكنه فيه العودة للبيت و هو لا يزال بوحدته, و المكان الوحيد الذي يمكنه فيه تخيل أن أمه أو زوجته ستوقظه من نومه المتعب هذا), هذه الملاءة لن يراها بعد ذلك طوال فترة خدمته العسكرية إلا اثناء تسليم عهدته.. لأنها ستنتقل من سطح سريره و ذاكرته إلي قاع المخلة و الذاكرة.. مثلما ستبرز من قاع المخلة بطانية و ستنتقل إلي سطحها لدي انتقاله إلي وحدته الجديدة, حينها ستكون لكل واحدة من بطاطينه الثلاثة وظيفة مختلفة, و سينتهي دور الملاءة إلي الأبد.
2
لم تكن في وحدتي بالسويس أَسِرٌة بالمعني المتعارف عليه, فهي كانت فقيرة من كل شيء بخلاف الغربان. و حتي و إن كان فأنا كعسكري مستجد (يقال ان العسكري الحاصل علي مؤهل عال, من تحدد فترة خدمته بسنة واحدة فقط, يظل مستجدا حتي نهاية خدمته) كان محكوما علي بأن أقف خدمة (أي نوبة حراسة) لأسابيع متصلة بدون ليلة واحدة أستريح فيها, و مع التطبيق الصارم للأوامر العسكرية, سيكون النوم في محل الخدمة لا في العنابر الدافئة, أي سيكون علي الجندي ابتكار سريره الخاص. و يضاف إلي هذا خلو العنابر من المراتب, و التي كانت حكرا علي العساكر الأقدم. و مع البطاطين الثلاثة التي تسلمتها ستكون المهمة أكثر سهولة بالتأكيد حيث بطانية تؤدي دور السرير و بطانية تؤدي, إذا ما طويت جيدا, دور الوسادة, و بطانية تظل محافظة علي هويتها كبطانية, أي: أغطي بها جسدي. و هكذا تصبح البطاطين سريرا كاملا بل و بيتا إذا شئنا, و خاصة إذا طوي العسكري في ثناياها كيسا صغيرا يضع به أدوات حلاقته و راديو و كتابا صغيرا, و تصبح سرقة البطانية معادلا للتشريد, لهدم البيت و للاقتلاع من الأرض.
3
في الصيف يكون كافيا للإحساس بالدفء أن يتغطي المرء ببطانية واحدة, غير أن الأمر يختلف في الشتاء, و خاصة في صحراء شاسعة يمكن لي أن أري فيها, و لأول مرة في حياتي, الثلج يهطل أمام عيني. حينها سأتنازل عن الوسادة التي كانت بطانية ذات يوم بعيد, و أتغطي ببطانيتين. و لن يكون هذا سوي حل هزيل أثناء النوم لشتاء يتفاقم ذاتيا, أما في صحوي _ و في سهري حتي الساعات الأولي من الصباح أحرس الوطن من البراغيث و الكلاب الضالة ­ فلسوف يكون الوضع أكثر فعالية و لسوف تؤدي البطاطين الثلاثة, أو ما يمكنني تسميته بسريري المحمول, دورها الأكثر خطورة و الأكثر دلالة في آن. بعد أن أرتدي كل ما تسلمته من الملابس الميرية من سترة و زنط و كل الملابس الداخلية الميرية و الملكية, و أضيف إلي هذا البطاطين الثلاثة التي أتلفع بها بحيث تغطي كل أجزاء جسدي بما فيها وجهي و كفي, أنا الجبل المختبئ في كتلة سوداء و المرتكن بذقنه علي سلاحه و يأخذه النعاس في أغلب الأوقات, يحدث شيء ما لافت للانتباه: بطاطيني, و هي ما كانت سريري يوما, هي ما كنت أنام عليها و تئن تحت ثقلي, , أصبحت أنا سريرها اليوم, أصبحت تحط بحملها علي و أئن أنا تحت ثقلها, و مثلما كنت أصحو يوما فأجد نفسي نائما علي الرمال و قد انزاحت البطانية من تحت رجلي, فإنني أنتبه اليوم لأجد بطانية كاملة قد سقطت من علي كتفي. هكذا يتبادل الإنسان و السرير موقعهما الجغرافي, إن علوا أو دنوا. يحدث هذا الانقلاب بموازاة انقلاب آخر: في الجيش يتوهم الإنسان انه يحرس وطنه, بينما توهم من قبل في الحياة المدنية أن وطنه يحرسه, و مثلما سقط من فوق سريره في حياته المدنية و رأي كم أنه منتهك في وطنه/ حارسه التافه, فإن سريره سقط من فوقه في الجيش و رأي كلبا ضالا تسلل عبر سلك هزيل و لم يفعل شيئا لإيقافه, و الأكثر من ذلك: استسلم الجندي لملله و إنسانيته و مضي يداعب الكلب, بدلا من أن يعتبره عدوا أو في أفضل الأحوال متسلل إلي الوحدة العسكرية لا يحفظ كلمة سر الليل.
4
في ليلة تسليمي عهدتي في الجيش نمت علي سرير وثير. لا أدري كيف توفر لي ساعتها, غير أنه في الغالب فإن العساكر الأحدث و من ينتظرون قد وفروه للدفعة الخارجة غدا احتفالا بها, و ترقبا لاحتفال مماثل يقام لهم لدي خروجهم. و لسوف يكون غريبا ان أنام علي سرير وثير كهذا, بينما بطاطيني الثلاثة قد صفت في المخلة بعناية شديدا تمهيدا لتسليمها للصف ضابط في الصباح. كانت في الأمر مفارقة لطيفة. كأنك تري نفسك, فأنت نائم علي سريرك بينما سرير آخر لك, قديم و لم تعد تتذكره إلا بالقرف الذي يستحقه, يرقد بجوارك في المخلة. أو كأن ثم جزاء وفاقا قد كمن في هذا الفعل: سريرك البليد الذي احتملته فوق كتفك طيلة أيام خدمتك سيرقد من الآن فصاعدا في مخزن حقير, بينما السرير الذي احتملك في ليلة فرحك , سيواصل تاريخه كسرير ليلة نهاية الخدمة, أي: سرير احتفائي و منتشي, بحيث سيمكنك قراءة نقوش كثيرة علي مرتبته السفنجية من عينة ¢تلات ساعات يا جيش و نقول علي الجراية عيش¢, أو, و هو الأكثر مفارقة بكثير, ¢تلات ساعات يا قلل و ننام علي السرير أبو مُلَل¢. هكذا, عن طريق العبارة الأخيرة بالتحديد, يسهم السرير الاحتفائي في الغدر بنفسه, في الانتقاص منها عن طريق الحنين إلي كل الأسرة الحقيقية, ذوات الملل, و في تبيان أنه نفسه, و هو أفخر سرير يمكن للعسكري النوم عليه أثناء عام كامل من خدمته العسكرية, مجرد وهم, لا يحلم به إلا من لازالوا يئنون تحت وطأة بطاطينهم الثلاثة علي أكتافهم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أحمد حلمى من مهرجان روتردام للفيلم العربي: سعيد جدا بتكريمي


.. مقابلة فنية | الممثل والمخرج عصام بوخالد: غزة ستقلب العالم |




.. احمد حلمي على العجلة في شوارع روتردام بهولندا قبل تكريمه بمه


.. مراسل الجزيرة هاني الشاعر يرصد التطورات الميدانية في قطاع غز




.. -أنا مع تعدد الزوجات... والقصة مش قصة شرع-... هذا ما قاله ال